- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
الطريق إلى السلام في غزة: خطة مفاوض مخضرم
Also published in "صنداي تايمز"
لكي تكون هناك فرصة للخروج من مأساة الحرب بين إسرائيل و "حماس"، من الضروري بناء جسرين: أحدهما يؤدي إلى الانتقال من الوضع الحالي إلى "اليوم التالي" بعد الحرب، والثاني يتيح طريقاً تتوافر له مقومات البقاء لدولة فلسطينية.
خلال فترة دامت أكثر من ثلاثين عاماً، عملتُ سعياً لتحقيق السلام بين العرب والإسرائيليين، في عهد خمسة رؤساء أمريكيين مختلفين. وقد شهدتُ على إنجازات واتفاقات جزئية وحتى شبه اتفاق في عام 2000، عندما قبلت الحكومة الإسرائيلية والوفد الفلسطيني المفاوض "مقترحات كلينتون"، إلّا أن الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات لم يقبلها. وفي المقابل شهدتُ على إخفاقات، مثل اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحق رابين، وتفجيرات "حماس" الانتحارية للمقاهي والحافلات والمراقص والتي تم توقيتها لعرقلة التقدم الذي كنا نحرزه.
لكن أياً من هذه الإخفاقات لم ينتج واقعاً قاتماً كما هو الحال اليوم. فبالنسبة للإسرائيليين، يشكل السابع من تشرين الأول/أكتوبر صدمة سيستغرق التعافي منها سنوات. فزعزعة أمنهم، إلى جانب خوفهم من أن ما فعلته "حماس" هو ما يؤيده الفلسطينيون وما قد يكررونه إذا أتيحت لهم الفرصة، أدت إلى ترددهم حتماً في النظر في المخاطر التي تتطلبها عملية صنع السلام. ويبدو أن الإسرائيليين، المنهكين من جراء إحساسهم بالخسارة، لا يدركون الخسائر الفلسطينية في غزة - أو ببساطة غير قادرين حتى على التفكير فيها.
وبالنسبة للفلسطينيين، تسبب الموت والدمار في الأشهر الأخيرة صدمة جماعية. فالفلسطينيون يرون أن الإسرائيليين يُلحقون بهم خسائر فادحة، من دون الاهتمام على ما يبدو بالألم الذي يسببونه. كما يرون أن الإسرائيليين يجردونهم من إنسانيتهم ويبررون شراسة هجومهم العسكري بضرورة "هزيمة «حماس»".
وينغمس هذان المجتمعان تماماً كل في صدمته. وبالتالي، لا يبدو أن هذا هو الوقت المناسب للحديث عن إقامة دولتين لشعبين وإنهاء النزاع. ولا يمكن لأي منهما أن يتصور تقديم تنازلات للآخر.
ومع ذلك، قد تنبثق فرصة للخروج من هذه المأساة. فانطلاقاً من محادثاتي مع كبار المسؤولين في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، اتضح لي أنهم مستعدون من جانبهم للاضطلاع بدور في غزة وحتى في الضفة الغربية التي لم يكونوا مستعدين للاضطلاع بدور فيها على الإطلاق من قبل، شرط أن يرتبط ذلك بأفق سياسي أو غاية نهائية سياسية - والنقطة النهاية هي دولتين. ويتشارك المسؤولون في إدارة بايدن، الذين يقومون بزيارات مكثفة عبر الشرق الأوسط، هذا البصيص من الأمل.
وإذا كان من الممكن إقناع القوى الخليجية بوجود خطة تضمن هذه النتيجة، فإنها ستساعد في بناء الجسر في غزة والضفة الغربية للوصول إلى ذلك المستقبل، وفي حالة السعودية، تحقيق السلام مع إسرائيل. إلّا أن هذه القوى لا تريد الاستثمار في عملية جزئية أخرى لا تؤدي إلى أي نتيجة أو تكرر الأحداث التي وقعت منذ انهيار عملية "أوسلو" في تسعينيات القرن الماضي.
جسران للسلام
هل يمكن التوفيق بطريقة ما بين جميع هذه الذهنيات المتضاربة؟ ليس بسهولة. في الواقع، يجب بناء جسرين: أحدهما ينقلنا من الواقع الحالي في غزة إلى واقع اليوم التالي، والآخر يسمح بمعالجة قضية الدولة الفلسطينية بما يلبي الاحتياجات العربية ويعزز شعور إسرائيل بالأمن بدلاً من تقليصه.
ويقتضي الجسر الأول تغيير الواقع في غزة، حتى قبل انتهاء الحرب. ومن دون التخلي عن هدف إنقاذ الرهائن، والذي يجب التوصل إلى اتفاق بشأنه، تحوّل إسرائيل تركيزها من القضاء على "حماس"، التي تعكس فكرة إسلامية متجذرة بعمق في أذهان الكثير من الفلسطينيين، إلى نزع السلاح في غزة. ويعني ذلك تفكيك بنيتها التحتية وقدراتها العسكرية.
