- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
اليوم التالي: ما يمكن للولايات المتحدة القيام به
يبدو أن الجامع النوري الذي أعلن منه زعيم تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" ("داعش") أبو بكر البغدادي قيام خلافته في العام 2014 يقع في قلب مسار تقدم القوات العراقية، فيما تبدو هزيمة "داعش" العسكرية على المسرح العراقي شبه مؤكدة. ولكن مع اقتراب النهاية على الساحة العسكرية، تزيد الضرورة الملحة أمام الإدارة الأمريكية الجديدة لتحديد الخطوات الواقعية التي ستتخذها في المقابل على مستوى التقدم السياسي.
بعد طفرة الجنود الأمريكيين في العام 2007 والقرار الذي اتخذته العشائر السنية بالانقلاب ضد تنظيم "القاعدة" في العراق، شهدت البلاد تراجعًا لا يصدَّق في معدلات العنف. إلا أن فك الارتباط الأمريكي وانسحاب الولايات المتحدة العسكري في العام 2011 خلّفا فراغًا تضافرت فيه السياسات الطائفية لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي وما ترتب عنها من حرمان السنة العرب من حقوقهم لتتسبب بدوامة انحدارية من التظاهرات وأعمال العنف الصادرة عن الدولة. ويعزى ظهور التنظيم إلى حدٍّ ما إلى عدوانية القوى السنية في المنطقة وخصوصًا المملكة العربية السعودية وتركيا، إذ رأت هذه القوى في المالكي حليفًا خطرًا لإيران. وخلال الولاية الثانية للمالكي (الممتدة بين 2010 و2014) خسر العراق فرصة ثمينة بتوطيد استقراره وسياسته الديمقراطية. فبحلول نهاية العام 2013 وجد العراق نفسه مرة أخرى على شفير حرب أهلية. ومن المحتمل أن تتكرر هذه الحادثة ويعود العنف للظهور مجددًا، ولكن ليس من المفترض أن يكون هذا المصير حتميًا. وفي هذا السياق أوردنا في ما يلي توصيات بست خطوات حيوية يمكن للولايات المتحدة أن تتخذها لتساعد العراق على الحفاظ على مساره الإيجابي بعد هزيمة "داعش".
أولاً: يجب على الولايات المتحدة أن تبدأ بإثناء حلفائها عن تقويض التقدم المحرز. فقد تباينت أولويات الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط على مدى سنين طويلة، مع توخّي السعودية وتركيا الحذر من دور إيران ومن قوات "الحشد الشعبي" شبه العسكرية ذات الأكثرية الشيعية وتخوفهما من أن يترجم حلفاء إيران دورهم العسكري المتوسع إلى مركز سياسي أفضل لإيران في الصراع الإقليمي على السلطة. ومع أن هذه المخاوف مشروعة، إلا أن الأساليب المتبعة تؤتي بنتيجة عكسية. فالمخابرات العسكرية الأمريكية مثلاً ترصد منذ مدة أدلة على ازدياد شحنات الأسلحة المتجهة إلى العشائر السنية في الأنبار في خطوة تعكس بلا شك استعدادات السعودية للفصل التالي من الصراع على السيادة في العراق. ومن الجوهري هنا أن تنصح الولايات المتحدة بالعدول عن هكذا مسار لأنه كفيلٌ بإنتاج جيل جديد من المقاتلين السنة الراديكاليين. فتسليح عشائر الأنبار عشوائيًا سوف يفاقم المعضلة الأمنية لدى شيعة العراق في مرحلة ما بعد "داعش" كما أنه سيعمّق الانقسام الطائفي ويرغم بغداد على البقاء على علاقة وطيدة بإيران. لذلك، وفيما يعمل البيت الأبيض بإدارته الجديدة على إعادة تقييم التحالفات التقليدية للولايات المتحدة، سوف يكون من المقبول والمفهوم أن تخضع السياسة السعودية المقوّضة للحملة على "داعش" للتمحيص والتدقيق.
ثانياً: يجب على الولايات المتحدة أن تزيد من دعمها التقني لمساعدة بغداد في الوفاء بوعود الإصلاح الاقتصادي والسياسي التي قطعتها. فقد شُكّلت حكومة العبادي على أساس اتفاق سياسي يرمي إلى معالجة المشاكل التي خلّفتها السياسات الاستبدادية والطائفية لرئيس الوزراء السابق. ولذا يجدر بالولايات المتحدة أن تعيد إيلاء اهتمامها بأجندة الإصلاح وأن توفّر المزيد من الإرشاد والدعم التقني متى أمكن، مع إعطاء الأولوية لمسألة القضاء على الفساد على المستويات العليا ودعم سيادة القانون. وقد أطلق البنك الدولي مؤخرًا مبادرة تجعل الدعم المالي للعراق مشروطًا بالتقدم الذي تحرزه الحكومة العراقية في المصالحة. ومن المفيد أن تدعَّم هذه الفكرة بمعايير واضحة للتقييم والتنفيذ لتصبح بذلك مثالاً تحتذي به الدول والمنظمات الداعمة الأخرى من أجل المضي قدمًا بالتدابير الإصلاحية.
