- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2483
التدخل الروسي في سوريا (الجزء 1): تراجع القدرات العسكرية لن يردع موسكو
وفقاً لأدلة موثقة بالصور، أُعيد نشرها في تقرير في صحيفة الـ «ديلي ميل» البريطانية في 8 أيلول/سبتمبر، بدأت روسيا بنشر جنودها على الأراضي السورية - على الأقل منذ شهر نيسان/أبريل المنصرم. وهناك تقارير أخرى حول زيادة التعزيزات العسكرية المتصاعدة التي تقوم بها موسكو هناك قد أشارت إلى إرسال شحنات أسلحة متطورة إلى نظام الأسد، ووجود فريق تدخل عسكري وإرسال وحدات سكنية جاهزة إلى قاعدة جوية قرب اللاذقية. وفي 4 أيلول/سبتمبر، وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحديث عن جنود روس في سوريا بأنه «سابق لأوانه»، ولكنه أكد أن روسيا تواصل تقديم مساعدات هامة إلى سوريا من خلال التدريب والأسلحة والمعدات. ومهما كان مدى التدخل الروسي المتزايد في سوريا في الوقت الحالي، فإنه يطرح أسئلة حول قدرات روسيا العسكرية بشكل عام.
إصلاحات عسكرية واسعة النطاق
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، دخل الجيش الروسي في مرحلة تراجع حاد، حيث بدأ يعاني من انخفاض الروح المعنوية، ومن مشاكل في التدريب/الانضباط، ونقص المعدات الحديثة، والفساد المستشري. وقد سلط اجتياح جورجيا في عام 2008 الضوء على ما وصفته "خدمة أبحاث الكونغرس" في آب/أغسطس 2011 بأنه "الفشل العملياتي الواسع النطاق للجيش الروسي". وفي الواقع، واجهت القوات الروسية صعوبة في الانتصار على خصم أصغر منها بكثير.
ورداً على ذلك، وفي تشرين الأول/أكتوبر 2008، أعلن وزير الدفاع الروسي في ذلك الحين أناتولي سيرديوكوف عن إصلاحات عسكرية كبرى، هدفها إعادة تنظيم هيكلية الجيش وتسلسله القيادي، وتقليص حجمه، وإنشاء قوة رشيقة وعصرية وكفؤة بحلول عام 2020. وشرعت روسيا بعد ذلك بأكبر عملية بناء لجيشها منذ الانهيار السوفياتي، مع زيادات سنوية كبيرة في الإنفاق الدفاعي الذي من المقرر أن يستمر حتى عام 2020. ووفقاً لمجلة "الإيكونوميست"، تتمثل التغييرات الأكثر جوهرية في إطلاق برنامج لتحديث الأسلحة في عام 2010، يمتد على عشر سنوات وتبلغ كلفته 720 مليار دولار.
وحيث بدأ أثر الإصلاحات يكتسب زخماً، اتخذ الكرملين موقفاً أكثر عدوانية في الخارج، باستئنافه إرسال دوريات القاذفات في المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ، وتمديده عقود الإيجار لقواعد عسكرية في أرمينيا وطاجيكستان، ووضعه خططاً لبناء قاعدة جوية جديدة في روسيا البيضاء، ورفعه حجم ومستوى المناورات العسكرية السنوية المشتركة التي تجريها روسيا مع الصين. ووفقاً لصحيفة "موسكو تايمز"، عندما ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم من أوكرانيا في آذار/مارس 2014، بدا «من دون أدنى شك أن جنودها مدربون ومجهزون بشكل أفضل» مما كانوا عليه خلال الحملة العسكرية في جورجيا في عام 2008 (كما أن القوات في شبه جزيرة القرم كانت من نخبة الجيش الروسي أيضاً).
الإنفاق غير المستدام
على الرغم من الإنفاق المتزايد وملامح النجاح، أشار تقرير أصدرته "خدمة أبحاث الكونغرس" في آذار/مارس 2014 إلى أن «سوء الإدارة وتغيير الخطط والفساد ومشاكل تجهيز الأفراد والقيود الاقتصادية» جميعها أمور ما زالت تعرقل الإصلاحات العسكرية الروسية. علاوة على ذلك، عبّر خبراء روس عن قلقهم من أن الإنفاق العسكري الضخم يجري على حساب النمو الاقتصادي والاستثمارات الضرورية في مجالي البنى التحتية والتعليم. وفي مقال نُشر في أيار/مايو 2015، استنتج الخبير الاقتصادي الروسي سيرغي غورييف أن الكرملين لن يستطيع تحمل كلفة الإنفاق العسكري الحالي، مشيراً إلى أن بيانات الميزانية للأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالي أظهرت أن الإنفاق العسكري لهذه الفترة فاق ضعف المبلغ المحدد له في الميزانية، متخطياً نسبة 9 في المائة من "الناتج المحلي الإجمالي" لتلك الفترة. وأضاف غورييف: «بعبارة أخرى، أنفقت روسيا حتى الآن أكثر من نصف جميع ميزانيتها العسكرية لعام 2015. وإذا استمر الإنفاق بهذا المعدل، سوف يفرغ صندوق روسيا الاحتياطي قبل نهاية العام». كذلك، استقال وزير المالية أليكسي كودرين من منصبه في أيلول/سبتمبر 2011 لأنه عارض الإنفاق العسكري المتزايد، من بين أسباب أخرى.
