بعد تمام ستة أعوام من الشرارة التي قدحت في درعا لتصبح انتفاضة، ثم ثورة، ثم حرب أهلية، ومواجهة متعددة الأطراف على مستوى المنطقة وما يتعداها، قد يكون لزاماً على المعارضة السورية الإقرار بواقع مؤلم هو أن لروسيا اليوم اليد العليا في سوريا. هذا لا يعني تلقائياً نهاية الثورة السورية التي تسلّقها الكثر، وأساء إليها الكثر، وتجاهلها الكثر، غير أنها لحظة تأمل وإعادة اعتبار، كي لا تذهب تضحيات من قتل وجرح وهجّر هباءاً. مسؤولية المراجعة وتشكيل المقاربة التالية في جهد استرداد الوطن تقع حكماً على السوريين أنفسهم، إلا أن الواقعية الموضوعية تشير إلى اتجاهات قلّ إلى اليوم إيلاؤها الاعتبار. وفيما تعمل الحكومة الجديدة في واشنطن على صقل اقتراحها بشأن المناطق الآمنة، قد تستفيد أوساط المعارضة السورية من انتهاج أفكاراً إقدامية في تفاعلها مع الحقائق المتبينة.
الحقيقة الأولى هي أن ما قد جرى في سوريا يصل إلى حد الانتصار بالنسبة لروسيا، ولكنه انتصار إلى أجل محدود. فعلى الرغم على التفوق الكبير للنظام في الأعداد والعتاد، ورغم استهلاكه كافة قدراته دون وازع إلى حد النفاد، فإنه لم يتمكن من الإمساك بزمام الأمور. وإذ نجحت إيران من خلال استقدام المجموعات المسلحة التابعة لها وتخصيص المبالغ الطائلة لدعم المجهود الحربي في إطالة عمر النظام، إلا أنها لم تتمكن من تبديل الميزان في المواجهة الميدانية. وحده التدخل الروسي، بما تميّز به من حزم وشراسة تمكن من ترجيح الكفة لصالح النظام. وما يترتب عن هذا الواقع هو أنه في حال لم تعمد روسيا إلى تحويل النجاح الموضعي إلى انتصار دائم، من خلال التأثير على طبيعة الصراع نفسه، والذي يواجه فيه النظام حراكاً متكرراً لا يقدر على كبح جماحه بما لديه من قدرات ذاتية، فإن فرض السلام، حتى الشكلي، سوف يبقى متعذراً في سوريا.
الحقيقة الثانية هي أن روسيا تثابر على فهم الثورة السورية وكأنها اعتداء خارجي. وانطلاقاً من هذا التصوير التعسفي، فإنها قد عمدت إلى خطة ذات جانبين، الأول هو تشتيت صف الحلفاء المحليين للفاعلين الخارجيين المفترضين، وذلك من خلال التمييز بين الفصائل، واستقطاب بعضها، واجنثاث بعضها الآخر، والثاني تفكيك التحالف الهش ضمن جملة القوى الخارجية المعادية للنظام من خلال الترتيبات الثنائية التي تنقض الرؤى المشتركة بين هذه القوى. والواقع أن مساهمات الأطراف الخارجية قد تكون قد قدّمت بعض التمكين للثورة حيناً، كما أنها قد ضعضتها أحياناً أخرى، ولكنها لم تكن يوماً الأصل والأساس. فقناعة روسيا بخلاف ذلك تمنعها من تشخيص الأسباب العميقة للوضع القائم، من الاستبداد إلى اعتبار النظام حكم أقلية، سعياً لمعالجة ناجعة له.
الحقيقة الثالثة هي أن الدعم للثورة السورية على مستوى المنطقة في حالة تضارب وفوضى. فكل من تركيا والسعودية وقطر والإمارات والأردن قد خصّص الموارد المختلفة في أوقات ما لمساندة المعارضة السياسية والانتفاضة المسلحة. إلا أنه عند المراجعة يظهر جلياً أن معظم هذا الدعم افتقد الرؤية البعيدة المدى والتنسيق. ويبدو اليوم أن كافة هذه الأطراف، بمقادير مختلفة، قد أخذت بالتراجع مواقفها الأولية حول ضرورة إسقاط النظام. وقد يكون التبديل الأكثر وضوحاً في سياسة تركيا بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في تموز الماضي، إذ أعادت أنقرة جدولة مواقفها لتنتظم مع التوجهات الروسية، فيما ركّزت في تحركاتها الفورية على التصدي للمخاطر الظاهرة، وتحديداً عرقلة السعي الكردي للحكم الذاتي والاستقلال، واحتواء تنظيم «الدولة الإسلامية». ومن البارز كذلك ما تلا سقوط حلب من مراجعة عامة في مواقف الأطراف العربية الفاعلة، بما يشطب الدعوات التي كانت قد تكررت لرحيل رأس النظام، مع التفويض الشكلي لأطراف المعارضة لإنجاز التسويات. وكان نظام دمشق قد تعرّض لإقصاء شبه تام من المنظومة السياسية العربية، بفعل قرار رسمي عام ٢٠١١. ويمكن اليوم تبين أن هذا الإقصاء قد انهار. وكانت كل من العراق ولبنان، بفعل تبعيتهما الفعلية للقرار الإيراني، قد ثابرتا على رفض هذا الإقصاء، فيما دعت الجزائر، انطلاقاً من موقفها الداعي إلى التحفظ والحياد، إلى التمسك بشعرة معاوية. أما اليوم، فمع التزام مصر موقفاً موسوماً بالواقعية في التعامل مع دمشق، ومع رضوخ دول الخليج للدور المتعاظم لروسيا في الملف السوري، فإن عزلة النظام قد انتهت.