ثالثاً: كان من شأن التقسيم الذي لحق بالكتل السياسية الكبرى أن ضاعف صعوبة التوافق السياسي الوطني، إذ لا تنفك تأثيراته تزيد على الشيعة والأكراد على حد سواء مع أن هذه المشكلة موجودة بين العرب السنة منذ العام 2003. فالأكراد الذين اعتادوا التصويت بصوت واحد في الحكومة الاتحادية خرجوا عن عادتهم هذه في العام 2016 حين أدت الخلافات بشأن الميزانية الاتحادية والعلاقات الاقتصادية بين أقاليمهم وبغداد إلى انقسام أصواتهم داخل مجلس النواب. وقد بلغ بهم الأمر في الآونة الأخيرة حدّ التهديد بقطع خطوط النفط بالقوة إذا لم يتحسن الوضع الاقتصادي.
وثمة عدة خيارات كفيلة بالتخفيف من هذا الانقسام. فتوسيع تحالف الأحزاب الشيعية المناهضة لنفوذ إيران (ووكلائها من الميليشيات) في العراق يتماشى مع نهج إدارة ترامب بالتصدي للنفوذ الإيراني المتنامي. وينبغي على الولايات المتحدة أن توعز إلى دبلوماسييها بدعم العبادي على الساحة السياسية الشيعية وإضعاف حلفاء إيران – أي المالكي والميليشيات ذات الصلة بالحرس الثوري الإيراني. ويمكن هنا طرح فكرة حذرة إنما ربما غير مستحبة تتمثل بالتعامل مع رجل الدين مقتدى الصدر والتأثير عليه لترجيح كفة الميزان لصالح حكومة العبادي ضد إيران وحلفائها. فمع أن مقتدى الصدر انتهج في السنوات الأخيرة نوعًا من القومية العربية الشيعية المعادية لإيران وتبنّى لهجةً أكثر اعتدالاً، إلا أنه عدو الولايات المتحدة منذ مدة طويلة. لكن المثل يقول: إذا أردت السلام، فلا تتكلم إلى أصدقائك بل إلى أعدائك.
فضلاً عن ذلك، لا بد من ممارسة ضغطٍ أكبر للتوصل إلى تسوية سياسية جامعة في كردستان. فالشعب الكردي يطمح إلى الاستقلالية – ومنطقتهم تنعّمت بالقدر الأكبر من الاستقرار في العراق – لكن الجمود السياسي الذي تلا تعليق العمل ببرلمان الإقليم منذ أكثر من سنتين يغطي على هذه الوقائع. ولعل الانشقاق السلمي والمؤقت لإقليم كردستان عن باقي العراق هو السبيل الوحيد لإرساء الاستقرار. لكن التعطيل السياسي الذي دام لسنتين أوهن الثقة بين الأحزاب الكردية الكبرى إلى حدٍّ بالغ وفتح المجال أمام التدخلات الخارجية. ولذا يتعين على الولايات المتحدة أن تتدخل مجددّا لتمنع إيران وتركيا من زيادة الانقسامات في السياسة الكردية وتأليب الأحزاب ضد بعضها البعض. وينبغي بالهدف الأول في هذا الإطار أن يتمثل بمعاودة انعقاد برلمان "حكومة إقليم كردستان".
علاوةً على ما سبق، من الضروري توطيد الوحدة بين العرب السنة، والحكومتان السعودية والتركية هما الطرفان الأكثر أهلية لاستخدام نفوذهما من أجل تشجيع السنة على اتباع برنامج سياسي موحد وسلمي بشأن دورهم في العراق بعد رحيل "داعش". وهنا يجدر بالولايات المتحدة أن تشدد لأنقرة والرياض (وغيرهما من العواصم السنية) على أنّ أفضل ما يخدم مصالحهما هو تخلّي المتشددين من العرب السنة عن موقفهم الرفضي تجاه النظام السياسي القائم بعد عهد صدام حسين، وهو موقف ادخل مجتمعهم في نزاع شبه متواصل مع الدولة منذ العام 2003. إذ يستطيع العرب السنة أن يوازنوا ما بين النفوذ الإيراني والهيمنة الشيعية إذا كانوا مندمجين في البنية السياسية والعسكرية للعراق أكثر مما إذا كانوا يعيشون بالكاد على الهامش. وكذلك يجدر بواشنطن بعد ضم الرياض وأنقرة إلى صفها أن تمهّد لمحادثات شاملة بين الجماعات السنية، ربما برعاية الأمم المتحدة مثلاً، من أجل صياغة أهداف مشتركة لمجتمعاتها.
