- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
التوصل إلى حلول توفيقية للوقت الحاضر، وتأجيل القضاء على إسرائيل لوقت لاحق
في ظل الطعنات الدامية وأعمال العنف الأخرى الفتاكة في إسرائيل والضفة الغربية، يُعتبر التحليل الشامل الذي أعده دانييل بوليسار حول بيانات الاستفتاءات الفلسطينية تحت عنوان: "ماذا يريد الفلسطينيون؟" مادة دسمة للقراءة لكل من يفوق اهتمامه عناوين الصحف اليومية الكئيبة. ولا يُعتبر بيت القصيد في هذا التحليل، وهو أن معظم الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة لطالما دعموا "الكفاح المسلح" ضد الإسرائيليين، دقيقاً فحسب بل أيضاً حقيقة غالباً ما يعمد الإعلام على تشويهها من خلال تركيزه على الطبيعة "الفردية" على ما يبدو لحوادث الإرهاب الحالية. بالإضافة إلى ذلك، ترتكز استنتاجات بوليسار على أبحاث شاملة حول مجموعات بيانات المسح الآخذة في التراكم منذ اتفاقات أوسلو الأولى عام 1993، حين بدأتُ شخصياً بالعمل مع زملاء فلسطينيين على إطلاق أولى الاستفتاءات العلمية للسكان الفلسطينيين.
وعوضاً عن تكرار النتائج التي توصل إليها بوليسار، أود أن أبدأ ببعض الملاحظات والاعتراضات، ثم أستعرض بعض النتائج التي تم التوصل إليها مؤخراً، ومعظمها من استطلاع للرأي أجريته في حزيران/يونيو، وأَختتِم بما أتطلع إلى رؤيته في دراسة بوليسار قيد الإعداد والأكثر شمولية حول هذا الموضوع.
لنبدأ أولاً بالاعتراضات. انطلاقاً من نتائج المسح وبيانات أخرى، أعتقد بأن الواقع هو أفضل من ذلك الذي طرحه بوليسار من بعض النواحي، وأسوأ من نواحي أخرى. فهو أفضل لأن هناك أدلة كثيرة تشير إلى أن احتمال قبول الفلسطينيين لحلول توفيقية مع إسرائيل عندما تُعرض عليهم "سلة متكاملة" [أو "صفقة"] هو أكبر بكثير من احتمال قبولهم لحلول توفيقية عند نظرهم إلى القضايا بشكل منفصل. وينطبق ذلك حتى على أكثر القضايا إثارة للجدل، مثل مستقبل القدس أو "حق العودة" أو الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية. وهو أسوأ لأن بوليسار يقبل الفكرة بأن معظم الفلسطينيين يؤيدون العنف على الرغم من معارضة محمود عباس الحازمة والمتكررة له. وفي الواقع، أن عباس والقادة الفلسطينيين الآخرين يوجهون بانتظام رسائل مختلطة حول هذه القضية الأساسية، من خلال معارضتهم للعنف بصورة عامة بينما يستمرون في تمجيد الإرهابيين الفرديين في البيانات الرسمية والاحتفالات ووسائل الإعلام.
وعلى نطاق أوسع، لا بد من التمييز بين عدد من النقاط المهمة التي تتخطى نطاق دراسة بوليسار القيّمة. يكمن أحد أوجه التمييز الذي أشرت إليه للتو، بين "الشارع" و"النخبة" الفلسطينية - أي: القيادة السياسية ورجال الفكر وعمالقة الإعلام الفلسطيني (ووسائل التواصل الاجتماعي)، وأبرز الناشطين الإسلاميين. فحول العديد من القضايا التكتيكية، من بينها العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل وجدوى المفاوضات، يُعتبر الجمهور الفلسطيني العام أكثر اعتدالاً من قادته المفترضين.
وفي سياق متعلق بذلك، من المهم التمييز بين المواقف القصيرة الأمد وتلك الطويلة الأمد. فالأولى تُعد مرنة نسبياً، أما الثانية فهي متشددة بشكل مفاجئ، خصوصاً فيما يتعلق بالقضية الأساسية المتمثلة بالسلام الدائم مقابل الحرب اللامتناهية. وتبقى مسألة أما حول ما إذا كانت الآراء المتشددة قد تفسح المجال أم لا إذا ما تحسن الواقع على المدى القريب فهي مسألة محيرة ولكنها غير محددة في جوهرها.
ويتعلق التمييز الأخير بالمواقف المتناقضة لدى السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية. فالأوضاع الإجمالية تختلف كل الاختلاف بين هذه المناطق الثلاث، بحيث يتم التشكيك بصحة الممارسة التقليدية القائمة على جمع كل هذه المناطق ضمن سلة واحدة.