الحقيقة الرابعة هي أن خطة النظام لتنفيس الثورة السورية قد أثبتت نجاعتها، إلا أن نجاحها الآني يؤسس لردة فعل تكاد أن تضمن الفشل على المدى البعيد. والواقع أنه لا يسع النظام أن يدعي تحقيق أي انتصار بفعل قواه الذاتية، ولكنه قادر أن يستنسب تشطيحه الثورة من المطالبة المدنية إلى أعمال العنف، ومن الرؤية الوطنية الجامعة إلى القطعية والتناطح الفئوي. ولا شك أن العوامل التي أدت إلى جنوح الثورة عديدة، إلا أنه كان للنظام دوراً جوهرياً في دفع الحراك نحو أشكال منفّرة من وجهتي النظر المحلية والعالمية. غير أن الضرر الناتج عن الدفع في هذه الاتجاهات ليس عرضياً، بل طويل الأمد وعميق التأثير. ففي حين أن النتيجة الفورية كانت وسم الثورة بالتطرف وإسقاط جاذبيتها، فإن الفعل يؤدي كذلك إلى جعل سوريا غير قابلة للحكم، لا سيما أن النظام في تعويله المتصاعد على قوى طائفية خارجية مسلحة قد اثبت شبهات أنه حكم أقلية. فالنظام قد تجنب السقوط الآني ولكنه أقحم نفسه في حالة مستعصية من وجوب التسلط على أكثرية جماهيرية تزداد تأصلاً في عدائها له.
الحقيقة الخامسة هي أن مستويات الاستقطاب والقطعية التي طالت جمهور المواطنين السنة في سوريا بلغت حدود الخطر الداهم. فقد تعرضت أوساط واسعة من السوريين السنة لشتى أنواع الاضطهاد الجماعي مع إمعان النظام بالقتل والتعنيف والتهجير بحقها. غير أن الالتفات إلى مصاب هذه الأوساط، بما يقرّ بمظلوميتها الجماعية، قد اقتصر على الطروحات الإسلاموية القطعية، والتي توظف هذه المظلومية للتهديد بظلم مقابل وللتوعّد بإقامة نظام شمولي على أساس ديني. وحصرية الإدعاء الإسلامي بالتعبير عن الحالة السنية في سوريا دفع بدوره باتجاه التسليم بقدرية سياسية تجبّذ في نتائجها التوجهات القطعية. فالاعتبار متحقّق للهمّ العلوي والهمّ الكردي، وإلى حد ما كذلك للهمّ الدرزي، كأمور جديرة بالمتابعة والمعالجة والحل. أما السوريون السنة (وبدرجة أقل السوريون المسيحيون) فليس ثمة مشروع سياسي يقرّ بمصابهم وإشكالياتهم ويقدّم في آن واحد رؤيا إيجابية مستقبلية. والفجوة واسعة وعميقة بين طروحات الشخصيات والمجموعات المعارضة في المنفى، والتي تلتزم رؤية غير فئوية وغير طائفية منطلقة من السياسة الموضوعية، وبين خطابيات الفصائل المسلحة التي تحارب النظام إذ تطفح بالغيبيات الفئوية. وبين هذه وتلك يتعذر تحقيق التصور المشترك المستجيب لحاجات المجتمع وقناعاته. فالعديد من السوريين السنة، بل ربما أكثرهم، يدرك الدور السلبي للحركات الإسلامية على اختلاف مشاربها في تحريف الثورة وإخراجها عن طريقها المستقيم وصولاً إلى إفشالها. ولكنهم كذلك، في معظمهم، يقرّون بأن الإسلاميين دون غيرهم هم من شخّص مظلوميتهم الجماعية ونادى بها. هي حلقة مفرغة قد استنزفت الثورة ولا تزال. فلإنقاذ كل من سوريا وثورتها، لا بد من طرح يقرّ بالمظلومية الجماعية للسوريين السنة، ويعبّر عمّا في أوساطتهم من قناعات وتطلعات، وذلك ضمن الوسط السني الجماعي كما ضمن الإطار الوطني الجامع. ولا بد تحديداً من فك الارتباط بين المظالم السنية والتأطيرات الإسلاموية، القطعية منها وغير القطعية على حد سواء.
