- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
تفسيرٌ للمعضلة الأمنية الكردية
7 تشرين الثاني/نوفمبر 2017
لقد أساء رئيس إقليم كردستان السابق مسعود برزاني تقدير التداعيات المحتملة للاستفتاء. لكنّ سوء التقدير السياسي في حد ذاته لا يبرر قرار برزاني بإجراء الاستفتاء المثير للجدل في 25 أيلول/ سبتمبر. وفي الواقع، يمكن للمعضلة الأمنية التي عاشها الأكراد العراقيون منذ تأسيس العراق في أوائل عام 1920 أن تسلّط الضوء على الدافع وراء القرار المشؤوم الذي اتخذه الزعيم الكردي السابق.
ويُذكر أنه بعد الإطاحة بالنظام الملكي الهاشمي، دعا الزعيم العراقي السابق عبد الكريم قاسم مصطفى برزاني والد الرئيس السابق مسعود برزاني، وقوات البيشمركة الخاصة به للعودة من الاتحاد السوفيتي في عام 1958 بعد قضاء أحد عشر عامًا في المنفى. وقد استدرج قاسم برزاني الأب، واعدًا إيّاه بمنح الأكراد شراكةً حقيقية في العراق، كما وعده بمنصب نائب للرئيس وبحقوق ثقافية واقتصادية وسياسية. علاوةً على ذلك، وعد قاسم بالاعتراف رسميًا بكردستان كإحدى الأمّتين في العراق. فصدّق مصطفى برزاني كلمات قاسم وعاد إلى العراق. لكن كان لدى قاسم مخططات أخرى.
بعد تغيير النظام عام 1958، واجه قاسم مقاومةً شديدة من القوى القومية العربية بقيادة البعثيين. وبعد محاولات عدّة للانقلاب ضده، أراد قاسم حليفًا قويًا لصدّ القوميين العرب. وكان استقطاب دعم الأكراد الخيار الأفضل للقضاء على هذا التهديد.
وبالفعل، بمساعدة مصطفى برزاني، تمكّن قاسم من إخماد البعثيين وزرع الاستقرار في نظامه. ولكن مع تنامي قوة بغداد، أصبح تحالف قاسم مع الأكراد ضعيفًا، وبات العراق أكثر عدائيةً تجاه الأكراد. فتراجع قاسم عن وعوده السابقة بمنح الأكراد حقوقهم واعتقل المسؤولين الأكراد ومنع الصحف الكردية ومنع "الحزب الديموقراطي الكردستاني" بقيادة مصطفى برزاني من عقد اجتماعاته. وردًا على ذلك، طالب برزاني بالحكم الذاتي للأكراد، فرفضت بغداد على الفور، ما أدّى إلى نشوب نزاعات مسلحّة دامت طويلًا.
وكلّما تغيّر الرئيس في العراق، في عام 1963 و1966 و1968، كان برزاني يعلن وقف إطلاق نار أحادي الجانب لإعطاء الحوار فرصةً كبديل للصراع المسلّح. ولكن كان كل رئيس جديد يستغل وقف إطلاق النار لتدعيم أنشطة بغداد وإطلاق حملات عسكرية ضد القوات الكردية في كردستان العراق.
وأخيرًا، أدركت بغداد أنها لا تستطيع أن تهزم برزاني عسكريًا، فلجأت إلى إجراء مفاوضات مع الأكراد في أواخر الستينيات من القرن المنصرم. وفي عام 1970، وقّع الجانبان على اتفاق الحكم الذاتي الكردستاني العراقي الذي منحت فيه بغداد الحكم الذاتي للأكراد، فضلاً عن مناصب حكومية في بغداد، وسلطات تشريعية في المنطقة. لكنّ هذا الاتفاق لم يدم طويلاً. فقد أصبح العراق أقوى اقتصاديًا وعسكريًا مما مضى. وقد تدفّقت عليه أموال النفط ووقّع اتفاقات عسكرية عدّة مع الاتحاد السوفيتي. وهكذا، مال ميزان القوة لصالح بغداد. وفي عام 1973، انهار الاتفاق ونشب الصراع مجددًا.
وتجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران كانت تدعم أكراد العراق ماليًا وعسكريًا. وبالتالي، تمكّنت قوات البيشمركة الكردية بقيادة مصطفى برزاني من محاربة الجيش العراقي وهزيمته. وبعدها، التقى صدام حسين، الذي كان نائب الرئيس العراقي آنذاك، بشاه إيران في قمة منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك) في عام 1975، وتنازل عن بعض الأراضي لصالح إيران مقابل وقف طهران دعمها العسكري للأكراد، وذلك بعد أن تعرّض العراق لهزائم عدّة على يد قوات البيشمركة الكردية.
وقد أفضت هذه الاتفاقية إلى انهيار الثورة الكردية في العراق، إذ تفوقت الدبابات السوفيتية والأسلحة المتطورة على قوات البيشمركة الكردية التي كانت تملك أسلحةً خفيفة وذخائر غير كافية. ونتيجة لذلك، فرّ برزاني إلى إيران مع آلاف الأكراد.