وتُظهر نتائج استفتاء أجريته في حزيران/يونيو 2015 كل واحد من أوجه التمييز المذكورة وغيرها. وأود أن أشرح هذه النتائج بإيجاز لكي أعرض بعض وجهات النظر الإضافية والتحري عن مسائل أخرى محتملة تستوجب المتابعة.
تركز معظم الاستفتاءات في الشرق الأوسط على قضايا السياسة و/أو الدين، ولكن المفاجئ هو أن كليهما لا يشكلان أولوية قصوى لدى معظم الفلسطينيين في الضفة الغربية أو قطاع غزة. ففي الضفة الغربية، يقول معظم السكان إن أولويتهم القصوى هي إما "كسب المال الكافي لعيش حياة مريحة" (44 في المائة) أو "الحياة العائلية الطيّبة" (34 في المائة). وفي قطاع غزة، تأتي النتائج متشابهة، مع أنها تميل أكثر نحو العائلة. وفي المقابل، يختار 14 في المائة فقط من سكان الضفة الغربية و24 في المائة من سكان قطاع غزة "العمل لإقامة دولة فلسطينية" كأولويتهم القصوى. ويعتبر 12 في المائة فقط من سكان الضفة الغربية أن "العيش كمسلم (أو مسيحي) طيّب" هي أولويتهم القصوى أو حتى الثانوية. وفي غزة، ترتفع هذه النسبة لتصل إلى 19 في المائة، أي أنها أعلى نوعاً ما ولكنها مع ذلك منخفضة على نحو غير متوقع.
وهناك عنصر آخر مفاجئ: على الرغم من الدعم النظري الواسع النطاق لمقاطعة إسرائيل، يطمح معظم الفلسطينيين فعلياً في الضفة الغربية (ثلثان) وقطاع غزة (ثلاثة أرباع) إلى التعاون الاقتصادي مع إسرائيل ويقولون إنهم "يرغبون برؤية إسرائيل تسمح للمزيد من الفلسطينيين بالعمل داخل إسرائيل". علاوة على ذلك، تؤيد غالبية الفلسطينيين في الضفة الغربية وما يقاربها في غزة "توفير الشركات الإسرائيلية مزيداً من فرص العمل داخل" تلك المناطق. ويرى أكثر من ثلث السكان في كلا المنطقتين أنهم ما زالوا يرون أن هناك على الأقل فرصة لإحراز تقدم على هذا الصعيد، بالرغم من تدهور العلاقات بين الجانبين مؤخراً.
وماذا عن القضايا الأوسع حول العلاقات مع إسرائيل وعملية السلام؟ تأتي الآراء مختلطة حول هذه القضايا. فمن ناحية، تؤيد أغلبية في الضفة الغربية (58 في المائة) وقطاع غزة (65 في المائة) مواصلة "النضال... حتّى تحرير كامل أراضي فلسطين التاريخية"، حتى ولو تم التفاوض على حل الدولتين، واعتماد "المقاومة" المسلحة كوسيلة لبلوغ هذه الغاية. وفي الضفة الغربية، يدعم 56 في المائة من السكان أيضاً "الكفاح المسلح وهجمات الدهس ضد الاحتلال" (مع أن 23 في المائة فقط يؤيدون ذلك "بشدة")، وفي غزة، يؤيد حوالي 84 في المائة من السكان، وهي نسبة مذهلة، هذه التكتيكات العنيفة، و53 في المائة من بين هؤلاء يؤيدونها "بشدة".
ومن ناحية أخرى، يبرز كذلك دعم واسع النطاق على نحو مفاجئ لبعض الحلول التوفيقية الأساسية. فعلى المستوى التكتيكي، لربما الإحصاء الأكثر مدعاة للدهشة هو التالي: 74 في المائة من سكان الضفة الغربية و83 في المائة بالكامل من سكان غزة يقولون إن على "«حماس» أن تحافظ على وقف إطلاق النار مع إسرائيل" في المنطقتين. وحتى على المستوى الاستراتيجي، قد يقبل "على الأرجح" نصف سكان الضفة الغربية أو أكثر بحلول توفيقية حول قضيتين أساسيتين إذا كان ذلك قد "يساهم في إنهاء الاحتلال" ويؤدي إلى الاستقلال الفلسطيني. وتتمثل هاتان القضيتان أولاً بـ "مبدأ الدولتين مقابل شعبين، الشعب الفلسطيني والشعب اليهودي"، وثانياً، بحصر حق العودة إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، "وليس إلى إسرائيل". وتنخفض هذه النسب المؤيِّدة قليلاً لدى سكان غزة، ولكنها تبقى مرتفعة.