الحقيقة السادسة هي أنه لم يعد للثورة المسلحة سبيل واقعي لإسقاط النظام، ولكن في المقابل ليس للنظام سبيل واقعي لاسترجاع كامل التراب السوري وفرض سيطرته عليه. وهذه الحقيقة أما أن تؤسس لحرب أهلية طويلة الأمد في سوريا، بما يواصل النزيف الوطني والضرر المتصاعد على المستويات الاجتماعية والاقتصادية، أو أن تفتح المجال أمام تصورات حلول موضعية بضمانات دولية لتحقيق قدراً من السلم والسلامة. والخطر البديهي المقترن بالحلول ذات الطابع المؤقت هي أنها سرعان ما تصبح دائمة. فالإشارة إلى ضرورة القبول بأن النظام غير قابل اليوم للإسقاط تبدو وكأنها دعوة للإقرار بتقسيم سوريا. ولكن الحقيقة المؤلمة هي أن سوريا لستة أعوام وما قد يليها مقسّمة للتوّ عملياً. فإزاء الإهمال العالمي لمصاب الشعب السوري، وإزاء التذبذب في الدعم الذي يقدمه أصدقاء سوريا لمجتمعها المنهك، قد تكون دعوة رئيس الولايات المتحدة الجديد دونالد ترامپ لإقامة «مناطق آمنة» وسيلة مفيدة لتحقيق بدائل مرحلية ضمن إطار الممكن، وسط الأحوال القاتمة.
فالحقيقة السابعة هي أنه بوسع روسيا إدارة الأزمة السورية إلى حين، ولكن الولايات المتحدة دون غيرها هي القادرة على الإشراف على تحقيق حلّ دائم للأزمة. وكانت الحكومة الأميركية السابقة قد تمنّعت عن الإقدام على عمل تطويقي للمأساة السورية في مراحلها الأولى، على الرغم من الانخفاض النسبي للالتزام المتوجب حينئذ، وذلك انطلاقاً من إصرار على التمنع عن الاضلاع بدور شرطة العالم. ولكن النتيجة كانت انهياراً لم يقتصر على سوريا بل أصابت شظاياه المنطقة وبلغت تداعياته من خلال كارثة المهجرين مختلف أرجاء العالم. وعليه فإن واشنطن اليوم تدرك ضرورة تطرقها للموضوع السوري. وبما أن اقتراح «المناطق الآمنة» والذي تقدّم به الرئيس ترامپ غير مكتمل المعالم والتفاصيل. وانطلاقاً من المعطيات الجديدة على أرض الواقع، وبناءاً على ما قد أنجز في أستانة وجنيڤ، يمكن هيكلة هذا الاقتراح للسير باتجاه مشابه لاتفاق دايتون والذي أدى إلى إخماد نار الحرب في البوسنة.
أي أنه يمكن للمناطق الآمنة التي اقترحتها الولايات المتحدة أن تشكل الأساس لسوريا المستقبلية. ففي العام ١٩٩٥، تم في مدينة دايتون في ولاية أوهايو الأميركية التوقيع على «اتفاق إطار عام» الزم الأطراف المتقاتلة في البوسنة وقف الأعمال العدائية من خلال الإقرار بالوقائع الميدانية، دون التسليم بديموميتها. وهدف اتفاقية دايتون لم يكن حل الأزمة البوسنية بكافة أوجهها، بل تجنب المزيد من الدمار والانهيار. وكانت البوسنة تعاني يومها من تعقيد في خارطتها العسكرية وتآكل في هويتها الوطنية. وهذا هو حال سوريا اليوم. ومعارضة روسيا لطرح «المناطق الآمنة» في سوريا يعود لفترة كان الهدف من هذه المناطق فيها تحضير المنصات للعمليات الهادفة إلى إسقاط النظام. أما إذا تمت إعادة صياغة هذه المناطق لتصبح نواحٍ إدارية خارج سلطة الحكومة المركزية، فإن ذلك يندرج في إطار التصور الذي تسعى روسيا، ومعها تركيا، إلى إرسائه من خلال مفاوضات أستانة. والدخول في توافق على مثال اتفاقية دايتون ينافي بالطبع طموحات الثورة، ولكنه ينزع من النظام حالة التفوق العائدة إلى تفوت مصادر الدعم، وينهي المرحلة المسلحة للثورة بما يسمح بالعودة إلى المطالبة بالتغيير دون العرقلة والإرباك الناجمين عن الطروحات القطعية المدمّرة. فنهج المعارضة السياسية والاجتماعية التي تحقق بدائل موضعية موضوعية مطروحة أمام المجتمع الوطني قد يكون السبيل الوحيد المتوفر اليوم لإنقاذ الثورة. واستقبال العودة الأميركية إلى الملف السوري سوف يقدم للثورة السورية فرصة تحتاجها لتصحيح الخلل في الدعم الخارجي والذي يشكل عقبة أمام التغيير الداخلي. وفي واشنطن تتضح حقيقة أن معالجة الملف السوري هو مصلحة وطنية للولايات المتحدة. ومن هذه المصلحة تحديداً إدراك أن المناورات الروسية في سوريا لا تشكل حلاً دائماً. ومن هذه المصلحة كذلك ألا تترك الأكثرية السورية السنية عرضة للاستبداد وللاستقطاب القطعي.