وقد فاقم ضمّ شبه جزيرة القرم من هذه القيود الاقتصادية. فوفقاً لموقع «ستراتفور.كوم»، يكمن جزء من المشكلة في ضرورة تأمين الدعم العسكري القوي والمستمر للانفصاليين في شرق أوكرانيا، وبالإضافة إلى ذلك «إن التوتر المتزايد مع الغرب ومنظمة "حلف شمال الاطلسي" قد أجبر موسكو على تدعيم أنشطتها الأمنية وتدريباتها ومناوراتها العسكرية، مثل الدوريات الجوية بالطائرات المقاتلة وتحركات السفن الحربية». ووسط هذه العزلة الدولية، وهبوط أسعار النفط، وتراجع قيمة الروبل، أصبحت معدلات التضخم بالعشرات، مع ارتفاع أسعار بعض المواد الغذائية الأساسية إلى حد 30 في المائة. وكما قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما في آب/أغسطس 2014، شهدت روسيا هجرة لرؤوس الأموال تراوحت قيمتها بين 100 و200 مليار دولار.
وفي غضون ذلك، تواصل روسيا الحفاظ على وجودها العسكري الواسع في "جوارها القريب"، أي الجمهوريات السوفياتية السابقة. ووفقاً لتقرير مجلة "نيوزويك" من كانون الأول/ديسمبر 2014، بلغ عدد القوات المرابطة في أرمينيا (3200 جندي)، وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية (7000)، وترانسنيستريا (1500)، وقيرغيزستان (500)، وطاجيكستان (5000). ولكي نضع هذه الأرقام في سياقها، يبلغ عدد القوات المسلحة الروسية من 700 إلى 800 ألف عنصر، بينما يبلغ عدد أفراد الجيش أقل من 300 ألف عنصر. وعلاوة على ذلك، ما زال الجيش يعتمد بشكل أساسي على المجندين الذين يتلقون تدريباً محدوداً.
المؤشرات الديمغرافية والإسلام الراديكالي
يتراجع عدد سكان روسيا بشكل حاد منذ أوائل التسعينيات. وكما كتب الخبير الديموغرافي نيكولاس إيبرستات في عام 2011، «تمثل المشاكل التي تسببها الأنماط السكانية الروسية ظاهرة لا سابق لها في مجتمع متمدّن ومتعلم لا يعيش في حالة حرب». فما زالت البلاد تعاني من معدل وفيات مرتفع، ونسبة مواليد منخفضة، وهجرة المثقفين في سياق التراجع الاقتصادي العام. ولا تظهر البيانات الديموغرافية الأخيرة الصادرة عن الكرملين (من أيار/مايو 2015) أي تغيير يذكر في هذه الأنماط.
ولكن بينما يتأرجح عدد سكان روسيا حول الـ 144 مليون نسمة، بلغ عدد السكان المسلمين في البلاد من 21 إلى 23 مليون نسمة، ويستمر في الازدياد. وتتمتع العائلات المسلمة بصحة أفضل من السكان الروس الأصليين (ويرجع ذلك جزئياً إلى معدلات إدمان الكحول العالية نسبياً بين الروس الأصليين) كما أن العائلات المسلمة تميل إلى إنجاب المزيد من الأطفال. ووفقاً لإحصاءات من عام 2014 كانت قد أصدرتها وزارة التنمية الإقليمية الملغاة، تتمتع منطقة شمال القوقاز - وهي منطقة روسية يتركز فيها السكان المسلمون بشدة - بأحد أعلى معدلات النمو في البلاد.