وبدوره، يستطيع المجتمع الدولي أن يلتزم بضمان بقاء غزة منزوعة السلاح. ويتطلب ذلك آلية لمراقبة تسليم جميع المواد التي تدخل إلى غزة وتحديد الأماكن التي يتم تخزينها فيها والتأكد من أنه يتم استخدامها للغرض المناسب - وليس لبناء الأنفاق أو التسلح الحربي. وإذا لم تذهب المساعدات إلى المشاريع المتفق عليها، فستتوقف المساعدات. وبعبارة أخرى، توافق الولايات المتحدة، بالعمل مع السعوديين والإماراتيين والمصريين والأوروبيين واليابانيين، على ضرورة أن تضمن أي مقاربة لإعادة الإعمار عدم إعادة تسليح غزة.
وفي عالم مثالي، توضع اللبنات الأساسية لهذا المستقبل على مدى 12 إلى 18 شهراً المقبلة. على سبيل المثال، ستواجه "حماس" صعوبة في السيطرة على غزة بعد أن فقدت تشكيلاتها العسكرية، وقيادتها وسيطرتها، وصناعة الأسلحة الخاصة بها، لا سيما إن لم يتم تنفيذ أي استثمار كبير في غزة. وبما أنه لا يجوز ترك فراغ، من الضروري قيام إدارة مؤقتة. فقبل أن يتم إصلاح "السلطة الفلسطينية" وتصبح قادرة على ممارسة الحكم الرشيد بقيادة رئيس وزراء متمكن وغير ملطخ بتهم الفساد، فلن تتمكن أن تحكم في غزة. ومع ذلك، يجب أن يكون الهدف هو إجراء إصلاحات، والعودة إلى غزة وإعادة توحيدها سياسياً مع الضفة الغربية.
ولإدارة القضايا الملحة مثل المياه والكهرباء والصحة، يمكن إنشاء آلية إنسانية دولية للعمل مع رجال الأعمال الفلسطينيين والهيكلية البيروقراطية القائمة في غزة منذ عهد "السلطة الفلسطينية"، والتي عملت حتى في ظل حكم "حماس". ويمكن لهذه الآلية أن تعالج الاحتياجات الملحة، والتي تشمل توفير المأوى (الكرفانات [البيوت المتنقلة]، والجرارات، والمساكن الجاهزة) لأكثر من مليون فلسطيني تم إجلاؤهم من شمال غزة إلى جنوبها وينبغي السماح لهم بالعودة. والهدف من ذلك هو استعادة بعض وظائف الحياة اليومية في أجزاء من غزة حيث فقدت "حماس" السيطرة، ومن خلال القيام بذلك، الإثبات بأن الحياة يمكن أن تتحسن مع خروج "حماس" من السلطة.
انعدام باب خلفي لـ "حماس"
تتمثل العقبة الرئيسية أمام أي حل دائم بالقناعة السائدة لدى الكثير من الإسرائيليين بأن "حماس" أو جهة رافضة من أمثالها هي التي ستقوم بإدارة أي دولة فلسطينية. ومن الضروري ألا يوفر الحديث عن سلطة فلسطينية جديدة خاضعة للإصلاحات طريقة ملتوية لعودة "حماس" سياسياً إلى السلطة. فإذا دخلت "حماس" إلى السلطة، فستوجه نزعتها العسكرية وتصميمها الحثيث على تنفيذ مهمتها نحو الاستيلاء عليها. ولن يشكل ذلك نعمة لـ"محور المقاومة" الإيراني فحسب، بل سيتناقض مع هدف الدولتين، إذ ترفض "حماس" وجود إسرائيل وفكرة الدولتين. ومن الضروري أن يتم منع ضم "حماس" جزءاً من بناء الجسر الثاني - ذلك الذي يخلق طريقاً تتوافر له مقومات البقاء للدولة الفلسطينية، ويجلب القوى الخليجية إلى الطاولة، من دون إثارة مخاوف إسرائيلية بشأن الشكل الذي قد تبدو عليه تلك الدولة.
الاعتراف بفلسطين
السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل سيساعد الاعتراف بالدولة الفلسطينية قبل ترسيم حدودها على توفير مثل هذا الجسر؟ تتحدث وزارة الخارجية الأمريكية واللورد كاميرون أوف تشيبينغ نورتون، وزير الخارجية البريطاني، بجدية عن اتخاذ مثل هذه الخطوة.
