- تحليل السياسات
- المجهر السياسي 151
«100 عام على اتفاقية "سايكس بيكو"» - الأردن: صمود واستقرار وسط موجة تحديات مستمرة
المقالة الثالثة: «الأردن: صمود واستقرار وسط موجة تحديات مستمرة» بقلم ديفيد شينكر
قلة قليلة اعتقدت أن المملكة الهاشمية لإمارة شرق الأردن ستصمد عندما تمّ إنشاؤها في عام 1946. وعند تأسيسها، كانت المملكة تضمّ 250 ألف نسمة فقط معظمهم من البدو، وتمتلك القليل من الموارد الطبيعية التي يمكن الحديث عنها. وبعد فترة وجيزة، في عام 1948، تورطت المملكة في حرب مع دولة إسرائيل الناشئة، ووفرت ملجأ لنحو 650 ألف لاجئ فلسطيني، واكتسبت مساحة إضافية بلغت 5600 كيلومتر مربع غرب نهر الأردن. ثم، بعد أقل من ثلاث سنوات، اغتيل الملك برصاصة أردته قتيلاً، تاركاً المملكة الصحراوية الناشئة في عهدة ملك يبلغ من العمر 17 عاماً وسط انقلابات هزت دولتين مجاورتين.
وكانت تلك الأعوام الخمسة الأولى فقط. وخلال العقود اللاحقة، استمرت سلسلة من التحديات الاقتصادية السياسية والعسكرية بلا هوادة. ففي عام 1958، على سبيل المثال، طلب القصر الملكي الدعم العسكري من بريطانيا لحماية المملكة من المخاطر التي شكّلها جمال عبد الناصر. وخلال حرب عام 1967 مع إسرائيل، دخل 250 ألف لاجئ فلسطيني إضافي إلى الأردن، وبين عامي 1970-1971، حارب الجيش الأردني آلاف المسلحين الفلسطينيين المقيمين داخل المملكة الذين حاولوا السيطرة على الدولة وانتصر عليهم. ثم أتى اللاجئون العراقيون، الذين وصلوا بمئات الآلاف في عامي 1991 و2003، ونحو 400 ألف فلسطيني كانوا قد طُردوا من الكويت في عام 1991، ووجد العديد منهم طريقه إلى المملكة.
وعلى الرغم من الصعوبات، بقيت المملكة مثابرة. فقد تحوّل الملك حسين، العاهل الأردني الشاب، إلى رجل دولة إقليمي وصانع سلام يحظى باحترام وتقدير واسع، وسفير رفع المكانة الدولية لدولته الصحراوية الصغيرة والفقيرة، مما ساهم في النهاية في استقطاب مبالغ كبيرة من المساعدات النقدية. والأهم من ذلك، أن العاهل الأردني تمكّن مع مرور الوقت من رأب صدع الخلافات العرقية العميقة بين الرعايا الفلسطينيين وأولئك من أصول قبلية. وسار نجل الملك حسين، عبدالله الثاني الذي تولى العرش في عام 2000، على خطى والده، مما ساعد في النهاية على إخراج الأردن من فلك العراق وضمّه إلى المعسكر المؤيد للغرب.
وخلال العقد والنصف الماضي، عزّز الأردن بشكل أكبر حتى تحالفاته السياسية والعسكرية مع الغرب والولايات المتحدة بوجه خاص، مما أفسح المجال أمام ازدياد التعاون الإستراتيجي والمساعدة المالية من واشنطن. وفي حين لم تحمِ العلاقات الوثيقة مع واشنطن المملكة من التحديات الإقليمية، إلا أنها ساعدت الأردن على مواجهة بعض أصعب الأزمات والعواصف السياسية التي هددت الاستقرار الداخلي في البلاد.