ومن المرجح أن يؤدي ازدياد عدد السكان المسلمين إلى تداعيات خطيرة على أمن روسيا وقواتها المسلحة وسياستها الخارجية. فعلى سبيل المثال، قد تزداد النزاعات الداخلية بين السكان الروس الأصليين والأقليات في أماكن مختلفة من البلاد. بالإضافة إلى ذلك، يعتقد بعض المحللين بأن المسلمين سيشكلون عما قريب نصف المجندين في القوات المسلحة الروسية، الأمر الذي يثير تساؤلات حول ما إذا كانت القوات المسلحة ستواصل دعمها لسياسات موسكو في شمال القوقاز. وفي أيلول/سبتمبر 2013، أعلن وزير الدفاع سيرغي شويغو أن الجيش سيحد من عدد المجندين الآتين من تلك المنطقة بشكل جذري، بالرغم من النقص في عدد المجندين الكلي وتوفر عدد كبير من الجنود المحتملين في شمال القوقاز. وجاء ذلك الإعلان بعد عدة سنوات من الحديث عن بدء الجيش بإقصاء المجندين من تلك المنطقة.
وفي غضون ذلك، ما زالت روسيا تخسر معركتها المحلية مع الإسلام المتطرف، الذي تكثف وانتشر في جميع أنحاء القوقاز وآسيا الوسطى. وفي الآونة الأخيرة، ازدادت التوترات في طاجيكستان بين السلطات الموالية للكرملين والمعارضة الإسلامية. وفي 4 أيلول/سبتمبر، شهدت العاصمة دوشنبه موجة نادرة من العنف، راح ضحيتها 9 عناصر من الشرطة و13 مسلحاً. وزعمت السلطات إن «إرهابيين» متعاطفين مع ما يسمى بـ «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش») هم المسؤولون عن الحادثة - وقد اتهمت السلطات على وجه الخصوص نائب وزير الدفاع السابق عبد الحليم نزار زودا، وهو عضو في «حزب النهضة الإسلامية» الذي تم حظره مؤخراً.
المحصلة
في الوقت الذي تُوسع فيه روسيا من وجودها العسكري في سوريا، قد تجد موسكو أن انتشارها العسكري الواسع سيحول دون تحقيق التزاماتها بشكل فعال في أماكن أخرى من العالم. وفي الواقع، أعلن الرئيس الأوكراني بترو بوروشينكو في 5 أيلول/سبتمبر أنه تم احترام اتفاق وقف إطلاق النار الأخير في شرق البلاد لمدة أسبوع كامل - وهو أمر لم يحدث منذ اندلاع الحرب بين الجيش الأوكراني والانفصاليين الذين تدعمهم روسيا. وتزامن هذا الإعلان مع التقارير حول زيادة الوجود العسكري الروسي في سوريا.
وعلى الرغم من ذلك، لا يبدو أن روسيا ستخفض من مواقفها العدوانية في "جوارها القريب". ففي شهر آب/أغسطس المنصرم، أعلنت وزارة الخارجية في جورجيا أن الكرملين نشر جنوداً في أبخازيا «تحت ذريعة إجراء أعمال صيانة لسكة الحديد بين أوتشامشير وإنغوري». وأشار بيان وزارة الخارجية إلى أن روسيا قامت بتحركات مماثلة قبل الغزو التي قامت به عام 2008، حين «أطلقت موسكو بطريقة غير قانونية أعمال صيانة لسكة الحديد التي تمر في أبخازيا ونشرت جنوداً عبر سكة الحديد على أراضي جورجيا، الأمر الذي استغلته لاحقاً لنقل الجنود والمعدات خلال الأعمال العدائية». ووفقاً لبيان صدر عن وزارة الدفاع الروسية في 7 أيلول/سبتمبر، أمر بوتين بإجراء مناورات عسكرية مفاجئة في "المنطقة العسكرية الوسطى"، وهي رقعة واسعة تضم نهر الفولغا وجبال الأورال وغرب سيبيريا.
وتكشف هذه التوجهات النقاب عن مفارقة هامة: فبينما تتراجع قدرات روسيا العسكرية، من المرجح أن تزداد عدوانية الكرملين في "جواره القريب"، بما في ذلك الشرق الأوسط. وبالرغم من المشاكل التي تواجهها، ما زالت القوات المسلحة الروسية قادرة على ما يبدو على إتمام مهمات محدودة. لذلك، سيكون من الخطأ استخدام التراجع الواسع للقوات المسلحة الروسية كذريعة لتأخير القيام بخطوات أكثر تشدداً. وتكمن المقاربة الأكثر فعالية في إدانة شديدة لزيادة التعزيزات [العسكرية] الروسية في سوريا، بالتزامن مع مواصلة الضغط على الكرملين لتغيير السياسات التي يتبعها مع جيرانه.
آنا بورشيفسكايا هي زميلة "آيرا وينر" في معهد واشنطن.