- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2390
تحايل تنظيم «الدولة الإسلامية» للاستفادة من الخدمات المصرفية
يتردّد على مسامعنا من وقتٍ لآخر أنّ تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية» هو الجماعة الإرهابية الأغنى في العالم، كونه اشتهر بجمع مبالغ هائلة من المال عبر تهريب النفط، وتنفيذ مشاريع إجرامية واسعة النطاق، والخطف مقابل فدية، وغيرها من الوسائل. لذا فإنّ استهداف أموال الجماعة قد أصبح من محاور الجهود الرئيسة الخمس التي يعمل عليها التحالف ضد تنظيم «الدولة الإسلامية». وفي 19 و20 آذار/مارس، شاركت كل من الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وإيطاليا في ترأس الاجتماع الافتتاحي لـ "مجموعة عمل مكافحة تمويل تنظيم «داعش»" في روما. وكان الهدف الأول الوارد على جدول عمل المجموعة هو منع هذا التنظيم الذي يُطلق على نفسه اسم «الدولة الإسلامية» من استخدام "النظام المالي الدولي، بما فيه الجهات غير المنظّمة المعنية بتحويل الأموال". وهذه خطوة هامة في الاتجاه الصحيح لأنّ تنظيم «الدولة الإسلامية» قد وجد أساليب متعددة للتحايل على هذا النظام على الرغم من الجهود الملفتة الرامية إلى منع الجماعة من تحويل الأموال.
عزل البنوك في المناطق التي يسيطر عليها تنظيم «داعش»
يحتاج تنظيم «الدولة الإسلامية» في الأراضي التي يسيطر عليها إلى النفاذ إلى المصارف لتفادي خطورة التعامل كلياً بالنقد الذي يحتاج إلى مساحات للتخزين والذي قد يتعرّض للسرقة. كما يحتاج إلى مثل هذا النفاذ خارج الأراضي التي يسيطر عليها لتسهيل حركة المقاتلين الأجانب ولتمويل العمليات التي قد يُنفّذها في الخارج. ففي تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ألقى ديفيد كوهين الذي كان في ذلك الحين وكيل وزارة الخزانة الأمريكية، كلمة شرح فيها أنّه لكي يستخدم تنظيم «الدولة الإسلامية» الأموال التي يجمعها بشكلٍ فعال، تعتمد الجماعة على النفاذ إلى الخدمات المصرفية في سوريا والعراق وعلى الإمكانية التي توفّرها هذه الخدمات للوصول إلى النظام المالي الدولي الأوسع نطاقاً. لذا، ركّزت وزارة الخزانة الأمريكية على كبح هذا النفاذ.
غير أنّ المشكلة تكمن في أنّ عدداً كبيراً من فروع المصارف في سوريا والعراق تقع إما في مناطق تحت سيطرة «داعش» أو أن التنظيم يحارب للسيطرة عليها، بما فيها فروع لمصارف دولية. وفي العراق وحده، يستمرّ حوالى 90 فرعاً من هذه الفروع بالعمل في المناطق المتنازع عليها في محافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار وكركوك. لذا فقد شرعت وزارة الخزانة الأمريكية في تنفيذ برنامج مشترك مع السلطات العراقية، ومع مقرات هذه المصارف الرئيسية، وغيرها من الجهات في المجتمع المالي الدولي من أجل منع تنظيم «الدولة الإسلامية» من استخدام هذه الفروع. وقد بحثت المصارف بشكل وثيق عن دلالات حول تمويل «داعش» ورفعت التقارير عن الأنشطة المشبوهة إلى السلطات الأمريكية التي تقول إنّ هذه التقارير وفّرت "معلومات قيّمة حول الأنشطة المالية في مناطق يسيطر عليها تنظيم «الدولة الإسلامية»". وفي الوقت نفسه، أمر "البنك المركزي العراقي" المؤسسات المالية بمنع التحويلات المصرفية من وإلى المصارف الواقعة في مناطق تحت سيطرة «داعش»، بينما عملت المصارف الدولية التي لديها فروع إقليمية في هذه المناطق على نقل موظفيها إلى فروع أخرى. فعلى سبيل المثال، نقل "مصرف الموصل للتنمية والاستثمار" مركز عملياته إلى بغداد - علماً أنّه المصرف العراقي الوحيد الذي يقع مقره الرئيسي في تلك المدينة الشمالية التي يسيطر عليها تنظيم «الدولة الإسلامية».
ولكن، على الرغم من هذه الجهود، لا يزال لدى «داعش» نفاذ كافٍ إلى الخدمات المصرفية. ففي سوريا، لا يكتفي نظام الأسد بالسماح للمصارف بالاستمرار بتقديم الخدمات للفروع الواقعة في مناطق تحت سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية»، بل يبدو أيضاً أنّه يستخدم هذه الخدمات بنفسه لتعزيز مصالحه التجارية مع «الدولة الإسلامية». ففي 7 آذار/مارس، على سبيل المثال، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على رجل أعمال سوري تربطه علاقات وثيقة بدمشق إثر قيامه بدور الوسيط في صفقات كان يبرمها النظام لشراء النفط من تنظيم «داعش».