رابعاً: لا بد من إيلاء اهتمام خاص للانتخابات المحلية المقبلة في العراق المزمع حاليًا إجراؤها في أيلول/سبتمبر 2017. إذ أن هذه الانتخابات ستلعب دورًا محوريًا في تحديد الممثلين الشرعيين لمختلف المجتمعات المحلية، ولهذا الأمر أهمية استثنائية لأن شرعية الممثلين الذين انتخبوا في السابق باتت شائبة مع تعرض المجتمعات السنية بصورة مستمرة لتهجير جماعي ووحشية لا توصف في ظل حكم "داعش". ولذلك يعتبر ظهور طبقة جديدة من الممثلين أمرًا حيويًا للمصالحة المحلية والوطنية ككل. في هذا الإطار، يجب على الولايات المتحدة والأطراف المعنية الأخرى أن تسخّر طاقاتها لإجراء التحضيرات اللازمة لضمان إجراء الانتخابات في البلدات المسترجَعة. وهذا ضروري لضمان أن تشكّل الانتخابات المحلية ولاحقًا الانتخابات العامة تجسيدًا موثوقًا لإرادة المجتمعات المحلية المختلفة.
خامساً: لا بد من بذل الجهود لكسر الجمود الحاصل في قضية إصلاح القوات المسلحة. ذلك أن انعدام التوازن العرقي والطائفي في القوى الأمنية العراقية يسبب مشكلة في البلاد منذ تغير النظام عام 2003. إذ غالبًا ما يعزى سقوط الموصل وظهور "داعش" إلى السياسة التي اتبعها المالكي بنشر قوى الأمنية ذات غالبية شيعية يقودها ضباط غير اكفاء في المناطق ذات الغالبية السنية. بيد أن الاقتراحات التي طُرحت في السابق لمنح العرب السنة تمثيلاً أكبر في القوى الأمنية (سواء كعناصر في "حرس وطني" خاص بمحافظاتهم أو كمجندين في الجيش الوطني) لم تحقق أي تقدم في ظل الجمود السياسي في العراق. ولكن رئيس الوزراء، بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة, و مسندا بالمادة التاسعة من الدستور، قادر على إعطاء الأمر بتجنيد عناصر الجيش وغيرهم من القوى الأمنية الاتحادية وفق حصص محددة لكل محافظة تستند إلى عدد سكانها. ومن المنصف أيضًا أن تعكس الحصحصة العسكرية المقاعد المخصصة للمحافظات في مجلس النواب. وفي غضون خمسة إلى عشرة أعوام، يمكن لأي جدول زمني واقعي لتنفيذ هذا المخطط على مدى عدة سنوات مع وضع أهداف سنوية له أن يمنح العراق جيشًا يعكس بحق خصائص البلاد الديمغرافية. وليس من الضروري أن تشمل هذه الآلية إقليم كردستان كونه يملك قواته المسلحة الخاصة.
سادساً: يجب على الولايات المتحدة أن تحافظ على انخراطها العسكري وتتجنب أن يؤدي الإرهاق بعد "داعش" إلى حقبة أخرى من النأي بالنفس على غرار تلك التي أعقبت الطفرة العسكرية. ومع أن توسيع الوجود العسكري الأمريكي لن يكون ضروريا ما لم تتزايد متطلبات الحملة ضد داعش، إلا أن التركيز يجب ان ينصب على الاستعانة بالقوى الموجودة حاليا لتحقيق بضعة أهداف محددة.
في البداية، لا بد من تقديم دعم فعال مستدام على مستوى الرصد والاستطلاع لأن تنظيم "داعش" سوف يلجأ عند فقدان سيطرته على المدن إلى إنشاء خلايا نائمة ومخيمات صحراوية يطلق منها الهجمات. وهنا يستطيع الجيش الأمريكي تقديم مساعدة هائلة على المدى الطويل للعراقيين الذين يفتقرون إلى القدرة على مراقبة مساحات شاسعة من الأراضي. ويتوجب كذلك دعم تطور سلسلة القيادة الرسمية للقوات المسلحة وتعزيز عديد القوات الخاصة التي تحملت العبء الاثقل في قتال "داعش" فيما يصار في الوقت نفسه إلى رفع سقف المعايير في صفوف وحدات الجيش النظامية.
أن هذه الخطوات لا تشكل حلولاً فورية أو سهلة أو كاملة لمشاكل العراق، ولكنها تمثل خطوات عملية إصلاحية تستطيع الولايات المتحدة اتخاذها بكلفة متدنية نسبيًا. فمن شأن النجاح في تحقيق هذه الأهداف أن يحدث تغييرًا إيجابيًا في الظروف الكامنة وراء صراع سياسي اجتماعي يزداد عسرًا يومًا بعد يوم، ومن شأنه أيضًا أن يحول دون معاودة ظهور التطرف العنيف تحت عنوان جديد بعد "داعش".