وبعدها، تولّى مسعود برزاني قيادة "الحزب الديمقراطي الكردستاني" عقب وفاة والده في عام 1979. وكجندي شاب، تعلّم مسعود برزاني أنه لا يمكن الوثوق ببغداد متى كانت قوية. وإدراكًا منه أن القوات المسلّحة في بغداد تزداد قوةً، اعتزم الرئيس برزاني القيام بمخاطرة مدروسة تمثلت بالتأكيد على استقلال كردستان وبأسرع وقت وإلاّ ضاعت منه الفرصة إلى الأبد.
وليس المقصود تبرئة برزاني من أخطائه السياسية. فكان يجب على الرئيس السابق أن يلمّ شمل الأكراد من خلال أخذ مصالح الأحزاب الأخرى في عين الاعتبار، إذ تقوّض الانقسامات الكردية وتجاهل مصالح الولايات المتحدة وتوصياتها أي مسعىً ليس لإقامة دولة كردية فحسب، بل أيضًا لمنح الحكم الذاتي لكردستان في العراق.
ومع ذلك، وكما في أي بلدٍ آخر، تصرّفت القيادة الكردية في ما يخدم مصلحتها الخاصة. فحسبما يتّضح من الأدلة التاريخية، كان ولا يزال بقاؤها معرّضًا للخطر ما دام هناك بغداد قوية. وفي المقابل، لا شيء يحمي كردستان من القوة العسكرية العراقية إلاّ السيادة الحقيقية. لذلك، اختار برزاني المضي قدمًا في الاستفتاء على الرغم من التحذيرات القوية من الدول الإقليمية والولايات المتحدة وأوروبا، وعلى الرغم من المخاطر الهائلة التي تواجه الشعب الكردي.
وتجدر الإشارة إلى أنه لم ينشأ أي صراع مسلّح كبير بين الأكراد والعراق منذ عام 2003، لأن الأكراد كانوا يشكّلون القوة السياسية والعسكرية الأكبر في البلاد. ولكن تبدّل ميزان القوى هذا بعد هزيمة تنظيم "الدولة الإسلامية" وتقديم الولايات المتحدة وإيران وأوروبا الدعم غير المشروط إلى رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي على حساب "حكومة إقليم كردستان". إلّا أنّ هذا الدعم أتى بنتائج عكسية، وشجّع بغداد على العودة إلى أسلوبها القديم تجاه الأكراد.
وفي هذا الإطار، يعزّز قرار العراق باستعادة كركوك وغيرها من المناطق المتنازع عليها في 16 تشرين الأول/أكتوبر، فضلاً عن مطالبه "الماكسيمالية" بنشر قوات عراقية على حدود كردستان، مخاوف برزاني من أن بغداد لم تغيّر عقليتها السياسية تجاه الأكراد. ولكن سيترتّب على ذلك تداعيات خطيرة ليس على الأكراد فحسب، بل على دول الغرب أيضًا.
أمّا إذا تُركت بغداد بلا حسيبٍ ولا رقيب، سيؤدي ذلك إلى تفاقم عدم الاستقرار في العراق بنفس الطريقة التي أدّى بها الدعم غير المشروط لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي إلى أعمال عنف هائلة بعد عام 2011 عندما بدأ باتخاذ تدابير مجحفة بحق السنّة. وينبغي أن يعلّم هذا الخطأ صانعي السياسات في واشنطن وأوروبا أنّ الاستثمار في رجلٍ واحدٍ في العراق قد يشكّل خطرًا كبيرًا على السلام وميزان القوى.
ومن الناحية النظرية، من الجيّد التوصل إلى تسوية يحكم فيها رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي عراقًا اتحاديًا، ويوازن العلاقات مع الدول المجاورة، ويكافح في النهاية هيمنة إيران في البلاد. ولكن من الناحية العملية، يختلف هذا النهج تمامًا عن أرض الواقع، بحيث أن السياسة العراقية مجزّأة تمامًا، ليس من حيث الخطوط العرقية الطائفية فحسب، بل من الداخل أيضًا. فالشيعة والأكراد والسنة هم منقسمون فيما بينهم أكثر من أي وقت مضى، وهذا يوفّر بدوره لطهران فرصةً لمواصلة استغلال هذه الانقسامات وممارسة نفوذ أكبر على مستقبل العراق.
ولتحظى واشنطن بوزن أكبر في العراق، تتمثل السياسة الفضلى التي يمكن أن تتّبعها في تعزيز الحكم الذاتي الكردي والمساعدة على تعزيز الوحدة بين السكان الأكراد، كما ومساعدة سنّة العراق في تشكيل منطقة سنيّة تتمتّع بأمنٍ وحكمٍ محليين. ولكن إن لم يدرك السنّة والأكراد حجم الخطر القادم من بغداد يهيمن عليها الشيعة، فلا يمكن لاستثمار الولايات في أي من هذه المجتمعات تحقيق الكثير في دعم قضيتها.
وعلى أقل تقدير، يمكن لهذه الصيغة أن تخدم أهدافًا متعددة، بما في ذلك التخفيف من حدة التطرف ومعالجة المظالم والحاجات الأساسية للسنّة وقطع جسر طهران البري الطموح، مع تعزيز الاستقرار والسلام. ولعلّ البديل هو العنف الدائم الذي لن يؤدي إلاّ إلى المزيد من التطرف وعدم الاستقرار. وهذا ما سيعرّض بدوره المصالح الأمنية للولايات المتحدة وأوروبا في الداخل وفي الشرق الأوسط للخطر.