وفي تقرير جديد حول تمويل تنظيم «الدولة الإسلامية» صدر الشهر الماضي عن "فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية" - وهي هيئة متعددة الجنسيات تقوم بصياغة سياسات لمكافحة النشاطات المالية غير المشروعة والترويج لها - ورد أنّ "أكثر من عشرين مؤسسةً ماليةً سوريةً من التي لديها أعمال في الأراضي الواقعة تحت سيطرة «داعش»"، لا تزال تمارس أعمالها هناك. بالإضافة إلى ذلك، إن فروع هذه المصارف لا تزال "متّصلة بمقرّاتها الرئيسة في دمشق؛ وربما البعض منها لا تزال لديه روابط مع النظام المالي الدولي". ولحسن الحظ أنّ معظم المؤسسات المالية الكبرى في الخارج قد قطعت على الأرجح صلاتها بهذه المصارف في السنوات الماضية بسبب العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي والتي استهدفت بها "مصرف سورية المركزي" ومؤسسات محلية أخرى. ومع ذلك، فإنّ تقرير "فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية" أكّد أنّ المصارف العاملة في أراضٍ تابعة لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» لا تزال قادرةً على التنسيق مع بعض السلطات، غير أنّه لم يكشف عن أسماء هذه السلطات المشكوك فيها. وحتى عندما يتم حظر الوصول إلى الخدمات المصرفية المحلية، فإنّ ظروف الحرب والحالة المتخلفة التي يعاني منها القطاع المصرفي السوري "تتسبّب بإدخال هذه الأموال بالقوة في المؤسسات المالية في المناطق المتاخمة".
وتتكرر الحالة نفسها في العراق حيث يتمكن تنظيم «داعش» من النفاذ إلى الخدمات المالية الدولية في الأراضي المتاخمة للمناطق الواقعة تحت سيطرته. وفي إحدى دراسات الحالات الواردة في تقرير "فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية" تم تسليط الضوء على قدرة الجماعة المستمرة على تلقي الأموال المحوّلة إلى مناطق قريبة أو أفراد مُعيّنين، سواء من خلال تحويلات مالية إلكترونية صادرة عن مصارف أو نظم تحويل أموال بديلة. ووفقاً لـ"معلومات مالية حساسة" جمعتها السلطات الأمريكية، غالباً ما تمّ تلقي هذه التحويلات "في مناطق معروف عنها أنّها مراكز للتمويل والشؤون اللوجستية والتهريب لمنظمات إرهابية ومقاتلين إرهابيين أجانب". وفي حالات أخرى، تم إيداع "مبالغ نقدية مفرطة" في حسابات أمريكية ومن ثم تم إرسالها عبر تحويلات مصرفية إلى مستفيدين على مقربة من مناطق يسيطر عليها تنظيم «الدولة الإسلامية». كما قام أشخاص مجهولو الهوية بسحب نقود أجنبية عبر أجهزة الصراف الآلي في مثل هذه المناطق، فحصلوا على أموال من حسابات مصرفية مقرها في الولايات المتحدة باستخدام بطاقات مصرفية. وفي بعض الحالات، تمّت هذه المعاملات بتنسيق وثيق حيث تمّ إيداع مبالغ كبيرة في الحسابات ومن ثمّ سحبها فوراً من أجهزة الصراف الآلي بالقرب من الأراضي الخاضعة لسيطرة «داعش». وقد ورد أنّ هولندا وجدت دلالات مماثلةً على أنّ مقاتلين إرهابيين أجانب استخدموا بطاقات السحب الآلي "مرتبطة بحساباتهم المصرفية الوطنية عند سحب الأموال من أجهزة الصرّاف الآلي الواقعة إلى جانب تلك المناطق التي يعمل فيها تنظيم «الدولة الإسلامية»".
ولا يستخدم تنظيم «داعش» المناطق المجاورة لتلقي الأموال من الخارج فحسب، بل أيضاً لاجتباء الأموال من المسؤوليين الحكوميين العراقيين الذي لا يزالون يعملون في أراضٍ تحت سيطرته. على سبيل المثال، قد تكون بغداد [منخرطة في] دفع ما يصل إلى 130 مليون دولار شهرياً إلى موظفين حكوميين في الموصل وحدها. لقد تم إغلاق النظام المصرفي الرسمي للمدينة بعد أن أحكم تنظيم «الدولة الإسلامية» السيطرة عليها، لذا "يُرسَل مبعوثو الدوائر إلى أراضٍ عراقية أو كردية [من أجل] قبض رواتبهم". وعندما يعود هؤلاء المسؤولون لإنفاق أموالهم، يقتطع «داعش» بطبيعة الحال حصةً له من هذه الأموال - ووفقاً لتقرير "فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية"، "من المرجّح أن الجماعة تستفيد من مئات ملايين الدولارات سنوياً جرّاء فرض الضرائب على مدفوعات رواتب هؤلاء الموظفين".