نهج فعال إزاء المشاكل
لم يكن التحالف مع الغرب سوى واحد من سلسلة من المقاربات الجديدة إقليمياً في وجه التحديات التي ساهمت في ضمان صمود المملكة. وتتضمن مقاربات مثمرة أخرى كانت قد ساعدت القصر الملكي على تخطي المحن ما يلي:
· التركيز على الشرعية الدينية. أشار الملك حسين على نحو متواتر إلى نسب الهاشميين - كونهم منحدرين مباشرة من سلاسة النبي محمد - لمحاولة جمع السكان المتباينين وتعزيز شرعية حكمه الذي نُقل أساساً من الحجاز في شبه الجزيرة العربية.
· حوكمة أفضل نسبياً. وفقاً لمنظمة "فريدوم هاوس"، إن الأردن "ليس حراً". لكن وفقاً للمعايير الإقليمية، يطبّق الأردن سياسة قمعية معتدلة نسبياً. فلا يلجأ حكامه إلى التعذيب بالدرجة نفسها المعتمدة في دول أخرى في المنطقة.
· عمليات قتل أقل. تُعتبر السيطرة الذكية على الحشود، السمة المميزة للشرطة الأردنية. فعند وقوع تظاهرات، لا تطلق قوات "الدرك" - الشرطة ورجال الأمن - الأردنية النار على الحشود حتى لو كان يعني ذلك تعرّض عناصر هذه القوات لإصابات.
· ساطة الصراع المجتمعي. على مرّ السنوات، كان القصر الملكي بمثابة الحكم التقليدي بين السكان من أصول قبلية الذين تقدّر نسبتهم بـ 40 في المائة وأولئك من أصول فلسطينية الذي يشكّلون 60 في المائة. ويسود استياء كبير في كلا الجانبين - على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي - لكن النظام وجد صيغة لنزع فتيل التوترات والحدّ من العنف. كما أن معدل تزاوج يناهز 30 في المائة بينهما، بما فيه الملك نفسه، يساهم في تحسين الأوضاع على الأرجح.
· السيطرة الذكية على الإسلاميين. تصرَّف القصر الملكي بحكمة في تعامله مع إسلاميي المملكة. ومن خلال مزيج من الاسترضاء والدمج تارةً والترهيب والقمع طوراً، نجحت السلطات الأردنية بمهارة في إدارة ما كان يمكن أن يشكّل تهديداً كبيراً للنظام ولتوجهات المملكة الموالية للغرب.
· جمع التمويل بشكل ممتاز. كان الأردن دولة مدينة منذ عام 1946 لكنه حصل على التمويل من دول الخليج، والعراق تحت حكم صدام حسين، والولايات المتحدة، وأوروبا، واليابان. وقد ارتقى القصر الملكي بعملية جمع التمويل لتصبح فناً، فعزّز موقعه الإستراتيجي وحرص على الاعتدال واللين لانتزاع إيجارات أعلى باستمرار من الولايات المتحدة التي تساهم حالياً في نحو 10 في المائة من ميزانية الأردن السنوية.
· قبول اللاجئين. سمح الأردن لعدد أكبر من اللاجئين للفرد الواحد بالدخول إلى أراضيه ربما أكثر من أي بلد آخر. وقد شكّل أولئك اللاجئون عبئاً كبيراً على المملكة، على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. لكنهم كانوا أيضاً مركزاً للربح الثابت، حيث أدخلوا عائدات ومساعدات مالية، وأحياناً رأس مال جديد إلى المملكة.
· الحظ. بحلول أواخر عام 2012، كانت المملكة تواجه تحدياً صعباً من المعارضة القبلية المعروفة باسم "الحراك" التي كانت تقترب أكثر فأكثر من جماعة «الإخوان المسلمين»، استناداً إلى تركيز مشترك على فساد القصر. وللمفارقة، فإن الحرب في سوريا والاضطرابات في مصر والفوضى في ليبيا وانهيار اليمن، شكّلت كلها عوامل مثبطة للأردنيين أثنتهم عن الاحتجاج. وعوضاً عن التظاهر، لازم الأردنيون منازلهم وفضّلوا العيش في بلد مستقر ومتسامح نسبياً.
