- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
العراق.. الحاجة إلى قوة تغيير
هناك في العراق، اليوم، قوانين تُنفذ وتُطبق من قبل الحكومة الاتحادية، والحكومات المحلية أحياناً؛ وليس من قبل البرلمان الذي يعتبر اعلى مؤسسة سياسية وتشريعية في البلاد. ويتعلق بعض هذه القوانين بالحريات الأساسية للأفراد، فيما يتعلق بعض آخر منها برؤية أيديولوجية. ومن أمثلة تلك القوانين قانون «قدسية كربلاء»، الذي تم إبرامه في فبراير عام 2017 والذي يمنع غير المحجبات من دخول مدينة كربلاء. وفي واقع الحال، يتم فرض الحجاب على النساء في غالبية المدن العراقية دون وجود نص قانوني يسمح بذلك، أي أن الواقع الاجتماعي الذي فرضه الإسلام السياسي أصبح قانوناً، فيما تبقى قوانين مُشرّعة من البرلمان حول ضمان حرية التعبير، حرية الصحافة وحرية المرأة وحمايتها، كيافطات شكلية فقط.
في السنوات الأخيرة، واستنادا إلى القوانين لم تسن من قبل البرلمان إضافة إلى الإجراءات التي اتخذها رئيس الوزراء نوري المالكي في عام 2012، قامت قوى الأمن والشرطة العراقية بمداهمة النوادي الاجتماعية والثقافية، بينها نادي المشرق، الذي يقع في وسط بغداد والذي تملكه مجموعة من المسيحيين. وقد أيد المجلس الأعلى الإسلامي وهو الشريك الرئيسي في الحكم، إجراءات القوات الأمنية بشأن تلك النوادي واعتبرها موقفاً ينطلق من الدستور العراقي.
ونشرت صحيفة (الاتحاد) حينها في عددها الصادر بتاريخ ٩/٩/٢٠١٢، إن رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي التقى علماء دين بارزين في إيران على هامش قمة عدم الانحياز. وأبدى “العلماء” الذين كان يتقدمهم المرجع محمود شاهرودي، امتعاضهم من انتشار نوادي ليلية في بغداد ومدن أخرى.
وفى الثاني والعشرين من تشرين/أكتوبر عام 2016 صوت البرلمان العراقي على قرار منع استيراد وتصنيع وبيع المشروبات الكحولية. وبدا القرار جاهزاً للقراءة والموافقة عليه من قبل غالبية أعضاء البرلمان في الدقائق الأخيرة من جلسة مجلس النواب إذ حدد تاريخ الجلسة ذاتها لتنفيذ القانون الجديد على الفور. يظهر في إقرار قانون منع المشروبات الكحولية، ملمح واضح من ملامح الشكل الذي تريده النخب الشيعية الحاكمة للدولة في العراق. وقد يفتح القانون ذاته، الباب أمام مشاريع قرارات أخرى قد تطرحها الكتل الشيعية في البرلمان للتصويت والإقرار. ولا يستبعد أن يكون قانون إخضاع المحكمة الاتحادية لسلطة رجال الدين أو خبراء الفقه الإسلامي كما جاء في الدستور العراقي هو القادم.
لقد تم إدراج مشروع تغيير البنية الداخلية للمحكمة الاتحادية في جدول أعمال مجلس النواب العراقي عام ٢٠١٣ من قبل الكتل الشيعية بغية إقراره من خلال تصويت عام. وطبقا لنص المادة (٩٢) المتعلقة بدور خبراء الفقه الإسلامي في الدستور العراقي الدائم: “تتكوّن المحكمة الاتحادية العليا من عدد من القضاة وخبراء الفقه الإسلامي وفقهاء القانون، يحدد عددهم وتنظم طريقة اختيارهم وأسلوب عمل المحكمة بقانون يسن بأغلبية أعضاء مجلس النواب”. وفقاً لهذا النص الدستوري، لا ينظر القانون إلى الفقهاء بصفتهم جزءاً من هيئة المحكمة، إنما بصفتهم مستشارين، ويتمثل دورهم بتقديم اﻟﻤﺸورة من دون المـــشاركة في اتخاذ القرارات. ومضمون المشروع هو تغيير صفة خبراء الفقه الاستشارية إلى سلطة قانونية يحق لها نقض أي قرار لا يناسب رؤيتها للدولة والمجتمع. إنها اختصارا، “سلطة الفقيه”.