مخططات مصرفية غير رسمية
بإمكان تنظيم «الدولة الإسلامية» إرسال وتلقي الأموال أيضاً خارج النظام المصرفي الرسمي، من خلال جهات أجنبية قريبة معنية بتحويل الأموال. فعلى سبيل المثال، أبلغت السلطات الفلندية "فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية" أنّ أحد الأساليب الشائعة لإيصال الأموال إلى المقاتلين الأجانب هو عبر إرسالها من خلال "جهات معنية بتحويل الأموال التي لديها وكلاء في المناطق المتاخمة للأراضي التي يسيطر عليها «داعش» وذلك لتمويل أولئك المقاتلين بعد وصولهم إلى سوريا/العراق". وقد لاحظت السلطات الهولندية نشاطاً مماثلاً وهي "تعتبر أنّه من المرجّح للغاية أن... جهات وسيطة تقوم بنقل الأموال النقدية إلى مناطق قريبة من الأراضي التي يحتلّها تنظيم «الدولة الإسلامية»".
لقد ابتكرت عناصر «داعش» مخططات أخرى أيضاً. على سبيل المثال، أبلّغت السلطات السعودية "فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية" أنّ أفراداً ذوي صلة بالجماعة قد التمسوا المساعدة من مانحين عبر موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" وطلبوا منهم التواصل معهم عبر خدمة "سكايب". ثم طلبت العناصر من هؤلاء المانحين شراء بطاقات دولية مسبقة الدفع (مثل بطاقات رصيد الهاتف المحمول ورصيد المتاجر) وإرسال أرقام هذه البطاقات لهم عبر "سكايب". وسوف تصل المعلومات في النهاية إلى أتباع الجماعة بالقرب من منطقة تابعة لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا، فيتمكن هؤلاء من بيع البطاقات وجلب الأموال النقدية الناتجة إلى الجماعة.
المحصلة
اتخذت الحكومة العراقية وغيرها من الجهات الفاعلة المالية خطوات محمودة للحد من قدرة تنظيم «الدولة الإسلامية» على الاحتفاظ بالأموال وتحويلها من خلال مصارف تقع في مناطق تحت سيطرتها. ومتى أمكن، تمّ نزع الأصول وإغلاق المصارف ونقل المقرات الرئيسة والموظفين إلى فروع أخرى. غير أنّه لا يزال أمام «داعش» قدرة على النفاذ إلى المصارف في سوريا وإلى الجهات غير الرسمية المعنية بتحويل الأموال ونطاق نفاذها لا يتوقف عند "حدود" تنظيم «الدولة الإسلامية».
إن إحدى أهداف "مجموعة العمل لمكافحة تمويل «داعش»" هو توفير الدعم الفني وتطوير تدابير مضادة للتصدي إلى جهود الجهاديين الرامية إلى جمع الأموال ونقلها. ويُفترض أن يكون إغلاق الباب أمام أساليب احتيال تنظيم «الدولة الإسلامية» على القطاع المصرفي، من أول أهداف المجموعة.
وفي غضون ذلك، تواصل وزارة الخزانة الأمريكية في العمل في علاقات ثنائية مع حكومات في المنطقة وحول العالم من أجل منع تنظيم «الدولة الإسلامية» من النفاذ إلى النظام المالي الدولي. وفي الأسبوع الماضي حذّر وفدٌ من وزارة الخزانة الأمريكية كان يزور المنطقة بشأن حاجة المصارف إلى الاحتراس من تحويل «داعش» للأموال من دول الخليج العربي عبر تركيا أو لبنان.
غير أنّه من الواضح أنّ على هذه الجهود أن تترافق مع برامج تستهدف مناطق النفاذ الحساسة على الحدود المباشرة مع أراضي «داعش». ينبغي أن يكون الهدف هنا هو قيام تنظيم وشفافية صارمين، من دون إيقاف جميع الأموال المتدفقة إلى هذه المناطق الحدودية. فهذا الحل الأخير ليس واقعياً ولا مستحسناً، إذ أن الرزوح تحت اقتصاد منهار لا يؤدي سوى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية ويضرّ بالمدنيين الأبرياء الذين هم رهناء في الواقع لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» يحاولون البقاء على قيد الحياة كلّ يوم بيومه. ولكن، من دون مزيد من الإشراف والرقابة على تدفق الأموال إلى المناطق "الخارجية الواقعة على مقربة" من تنظيم «الدولة الإسلامية»، سوف تستمر الجماعة في استخدام أساليب الاحتيال لتمويل أعمالها الوحشية والإرهابية في سوريا والعراق وأماكن أخرى.
ماثيو ليفيت هو زميل فرومر- ويكسلر ومدير برنامج ستاين للاستخبارات ومكافحة الإرهاب في معهد واشنطن. وقد شغل سابقاً منصب نائب مساعد وزير لشؤون الاستخبارات والتحليل في وزارة الخزانة الأمريكية.