التحديات الرئيسية
على الرغم من أن ثقافة الأردن السياسية المعتدلة، غير الإيديولوجية والتي تعزف عن الثورة هي عامل ملطّف قوي، يُعتبر خطر اندلاع اضطرابات محلية اليوم أكبر من أي وقت مضى منذ الفترة الدموية التي عرفتها البلاد بين عامي 1970-1971. ويرتبط هذا الخطر في جزء كبير منه بامتداد الحرب السورية لتطال المملكة الهاشمية. فحتى يومنا هذا، عبَرَ ما يقرب من 1.4 مليون لاجئ سوري إلى الأردن. ويطرح هؤلاء اللاجئون الذين يشكّلون نحو 13 في المائة من سكان الأردن، تحدياً فريداً من نوعه بالنسبة للقصر الملكي.
يُذكر أن أقل من 120 ألفاً من هؤلاء السوريين يعيشون في مخيمَين لللاجئين المتوافرَين في المملكة الهاشمية، حيث تنتشر الأغلبية الساحقة في أرجاء البلاد وتثقل كاهل الاقتصاد الضعيف بشكل دائم في الأردن، حيث يمثّل خلق فرص العمل مشكلة كبيرة. وبالفعل، فوفقاً لمكتب "المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين"، يقبع 86 في المائة من اللاجئين الذين يعيشون خارج المخيمين تحت خط الفقر. ووفقاً للأرقام الرسمية، يناهز معدل البطالة 15 في المائة، وهو رقم أسوأ بكثير عندما يأخذ المرء في الحسبان معدّل المشاركة المنخفض في القوى العاملة البالغ 36 في المائة. ووفقاً لبعض التقارير بلغ معدل البطالة في أوساط الشباب 40 في المائة. وبالتالي، ليس من المفاجئ أن يؤدي دخول مئات الآلاف من السوريين إلى سوق العمل إلى زيادة معدل البطالة بشكل إضافي بين الأردنيين في ظل إقدام الشركات على استبدال المواطنين باليد العاملة السورية الأرخص. ووفقاً لـ "منظمة العمل الدولية"، ازداد معدل البطالة بين الأردنيين في المناطق التي تشهد تمركزاً كبيراً من اللاجئين السوريين إلى 22 في المائة.
ويمارس هؤلاء اللاجئون الضغوط على البنية التحتية في المملكة، بما فيها قطاعات المياه والكهرباء والتعليم، ويدفعون بأسعار المنازل صعوداً. ففي عام 2015، بلغت تكاليف استضافة اللاجئين 17.5 في المائة من ميزانية البلاد وكانت سبباً رئيسياً في العجز الأردني الذي بلغ ملياريْ دولار. وكانت هذه العوامل قد دفعت مؤخراً بالملك عبدالله إلى القول إن الوضع "وصل إلى حدّ الغليان ...عاجلاً أو آجلاً، أعتقد أن الأمور ستخرج عن السيطرة". ونحو نهاية عام 2015، بدأ الأردن يحد من دخول السوريين ويقتصر ذلك فقط على من هم بحاجة ماسة إلى عناية طبية.
وفي حين أن هناك تأثير كبير لللاجئين السوريين على المستوييْن الاقتصادي والاجتماعي، يمثّل الأمن مبعث قلق أكثر إلحاحاً. فوفقاً للتقديرات، يناهز عدد الأردنيين الذين يقاتلون حالياً في سوريا 2500 عنصر. وعلى الرغم من أن القوات المسلحة الأردنية تمنع بشكل فعال عمليات التسلل وتحارب المسلحين والمهربين السوريين على طول الحدود، تتزايد المؤشرات على أن بعض اللاجئين - والمواطنين الأردنيين - يخضعون لتأثير إيديولوجية الإسلام السلفي أو تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي نصّب نفسه بنفسه.