إذاً، بصورة إجمالية، تشير الأدلة إلى أن معظم الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة يريدون في الوقت الراهن على الأقل، وقف إطلاق النار وتعاوناً اقتصادياً مع إسرائيل، وكثيرون مستعدون أيضاً للتوصل إلى حلول توفيقية حول بعض القضايا الجوهرية من أجل الاستقلال. وفي إِشارة أخرى إلى الجو الواقعي الحالي، يبدي نصف الفلسطينيين تقريباً في الضفة الغربية وقطاع غزة استعداداً لتقاسم السيادة على القدس، وتود أغلبية كبرى من سكان الضفة الغربية (79 في المائة) "في الوضع الراهن" رؤية طريق سريع يعبر إسرائيل دون أن يمر في القدس كلياً.
ولكن ذلك ينطبق على المدى القريب. أما على المدى المتوسط أو البعيد، فيتبنى كثيرون توجهاً أكثر تطرفاً بكثير. وخلافاً لاستطلاعات رأي أخرى، طُلب من المستجيبين في الاستفتاء الذي أجريته في حزيران/يونيو أن يأخذوا بعين الاعتبار ثلاثة أطر زمنية مختلفة: السنوات الخمس المقبلة، السنوات 30-40 المقبلة، والمستقبل البعيد بعد مرور قرن. وكانت النتائج غير مشجعة على الإطلاق.
وفي الواقع، حتى في الإطار الزمني للسنوات الخمس المقبلة، تفضل الأكثرية "استعادة جميع أراضي فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر" على خيار "حل الدولتين" إذا ما سُئلوا عن "الهدف الوطني الفلسطيني الرئيسي". وفي الضفة الغربية، يبلغ هذا الهامش 41 في المائة مقابل 29 في المائة؛ أما في غزة، فهو أقرب بكثير (50 في المائة مقابل 44 في المائة)، إلا أن الاختلاف في النسب ينتج إلى حد كبير عن وجود خيار ثالث: "حل قائم على دولة واحدة في جميع الأراضي التي يتمتع فيها الفلسطينيون واليهود بحقوق متساوية". ويفضل 18 في المائة من سكان الضفة الغربية هذا الخيار، بينما لا تتعدى هذه النسبة 5 في المائة لدى سكان قطاع غزة.
ومن منظور معياري أيضاً، تُعتبر آراء الفلسطينيين متطرفة بشكل واضح. ففي الضفة الغربية، يقول 81 في المائة من السكان إن جميع أراضي فلسطين التاريخية هي "أراضٍ فلسطينية وبأن اليهود لا يتمتعون بحقوق عليها". وفي غزة، ترتفع هذه النسبة لتصل إلى 88 في المائة. (وتتشابه هذه الأرقام مع تلك التي ذكرها بوليسار). وبطبيعة الحال، لا يصدق الكثير من الفلسطينيين، لا سيما في الضفة الغربية، أن السلطة الفلسطينية تعتزم بالفعل الاستيلاء على إسرائيل في أي وقت قريب، كما تَبيّن من سؤال غير اعتيادي ضمن المسح الذي أجريته:
"تنشر السلطة الفلسطينية الخرائط الرسمية والبيانات والأغاني والقصائد التي تتحدّث عن فلسطين التاريخية كلّها على أنّها ملك الفلسطينيين، بما في ذلك مدن كحيفا ويافا وطبريا. هل تعتقد أنّ هذا يدلّ على أنّ نيتها الحقيقية هي العمل على تحرير كلّ فلسطين يوماً ما؟"
في الضفة الغربية، أجاب ربع السكان فقط بـ "نعم" على هذا السؤال، بينما أجاب نصف سكان غزة تقريباً بـ "نعم".
هذا بالنسبة إلى التوقعات خلال السنوات الخمس المقبلة. وبالتطلّع إلى الجيل القادم، أي بعد 30 أو 40 عاماً، نجد أن ربع الفلسطينيين فقط سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة يتوقعون أنّ إسرائيل "ستبقى قائمة كدولة يهودية"، بينما يعتقد ربع آخر أنها ستصبح "دولة ثنائية القومية لليهود والفلسطينيين". ولكن 38 في المائة من سكان الضفة الغربية، و53 في المائة من سكان قطاع غزة، يعتقدون أن إسرائيل ستزول تماماً [عن خارطة العالم]، حتى كدولة ثنائية القومية. وعندما سئلوا عن كيفية حصول ذلك، انقسموا بشكل متساوٍ تقريباً بين أولئك الذين يتوقعون أنّ إسرائيل "ستنهار بفعل التناقضات الداخلية" وأولئك الذين يقولون أنّ "المقاومة العربية أو الإسلامية ستدمّرها".