يمكن الإشارة في السياق ذاته، إلى محاولات عودة الكتل الشيعية في البرلمان إلى مشروع قرار نائم في أدراج الفقهاء، وهو "القانون الجعفري"، والذي يمثل قانون الشريعة بالنسبة للشيعة. وعندما أعلنت وزارة العدل عن هذا القانون وجعلت منه عنواناً للاحتفال بعيد المرأة العالمي يوم ٨/٣/٢٠١٤، أعلن وزير العدل حسن حلبوص حمزة الشمري في تلك الاحتفالية أن “قانون الأحوال الشخصية الجعفري جاء لإنصاف المرأة، وأعطاها امتيازات غير مسبوقة بخفض سن البلوغ والميراث إلى التاسعة واعتبارها الوريث الشرعي الوحيد لأبيها إذا توفي. جاء لرفع الحيف والظلم الذي وقع على المرأة طيلة العقود الماضية جراء القوانين الوضعية والتقاليد الاجتماعية المتخلّفة”.
ويبيح القانون الجعفري ويشجّع زواج الفتاة في سن التاسعة. كما أنه يمنع الزواج المدني بين الطوائف، أو يعرقله في أحسن الأحوال ويجعله مؤقتًا. ويعتمد المشرعون لتطبيق القانون الجعفري على المادة ٤١ في الدستور العراقي لعام ٢٠٠٥ مفاده: "العراقيون أحرار في الالتزام بأحوالهم الشخصية حسب دياناتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم وينظم ذلك بقانون”.
إن هذه المادة الدستورية في صيغتها الحالية، تترك المسائل المتعلقة بالأحوال الشخصية إلى رجال الدين، ذلك أن القاضي يصبح مجتهداً للنص الدستوري وليس سلطة قانونية. تالياً، إن القانون الجعفري يترك المواطن في حيرة من أمره إذ يضعه أمام اللجوء إلى محاكم تخضع لمرجعيات مذهبية مختلفة، أي أنه يلجأ إلى رجال الدين قبل المحاكم.
من شأن القانون الجعفري، في حال تمريره والموافقة عليه من قبل البرلمان، حث المذاهب الدينية في العراق على تشريع قوانين خاصة بها، وخلق فوضى في القوانين والتشريع، وتقسيم المجتمع العراقي بالتالي إلى دويلات طائفية متناحرة. وفي السياق التاريخي لهذا القانون المتعلق بالأحوال الشخصية، تجدر الإشارة إلى أن القانون المدني الأول في العراق، صدر عام ١٩٥٩ وحمل الرقم (١٨٨)، حيث أُعتبر متقدماً في حينه، ذلك أنه عالج حقوق الرجل والمرأة والزواج والإرث وقضايا أخرى وفقاً لمرجع قانوني واحد. واستلهم المشرعون العراقيون في القانون المدني الأول من مدرسة الإمام أبو حنيفة النعمان، ومذهب الإمام أبو جعفر الصادق. وتضمن القانون مبادئ من مذاهب أخرى وأخضع جميع المسلمين في العراق إلى معايير فيما خص الأسرة والزواج. كما ساوى القانون ذاته بين المرأة والرجل إذ حدد عمر الزواج بثمانية عشرة سنة.
إن العراق من خلال هذه القوانين الدينية التي تم إقرار بعض منها، وينتظر بعضها الآخر الوقت المناسب للمناقشة والإقرار، هو نموذج وفق مقاسات نخبة حاكمة تقيس السياسات وفق مصالح طائفة معينة دون الاعتبار للمصالح الدينية والثقافية والاجتماعية للطوائف والديانات الأخرى التي تميزت بها البلاد في تاريخها القديم والحديث.