ويمكن القول إنه قبل أن يُقدم تنظيم «داعش» على قتل الطيار الأردني [معاذ الكساسبة] - الذي أُسقطت طائرته في سوريا في كانون الثاني/يناير 2015 - بإحراقه حياً، أعلن 62 في المائة فقط من الأردنيين أنهم يعتبرون تنظيم «الدولة الإسلامية» منظمة إرهابية - واعتبر نحو 31 في المائة في المائة فقط أن «جبهة النصرة» - فرع تنظيم «القاعدة» في سوريا - منظمة إرهابية. ووفقاً لذلك الاستطلاع نفسه الذي أجراه "مركز الدراسات الإستراتيجية في الجامعة الأردنية" في أيلول/سبتمبر 2014، اعتَبر 44 في المائة فقط من المستطلَعين الأردنيين تنظيم «القاعدة» جماعة إرهابية.
لا شكّ في أن مقتل الطيار الأردني قد أثّر في بعض هذه الآراء. ومع ذلك، تتصاعد وتيرة الحوادث والاعتقالات المرتبطة بالإرهاب في المملكة الهاشمية. ففي مطلع آذار/مارس، أفادت "دائرة المخابرات العامة" الأردنية عن مقتل ثمانية عناصر من خلية تابعة لتنظيم «الدولة الإسلامية» كانوا يخططون لشنّ هجمات على أهداف مدنية وعسكرية في البلاد، من خلال تبادل لإطلاق النار في إربد. وفي حزيران/يونيو، تمّ استهداف مقر للمخابرات يقع على بعد عشرين ميلاً شمالي عمّان، كما فجّر التنظيم سيارة مفخخة في مركز الركبان الحدودي شرقي الأردن، مما أسفر عن مقتل سبعة جنود.
ما الذي يجب أن تفعله الولايات المتحدة للمساعدة؟
أمام واشنطن دور مهم تضطلع به لمساعدة الأردن على الصمود في وجه العاصفة الإقليمية الراهنة. ففي آذار/مارس 2016، نشر كاتب هذا المقال والمدير التنفيذي لـ "معهد واشنطن" روبرت ساتلوف، دراسة مقدّمة إلى "مجلس العلاقات الخارجية" بعنوان "تزايد الضغوط على الأردن"، حثّا من خلالها الولايات المتحدة على اتخاذ الخطوات التالية للمساعدة على تخفيف الضغوط التي ترزح تحت وطأتها المملكة الهاشمية:
· زيادة المساعدة الإنسانية. في عام 2016، زوّدت الولايات المتحدة الأردن مساعدات عسكرية واقتصادية تجاوزت قيمتها 1.6 مليار دولار. وفي عام 2015، منحت واشنطن المملكة أيضاً تمويلاً إضافياً بقيمة 180 مليون دولار لمساعدة اللاجئين، أو ما يقرب من نصف المبلغ الذي منحته الولايات المتحدة للبنان. ونظراً إلى أهمية الأردن الإستراتيجية، على واشنطن بذل المزيد من الجهود. ففي عام 2015، منحت واشنطن دعماً للاجئين السوريين بقيمة 533 مليون دولار في دول شرق أوسطية أخرى. ويمكن إعادة تخصيص بعض هذا التمويل إلى الأردن. على واشنطن أن تضغط على حلفائها الأوروبيين والعرب (على سبيل المثال، المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت) لإضافة عنصر دعم للميزانية السنوية بقيمة مليار دولار على مشاريع استثماراتها في البنية التحتية القائمة في المملكة والتي التزمت بها في عام 2013.