أما وجهة النظر على المدى البعيد حقاً، أي بعد قرن من الآن، فيعتقد 12 في المائة فقط من سكان الضفة الغربية و15 في المائة من سكان غزة أن إسرائيل ستبقى قائمة كدولة يهودية. ومع أن ما يقارب 20 في المائة من السكان في الضفة الغربية رفضوا بحذر ارتقاب مجرى الأمور في المستقبل البعيد، يعتقد كثيرون (44 في المائة) أن إسرائيل ستنهار أو سيتم تدميرها. وفي غزة، تتوقع أغلبية مطلقة (63 في المائة) بثقة أكبر تدمير الدولة اليهودية أو انهيارها.
بالنسبة إلى صناع السياسة من جميع الأطراف، تقدم هذه المواقف المتناقضة أو حتى المنقسمة تجاه المدى القريب مقابل المدى المتوسط إلى البعيد فرصة وتحدياً بالغاً على حد سواء. وتكمن الفرصة في إمكانية الاستفادة من المؤشرات الحالية للمرونة التكتيكية من أجل الانتقال نحو شروط التعايش السلمي، وربما تجاه الحل في النهاية. فالأدلة التي تم جمعها من المجيبين على الاستفتاء ذاته الذين يعيشون في القدس الشرقية تُظهر أن علاقات العمل العملية وذات المنفعة المتبادلة مع الإسرائيليين تتجه عادةً نحو توليد مواقف أكثر اعتدالاً. ومن ناحية الأسئلة المتعلقة باستمرارية إسرائيل وحقوق اليهود على الأرض، يبدي سكان القدس الذين يبلغ عددهم ما يقارب 300,000 شخص تساهلاً أكثر بكثير من ذلك الذي يبديه بنو جلدتهم في الضفة الغربية وقطاع غزة الذين يبلغ عددهم حوالي 4 ملايين.
إلا أن التحدي الأعظم هو التالي: نظراً إلى الرؤى السائدة تجاه المستقبل البعيد، من المنطقي التساؤل ما إذا كان أي اتفاق حول "الوضع النهائي" سيكون نهائياً بالفعل في أحد الأيام. وهذا كله لا يأخذ بعين الاعتبار مواقف القيادة الفلسطينية نفسها، والتي، كما ذكرتُ سابقاً، أكثر تشدداً بشكل ملحوظ من مواقف عدد كبير من السكان الخاضعين لها.
وفي الوقت الراهن، قدّم دانييل بوليسار مجموعة من الأفكار الرئيسية حول القضايا الأساسية الكامنة وراء العنف الفلسطيني. وفي النظرة إلى الأمام، آمل أن يأخذ بعين الاعتبار في دراسته الموسعة نواحٍ إضافية، غير تلك التي تغطيها مقالته في مجلة "موزاييك"، تحفل بالنتائج التي يمكن الاستفادة منها وتحليلها. كما أرحب بأفكاره المرتكزة على البيانات حول كيفية تأثير السياسات الإسرائيلية على المواقف الفلسطينية سواء للأفضل أو للأسوأ، وهي نقطة يمر عليها مرور الكرام ولكنها بنظري تستوجب المزيد من الاهتمام. (وكما يشير، إن المواقف الفلسطينية ليست ثابتة تماماً، على الرغم من كونها مستقرة عموماً مع مرور الوقت؛ وأعتقد أن هذه الاختلافات تعكس إلى حد كبير توقعات متغيرة من إسرائيل). وبصورة أكثر لافتة للأنظار، آمل أن تؤخذ في الحسبان الروابط بين المواقف والتصرفات، ولو كانت في الحقيقة غير مؤكدة. وفي حين يعرب معظم الفلسطينيين عن دعمهم للعنف ضد الإسرائيليين، تتصرف قلة قليلة فقط بناءً على هذا الدافع، بينما تتناوب أحداث الاضطرابات والإرهاب مع فترات الهدوء الملحوظ. لِمَ ذلك؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة المحيِّرة وغيرها [في هذا المجال] ستسلط دون شك المزيد من الضوء على القضايا المطروحة على نطاق أوسع، وعلى إمكانية حلها أو على الأقل حصرها بأبعاد يمكن التحكم بها بدرجة أكبر.
ديفيد بولوك هو زميل "كوفمان" في معهد واشنطن ومدير "منتدى فكرة".
"موزايك"