ولن يكون إشراك الإسرائيليين في هذه العملية سهلاً. ففي نهاية قمة "كامب ديفيد" في صيف عام 2000، عندما كنت أحاول إنقاذها، اقترحت على إيهود باراك، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، أن نعترف بالدولة الفلسطينية ولكن نشترط التفاوض على خصائصها (السيادة والحدود) في وقت لاحق. ورفض باراك الفكرة، بحجة أن الفلسطينيين سيتبنون مواقف متطرفة، وأن المجتمع الدولي سينجر حتماً إلى الموقف الافتراضي المتمثل بقبول العودة إلى خطوط الرابع من حزيران/يونيو 1967، والذي من شأنه تعريض إسرائيل لخطر استراتيجي كبير ولا ينص على إجراءات للتعامل مع الكتل الاستيطانية الإسرائيلية في الضفة الغربية.
وكانت مخاوف باراك مشروعة. فإذا رأت الولايات المتحدة أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية يمكن أن يشكل جسراً إلى مستقبل أفضل - بحيث يُظهر لكل من السعودية والفلسطينيين أن تطلعاتهم الوطنية ستتم معالجتها بجدية - يجب أن يقترن هذا الاعتراف بمعالجة المخاوف الإسرائيلية.
الشروط الفلسطينية المسبقة
قد لا تكون معالجة هذه المشكلة المعقدة شاقة كما تبدو، لأنه في واقع الأمر، يجب أن تكون مؤهلات الدولة الفلسطينية أو شروط قيامها واضحة على النحو التالي:
• لا يجوز أن يقود الدولة الفلسطينية أولئك الذين يرفضون وجود إسرائيل وواقع (حل) الدولتين.
• يجب أن تكون خصائصها السيادية متسقة مع الاحتياجات الأمنية الإسرائيلية، التي تتطلب أن تكون الدولة منزوعة
السلاح على الأقل، وألا يُسمح لها بتشكيل تحالفات مع الجهات المعادية لإسرائيل.
• يتعين على قادتها أن يتقبلوا شرعية إسرائيل (وليس مجرد وجودها الفعلي) كوسيلة لتقويض مصداقية أولئك الذين يستمرون في رفض إسرائيل وفي تنفيذ الأعمال الإرهابية ضدها.
• لا يجوز لها أن تستمر في التحريض على العنف ضد إسرائيل ونشر الكراهية ضدها، وهو الأمر الذي لطالما انطبق للأسف على "السلطة الفلسطينية".
• تحتاج إلى مؤسسات ذات مصداقية وحوكمة متينة لضمان ألا تكون دولة فاشلة.
• أخيراً، يجب أن تكون قادرة على إدانة أفعال "حماس" وأعمالها الإرهابية بشكل صريح، وإلا قد يفسر عدم قيامها بذلك على أنه دعم لتلك الأعمال.
التزامات إسرائيل
لا يجوز إلقاء عبء خطة العمل حصرياً على عاتق الفلسطينيين. يتعين على إسرائيل الاعتراف بالتطلعات الوطنية الفلسطينية وقبول الدولة الفلسطينية - مع توفّر الضمانات الصحيحة. وفي ظل المناخ الحالي، سيتطلب ذلك بعض الإقناع.
بالإضافة إلى ذلك، ينبغي لإسرائيل أن تشجع على إصلاح "السلطة الفلسطينية" وتسمح للعمال الفلسطينيين بالدخول مجدداً إلى أراضيها وتسهل عبور الأشخاص والبضائع، بل حتى فتحها السوق الإسرائيلية أمام المنتجات الفلسطينية. ومن شأن كل ذلك أن يحسن الأداء الاقتصادي "للسلطة الفلسطينية" ويُظهر أن الإصلاح يمكن أن يأتي بثماره.
يتعين على إسرائيل وقف النشاط الاستيطاني خارج الكتل القائمة أساساً، بما أن هذا النشاط يهدف إلى منع قيام دولة فلسطينية. كما عليها اتخاذ إجراءات صارمة بحق المستوطنين المتطرفين الذين يهددون الفلسطينيين ويحرمونهم من الأمن. هل يمكن اتخاذ أي من هذه الخطوات في حكومة تضم الوزيرين المتشددين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش؟ كلا، لأنهما لن يبقيا في حكومة تتخذ مثل هذه الإجراءات.
لن يكون من السهل بناء أي من هذين الجسرين، ولكن إذا كانت أي نتيجة ستنبثق من كارثة السابع من تشرين الأول/أكتوبر وما أعقبها، فهي الاعتراف بضرورة تأمين مستقبل مختلف للإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء. فالتصرف كما لو كان الوضع الراهن قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر يمكن أن يستمر سيضمن بالتأكيد إدامة النزاع. ويمكن لبناء هذين الجسرين أن يمنح دول الشرق الأوسط مستقبلاً واعداً ومزدهراً ـ وبمرور الوقت قد يكون قادراً على استعادة الشعور بالأمل لدى الإسرائيليين والفلسطينيين.
دينس روس هو مستشار وزميل "ويليام ديفيدسون" المتميز في معهد واشنطن، وعمل كمفاوض رئيسي في الإدارات الأمريكية الديمقراطية والجمهورية. وتم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع "التايمز".