· دعم عملية توظيف اللاجئين السوريين. إن ارتفاع معدلات البطالة وعدم كفاية فرص العمل والهجرة الخاضعة للرقابة، كلها عوامل تدفع على ما يبدو على هجرة الرجال السوريين إلى أوروبا. لذلك، فمن أجل إغراء السوريين للبقاء في المنطقة، إن لم يكن في سوريا نفسها، سوف يتطلب توفير درجة معينة من الفرص الاقتصادية. يجب على واشنطن تشجيع الدول الأوروبية على الاستثمار في مبادرات لخلق فرص عمل في الأردن، حالما يوفر الأردن تصاريح عمل لعدد أكبر من اللاجئين السوريين. وقد تم تحديد عملية توفير فرص العمل المحلية للاجئين كأولوية أوروبية خلال مؤتمر المانحين لسوريا الذي انعقد في لندن في شباط/ فبراير 2016. ومقابل قروض "البنك الدولي" والهبات الأوروبية، التزم الأردن منتصف عام 2016 بالسماح للسوريين بالعمل في المملكة. ومن المهم أن تحافظ عمّان على التزامها هذا.
· زيادة التعاون في مجالي الدفاع والاستخبارات. إن تبادل المعلومات الاستخباراتية والتعاون الأمني بين واشنطن وعمّان عاملان قويان بالفعل بشكل استثنائي. ومن أجل تعزيز العلاقة وتحسين قدرات الأردن على جمع المعلومات الاستخباراتية حول جنوب سوريا، يجب على إدارة أوباما [والإدارة الأمريكية القادمة] تزويد المملكة الأردنية بقدرات متقدمة من خلال طائرات بدون طيار للمراقبة والهجوم.
· إنشاء منطقة آمنة حقيقية. على الرغم من أن الأردن قد بذل بعض الجهود بعيداً عن الأنظار لدعم المجتمعات المحلية على الجانب السوري من الحدود، إلا أن تلك الجهود تفتقر إلى الموافقة الرسمية لإنشاء منطقة آمنة إنسانية مدعومة دعماً كاملاً والحفاظ عليها، حيث تقدم قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمن للمأوى والتغذية للسوريين النازحين داخلياً. وبالتالي، فإن إنشاء مثل هذه المنطقة مع الشركاء في التحالف الذي يكافح تنظيم «الدولة الإسلامية» سيخدم كل من المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة في الحفاظ على الأردن ومصادر القلق الإنسانية من خلال حماية المدنيين.
المساعدات الأمريكية في الحوكمة والسيطرة على الأراضي والتنمية البشرية
في حين أن نظام الحكومة في الأردن أكثر تسامحاً وتعددية مقارنةً بالدول الأخرى في المنطقة، أظهرت منظمة "فريدوم هاوس" أن المملكة "ليست حرة" خلال السنوات القليلة الماضية، من حيث الحقوق السياسية والحريات المدنية. فقبل انتفاضات عام 2011، كان الإصلاح السياسي مكوّناً مهماً في أجندة الولايات المتحدة الخاصة بالأردن. وربما ليس من المفاجئ أن أولوية الإصلاح تراجعت - بالنسبة لواشنطن والأردنيين على حد سواء - نظراً إلى التطورات الإقليمية. ومع ذلك، تساعد الولايات المتحدة حالياً على دعم مشروع لامركزية أساسي في المملكة من شأنه، في حال نجاحه، أن يعزّز الإصلاح السياسي. وفي الوقت نفسه، أطلق الأردن في عام 2015 قانوناً انتخابياً جديداً يبدو أنه يشجّع على تطوير الأحزاب السياسية، وهو عنصر أساسي في ذلك النوع من الإصلاح السياسي الذي ينادي به الغرب.