يجدر الذكر بأن كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية كرّسا منذ ٢٠٠٤ جهود كبيرة في المال والاستشارة والخبرة من أجل إصلاح النظام القانوني العراقي بما فيها إصلاح المحاكم الاتحادية والابتدائية وحماية حقوق الإنسان وحقوق الأقليات الدينية والعرقية. وقد عملت المفوضية الأوروبية وفق بنود اتفاقات ثنائية تم توقيعها مع الحكومة العراقية عام ٢٠١٠، ومع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع بهدف تعزيز حقوق الإنسان وسيادة القانون كأولويات الحكومة العراقية في سياستها القضائية، فيها، الحريات الأساسية وحقوق المرأة فيما خص الأحوال الشخصية والمدنية وحقوق الأقليات.
لقد بدا التراجع في مشاريع الإصلاح القضائي لصالح توجه سياسي يلوح ببناء “دولة مذهبية” أقوى من طموح العراقيين ببناء دولة مدنية تحمي مصالح الجميع. هناك أيضا مسؤوليات كبيرة أمام العراقيين، الشباب منهم تحديداً، لمعارضة النظام الحالي أو القادم من رحم آيديولوجيات مذهبية-دينية، وذلك من أجل مستقبل يليق بجميع المواطنين إذ يلعب النظام القضائي الدور الرئيس في تشكله ورسم ملامحه. ويمكن القول بأن ظهور قوى اجتماعية وسياسية معارضة للتوجهات الحالية في البرلمان وخارجه من ضرورات المشهد السياسي العراقي الراهن، ذلك أن الأحزاب الدينية التي تحاول فرض وصايتها الآيديولوجية تريد تحجيم دور القضاء.
على الرغم من وجود حركات احتجاجية مستمرة في بغداد ضد نظام الحكم، ويشارك فيها الآلاف من الشباب والمثقفين والنقابيين والنساء؛ إلا أن المشكلة تكمن في فصام كبير بين النخب الحاكمة والقابعة في المنطقة الخضراء وبين المحتجين في ساحة التحرير، وذلك بسبب “الغيتوهات” السياسية التي بناها الساسة الطائفيين مستخدمين المال العام. كما يمكن الإشارة في ذات الشأن، بأن الحراك المدني العراقي في بغداد لا يخلو من نفوذ رجال دين قد تتغير مواقعهم ومواقفهم السياسية في أية لحظة تقتضي مصالحهم أن يديروا ظهورهم للمتظاهرين.
لا بد من القول بأن مجلس النواب لا يخلو من أصوات معارضة للتوجهات التي تم ذكرها في هذا المقال، ومع ذلك، تبقى احتمالات صفقات المصلحة الذاتية بين الكتل الكبيرة في البرلمان عالية، وهو ما يمثل التحدي الأكبر أمام القوى البرلمانية المعارضة. وعلاوة على ذلك، لم تنتج الأحزاب والحركات المعارضة أي تغيير حقيقي نظرا لافتقادهم أجندة إصلاحية واضحة. ومن ثم، فان محاربة الفساد دون إصلاح النظام القضائي وتطبيق القانون لا تتجاوز شعارات ترددها حتى النخبة الحاكمة.
قصارى الكلام، العراق بحاجة إلى قوة ضغط شعبي أقوى وأكثر تماسكا من أجل الوصول إلى تغيير حقيقي هدفه إزالة تلك (الغيتوهات) الطائفية، وإزاحة الفصام بين المجتمع والسياسة، واجتياز النموذج الذي قدمه عراق بعد ٢٠٠٣، وإخراج النواب من المنطقة الخضراء إلى الفضاءات العامة، والا سيتحول البرلمان قسراً إلى مكان لصفقات الساعة وشرعنة ما لا يحق شرعنته.