- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
قانون الجمعيات الأهلية في مصر
في نهاية نوفمبر الماضي وافق البرلمان المصري على قانون "الجمعيات الأهلية" الجديد ليبث قلقا في نفوس المهتمين بالشأن المصري بشكل عام. ويأتي هذا القانون كخطوة أولى للإجهاز على المنظمات الحقوقية في مصر.
وبالإضافة إلى استهداف هذا القانون العاملين في المنظمات الحقوقية، فأنه سيخل حرفيا بالتركيبة الاجتماعية المصرية. فالقانون لم يوجه ضربته للمنظمات الحقوقية فحسب بل طال كل قطاع المنظمات الأهلية منها المنظمات التنموية والخدمية التي تقع تحت مظلته. ووفقا للأرقام الرسمية يوجد أكثر من 46الف منظمة أهلية، عدد المنظمات المشتغل بقضايا حقوقية لا يتجاوز بأي حال 25 منظمة أما باقي المنظمات فتعمل في مجالات الصحة والتعليم والخدمات المجتمعية.
ويمكن القول أنه في حال تصديق رئيس الجمهورية على القانون، سيعتبر القانون بمثابة رصاصة الرحمة التي ستقضي نهائيا على المنظمات الأهلية والمجتمع المدني في مصر. كما أن تغليظ أي مخالفة إدارية في القانون الجديد لتصبح السجن بدلاً من الغرامة المالية في القانون الحالي، ستجعل أي موظف في هذا المجال مهدد دائما بالسجن حال ارتكابه أي خطأ إداري. ولم يكتف القانون الجديد بذلك بل قرر أن أي جمعية تغير مقرها دون الحصول على موافقة رسمية سيتعرض مديرها لعقوبة السجن التي تتراوح ما بين سنة إلى خمس سنوات، فضلا عن غرامة تصل إلى نصف مليون جنيه، وهو ما يعادل خمسة وخمسين ألف دولار أمريكي. كما أن “معاونة أي منظمات أجنبية لممارسة نشاط أهلي في مصر أو إجراء أبحاث ميدانية دون الحصول على تصريح"، سيعرض المنظمة المعنية لذات العقوبة.
ولم يكتف القانون الجديد بتكبيل الجمعيات بكل تلك القوانين، بل سيجفف أيضا منابع التمويل حتى لو داخليا بنصه على أنه لا يجوز قبول تبرعات نقدية تزيد قيمتها على عشرة آلاف جنيه إلا بموجب شيك بنكي، وهو ما يعد شرط تعجيزي في دولة لا يتعامل أهلها بالشيكات مطلقا. كما نص القانون على انه في حالة جمع التبرعات من داخل مصر "يشترط الحصول على موافقة رسمية قبل الجمع بثلاثين يوم عمل. وعليه فإن حدثت كارثة طبيعية وقررت جمعية أهلية جمع تبرعات لمساعدة المنكوبين أصبح عليهم اليوم الانتظار شهر كامل قبل التحرك هذا حال حصولهم على الموافقة أصلا.
باختصار أصبحت أنشطة الجمعيات مقترنة بموافقة الدولة، وهنا قرر المشرع تكوين جهاز جديد لمباشرة تلك العملية باسم "الجهاز القومي لتنظيم عمل المنظمات الأجنبية غير الحكومية". وعلى الرغم من كون هذا الجهاز بمثابة جهاز معاون للمجتمع المدني، إلا انه سيضم ممثلين من: وزارة الدفاع، الداخلية، الخارجية، العدل، المخابرات العامة، الرقابة ألإدارية، التعاون الدولي، وحدة غسيل الأموا.. ومن المدهش أن الجهاز المنوط به التعامل مع الجمعيات الأهلية لم يضم ممثل واحد للمجتمع المدني.
اللافت للنظر هنا - كما ذكر ناصر أمين المحامي الحقوقي البارز ورئيس المركز العربي لاستقلال القضاة والمحاماة- أن القانون الجديد يخالف تماما النص الدستوري الخاص بتشكيل الجمعيات بالإخطار في مصر، ولم يراعي أيضا أحكام المحكمة الدستورية المصرية بشأن الحرص الدائم في أحكامها على عدم التدخل في شؤون الجمعيات الأهلية، سواء فيما يتعلق بحل الجمعية أو اختيار الأنشطة وحتى اختيار مجال الإدارات. كما يأتي القانون أيضا مخالفا للعديد من المواثيق الدولية التي تلتزم بها مصر، مثل العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وإعلان حماية المدافعين عن حقوق الإنسان، واللذان ينصان صراحة على حق هذه المنظمات أن تعمل بحرية وان تختار الأشكال القانونية التي ستعمل من خلالها.
ويأتي القانون الجديد تتويجا للصراع الدائر بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني، وهو الصراع الذي بدأ في أعقاب ثورة يناير أثناء حكم "المجلس العسكري" لمصر. وقد وجهت أول ضربة لهذا القطاع في عهد المجلس العسكري في 2012 بتحريك قضية عرفت حينها باسم "قضية التمويل الأجنبي" حيث اتهمت النيابة 43 ناشطا من بينهم 19 أمريكياً، بتأسيس وإدارة فروع لمنظمات دولية بدون ترخيص، وتسلم وقبول تمويل أجنبي من الخارج بما يخل بسيادة الدولة المصرية. “وتشمل قائمة المنظمات المتهمة في القضية المعهد الجمهوري الدولي، والمعهد الديمقراطي الدولي، ومؤسسة فريدوم هاوس، والمركز الدولي الأمريكي للصحفيين، ومؤسسة كونراد أديناور الألمانية.
وقد بدى السيسي منذ اللحظة الأولى لصعوده إلى السلطة انه سيتبنى نفس الخط الذي انتهجه المجلس العسكري تجاه المنظمات الحقوقية. لذا لم يكن مستغربا أن تستأنف الدولة حربها على تلك المنظمات، وفتحت القضية من جديد واستدعت ابرز الأسماء المصرية العاملة في المجال الحقوقي للنيابة من جديد. وسرعان ما صدرت قرارات بالمنع من السفر لنشطاء بارزين، وذلك قبل أن يتخذ قرارا بالتحفظ على أموال كثير من المراكز الحقوقية ومؤسسيها.
وعملياً في دولة مثل مصر، تعاني الغالبية العظمى من سكانها من أوضاع اقتصادية متردية، تلعب تلك المنظمات والجمعيات الأهلية دور بارز في الحفاظ على الأمان الاجتماعي وهو ما ينعكس بشدة على الاستقرار السياسي.
إن الإطاحة بتلك الجمعيات وترهيبها وإجبارها على الغلق تعني ببساطة أن الحكومة ستفاجأ بفجوة كبيرة تتمثل في احتياجات مئات الألاف (إن لم يكن ملايين) من المصريين كانت تسدها تلك الجمعيات، فكيف ستنجح الدولة في الوفاء بما التزمت به الجمعيات، خصوصا أننا نتحدث عن لحظة تمر به مصر بأزمة اقتصادية خانقة تزامنت مع ارتفاع جنوني لسعر الدولار واختفاء كثير من السلع الغذائية والأدوية من الأسواق.
عملت الحكومة المصرية على خنق الألاف من تلك المنظمات التي تحمل أعباء لا تطيق الحكومة تحملها، وذلك بهدف إسكات حفنة من الجماعات الحقوقية. ومن المفارقات، إن تلك الإجراءات ستتسبب في خلق قلاقل اجتماعية ستؤثر حتما على الاستقرار السياسي المنشود، والذي من اجل الحفاظ عليه (كما تقول السلطة) قررت محاربة المنظمات الحقوقية.