- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الجسر البري الإيراني ليس كارثة
يسيطر الخوف من أن تكون إيران بصدد بناء جسر يصلها بمنطقة البحر المتوسط كوسيلة لبسط هيمنتها على المنطقة على تفكير الجيش الأمريكي وأفعاله في العراق وسوريا. ومن شأن السماح لهذه الشكوك بأن توجه دفة الإستراتيجية أن يدفع بالولايات المتحدة إلى صراع غير متوقّع قد يستمر لفترة طويلة بعد دحر تنظيم "داعش".
وكانت بدأت هذه التكهنات بعدما استحدثت الميليشيات الشيعية العراقية المدعومة من إيران لنفسها دورًا في الحملة ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" في الموصل، لتواصل بسط سيطرتها على قرى صغيرة في القسم الصحراوي جنوب المدينة وغربها. وقد حققت مكاسب منذ تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي: حاصرت قرية تلعفر التي كانت خاضعة للتنظيم واستولت على مطارها، واحتلت عددًا من المدن والقرى الأخرى الصغيرة في سنجار، وقطعت خطوط "الدولة الإسلامية" غرب الموصل وتقدمت جنوبًا على طول الحدود العراقية-السورية.
وفي ذلك الوقت، أثار تقدّم الميليشيات المدعومة من إيران نحو الخطوط الأمامية الكردية شمال العراق مخاوف القادة الأكراد العراقيين، ظلت "حكومة إقليم كردستان" منهمكة عمومًا في الدفاع عن أراضيها المحاذية. وقد تنامت هذه المخاوف بعد الاستفتاء المثير للجدل الذي أجراه الإقليم على الاستقلال في 25 أيلول/سبتمبر. وخلال الأسبوع الجاري، ازدادت خشية الأكراد مع صدور تقارير مفادها أن القوات الحكومية العراقية والميليشيات الموالية لإيران تتركز حول مدينة كركوك الغنية بالنفط والمتنازع عليها. وبات القادة الأكراد الآن يفكرون أن المواجهة وشيكة. وبالنسبة للأطراف الفاعلة الخارجية، دق تقدم الميليشيات الشيعية العراقية باتجاه الحدود العراقية-السورية من جهة والقوات الموالية للأسد من جهة أخرى، ناقوس الخطر إزاء احتمال إعداد إيران مشروعًا يربطها بساحل البحر المتوسط.
ورغم أنه لم تعمد أي جهة إلى صياغة كيفية نجاح المخطط الإيراني بدقة، يبدو أن الإدارة الأمريكية تفترض أن إيران رسمت خطة سرية. وقد أوردت صحيفة "واشنطن بوست" في 21 حزيران/يونيو أن كبار المسؤولين في البيت الأبيض يعتقدون الآن أن إيران "تركّز على إقامة رابط مع القوات الموالية لها في الجانب الآخر من الحدود [العراقية-السورية] ...لمنعنا من تنفيذ ما رآه قادتنا وواضعو الخطط ضروريًا لإنجاز الحملة ضد تنظيم [الدولة الإسلامية]".
وكان الطرفان يسعيان إلى تأكيد حضورهما العسكري شرق سوريا. وقد أسفر ذلك عن حوادث خطيرة شملت، في أيار/مايو وحزيران/يونيو، قصف الولايات المتحدة لقوافل عسكرية سورية، وإسقاط طائرة حربية سورية وطائرة إيرانية من دون طيار إلى جانب مواجهة إطلاق صواريخ باليستية إيرانية ولو من دون جدوى.
وتشير ردات الفعل العسكرية، أقله لبعض الوقت، إلى أن إستراتيجية الإدارة غير المنجزة بعد لمستقبل سوريا تشمل إبقاء القوات الموالية للأسد خارج شرق سوريا. لكن القول سيكون حتمًا أسهل من الفعل في ما يخص منع دمشق من الحصول على منفذ إلى الحدود.
ومن حيث الاستنتاج المنطقي، قد تؤدي هذه المقاربة وتوسيع أهداف المهمة، إلى جعل القوات الأمريكية تتمركز بشكل دائم شرق سوريا، أو حتى إلى بناء دولة بهدف وضع دويلة سنّية في درب إيران. وقد يؤدي التوجس بفكرة هذا الممر البري المبهم إلى وضع الولايات المتحدة على درب محفوف بالمخاطر يقود إلى أزمة أخرى في الشرق الأوسط.
وفي حين يؤمل أن يكون انعدام الأعمال العدائية بين الولايات المتحدة وإيران في شرق سوريا خلال الأشهر الثلاثة الماضية مؤشرًا على سيادة العقول الهادئة، إلا أن العجز عن التنبؤ بمقررات البيت الأبيض في ظل عهد ترامب قد يساهم في تصعيد آخر طالما أن دوائر السياسة الحذرة تواصل إثارة المخاوف.
وقبل السماح لهذه النظرية بقيادة دفة سياسة الولايات المتحدة، يجب أن نفكر في ما إذا كان ممرًا مماثلًا إلى البحر يحتل سلّم أولويات إيران، لا سيما أن هناك ثلاثة أسباب رئيسية تدعو إلى استبعاد هذا الأمر.
أولًا، ترسل إيران أساسًا مقاتلين وإمدادات إلى سوريا و"حزب الله" بأحجام كبيرة. فتحسين لوجستيات النقل الإيرانية عبر سوريا إلى لبنان ليس بحدّ ذاته حافزًا مقنعًا.
ثانيًا، كان هناك ممر بري بين إيران والبحر المتوسط -- طريق بغداد-دمشق السريع -- منذ 2003 وحتى عام 2013، إلى أن قطعه تنظيم "الدولة الإسلامية". ولم تبدّل هذه الخطوة قواعد اللعبة في ذلك الوقت. فما الذي سيجعلها تخلف أثرًا الآن؟
ثالثًا، سيمتد ممرًا جديدًا على طول مئات الأميال عبر العراق تحت مراقبة الجيش الأمريكي والقبائل السنّية وخلايا "الدولة الإسلامية" النائمة ومتمردين سابقين. ومن المستبعد أن يكون أكثر أمانًا أو أكثر ملاءمة من البدائل الجوية أو البحرية الحالية.
وهناك خمسة تفسيرات محتملة لتحركات فروع إيران. ففي شمال العراق، كانت الميليشيات الشيعية تعمل على ترسيخ حضور قوي يمنع بقايا "الدولة الإسلامية" من التوحد مجددًا. وكانت هذه المنطقة جنوب الموصل مسرحًا لعمليات التنظيم قبل سقوط الموصل في حزيران/يونيو 2014، ما جعل الجماعات العراقية المحبطة التي تكافح للدفاع عن خطوط أنابيب النفط الإستراتيجية القريبة تطلق عليها لقب "تورا بورا". ويجعل إعلان بغداد هذا الأسبوع عن خططها لإصلاح خط أنابيب التصدير إلى تركيا ضمان أمن هذه المنطقة أولوية.
علاوةً على ذلك، قد تعتبر إيران أنه ليس من مصلحتها بناء قاعدة غرب الموصل قريبة من مناطق "حكومة إقليم كردستان" لفرض ضغوطات إضافية على هذه الأخيرة ومنعها من دمج هذه الأراضي في أي دولة كردية مستقلة قد تبرز في المستقبل. وبعد استفتاء الأكراد على الاستقلال، الذي أدانته إيران بشدة، سيتّم على الأرجح تسليط ضوء أكبر على هذا العنصر في ظل سعي طهران إلى منع "حكومة إقليم كردستان" من اتخاذ أي خطوات إضافية باتجاه الانفصال عن العراق.
وكان يجول على الأرجح في خاطر صناع المخططات الإيرانيين والميليشياويين هدفان مضادان لتركيا. فإقامة قاعدة عسكرية غرب الموصل قد تمكّن إيران من دعم أكراد سوريا المجاورين التابعين لـ "حزب العمال الكردستاني" الرازحين تحت وطأة تهديدات خصم الجمهورية الإسلامية، تركيا. وللمفارقة، إنهم الأكراد السوريون نفسهم الذين تعتبرهم الولايات المتحدة حلفاء لها. فضلًا عن ذلك، من شأن إقامة قاعدة إيرانية هناك أن يرسي ثقلًا موازنًا للوجود العسكري التركي في بعشيقة شمال الموصل. وسيسمح لإيران بأن يكون لها رأي في مستقبل الموصل، ربما من أجل منع أي مسعى إلى الاستقلال قد يطلقه رجال سياسة سنّة بدعم من تركيا ودول الخليج العربي.
وقد يصبح هذان الاعتباران أقل أهمية، على الأقل بشكل مؤقت، في وقت تسعى فيه إيران وتركيا إلى العمل بشكل مشترك من أجل معاقبة "حكومة إقليم كردستان" ومنع انفصالها عن العراق. غير أنه لا يمكن تجاهل قيمتهما الإستراتيجية.
أخيرًا، في حال تمكنت إيران من الادعاء أن لها بعض الفضل في مساعدة العراق وسوريا على دحر تنظيم "الدولة الإسلامية" وطالبت بالسيطرة على حدودهما، قد يحسّن ذلك صورتها - وصورة وكلائها - في المنطقة.
ويمكن أن يعتري الولايات المتحدة القلق من أن تكون أفعال إيران تقوي حلفاء طهران وتعمل ضد مصالح حلفاء أمريكا في المنطقة. لكن يجب ألا يغيب عن بال واشنطن أنه حتى لو كانت الجمهورية الإسلامية تهدف إلى بناء جسر بري من إيران إلى سوريا، فإن هذا الجسر كان قائمًا في السابق. وسيكون مصدر إزعاج جغرافيًا يمكن السيطرة عليه ستتعلم الولايات المتحدة كيفية الحدّ منه، ويُستحسن أن يتمّ ذلك من خلال التعاون مع العراقيين في الجانب الآخر من الحدود.