ويكتسي التطوير الإنساني أهمية بالغة أيضاً من أجل تعزيز استقرار المملكة على المدى الطويل. غير أنه كما هو الحال مع العديد من دول المنطقة، أثبتت هذه الخطوة حتى الآن أنها تشكّل تحدياً كبيراً بالنسبة للأردن. ورغم تفاؤل كل من "صندوق النقد الدولي" و"البنك الدولي" إزاء الآفاق الاقتصادية في الأردن، إلا أنه وفقاً لاستطلاع أجراه "مركز الفينيق للدراسات الاقتصادية والمعلوماتية" ومقرّه عمّان الصيف الماضي، يَعتبر 57 في المائة من الأردنيين أن الاقتصاد "سيئ" أو "سيئ للغاية". ويشكّل استحداث فرص العمل سبباً رئيسياً، لا سيما نظراً إلى العدد الهائل من خرّيجي الجامعات الأردنيين الذين لا تتاح أمامهم فرص كبيرة للحصول على وظيفة تلائم مستواهم العلمي. وكانت عمّان قد أعلنت عن خطط للمساعدة على استحداث 180 ألف وظيفة جديدة بحلول عام 2025. وفي حين سيمثّل هذا العدد بداية جيدة، إلا أنه قد لا يكون كافياً. ففي عام 2013، قدّر "صندوق النقد الدولي" عدد الوظائف الجديدة التي من الضروري توافرها بحلول عام 2020 بحوالي 400 ألف وظيفة. يُذكر أن واشنطن خصصت ملايين [الدولارات] لمساعدات إنمائية للأردن لمعالجة هذه المسألة، لكن تأثيرها لم يكن كبيراً.
ولحسن الحظ، لا يزال حفظ الأمن، نسبياً، من السمات الأساسية للحكومة الأردنية. فأداء كل من الجيش و"دائرة المخابرات العامة" لا يزال يرتقي إلى مستوى رفيع إقليمياً. وفي حين يخطط تنظيم «الدولة الإسلامية» وجماعات مسلحة أخرى لشنّ هجمات في المملكة - ستستهدف في النهاية الحكومة أو المدنيين أو السياح على الأرجح - تعتمد عمّان إستراتيجية استباقية على صعيد أمن حدودها ودفاعها المحلي. غير أن المشكلة الفعلية تكمن في أن هذه الإيديولوجية تتجاوز الحدود. فكلما استمرت الحرب في سوريا لفترة أطول، تنامى خطر الإرهاب الموجّه ضد المملكة. أما بالنسبة لواشنطن، فهذا يعني أن مفتاح الاستقرار الطويل الأمد في الأردن يتمثّل بالمساعدة على إنهاء القتال الدائر في سوريا المجاورة في أسرع وقت ممكن.
ديفيد شينكر هو زميل "أوفزين" ومدير برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن.
المقالة الثانية: «تحديد الدولة المستقرة» بقلم مايكل نايتس
لا تُشكّل أرض العراق الّتي تظهر حالياً على الخرائط النتيجة الدقيقة لاتفاقية "سايكس-بيكو"- التي قسّمت العراق كما هو عليه اليوم بين منطقتي نفوذ فرنسية وبريطانية - بل هي بالأحرى ناشئة عن عملية جمع ثلاث ولايات عثمانية (بغداد، البصرة والموصل) في دولة واحدة. وفي السنوات ما بين 1921 و 1932، تم تحديد حدود العراق مع المملكة العربية السعودية وسوريا وتركيا وإيران. وحتى منذ ذلك الحين، انتُقد العراق على أنه "دولة مصطنعة"، خاصةً لأنه يفتقر إلى التجانس العرقي والطائفي. وقد انضم تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى صفوف النقاد في حزيران/يونيو عام 2014، عندما أصدر شريط فيديو بعنوان "نهاية «سايكس-بيكو»" هدد فيه بـ "غرس المسمار الأخير في نعش مؤامرة «سايكس-بيكو»"
ويمكن القول أن وضع الخطوط بدقة على الخريطة - أي الحدود الخارجية للعراق - كان الموضوع الأقل إثارةً للجدل خلال البداية الاستعمارية للبلاد. وكانت المنافذ في المناطق الحدودية مع السعودية والأردن وسوريا، ومع تركيا، إلى حد ما، قليلة السكان ويسهل اختراقها من الناحية التاريخية لكي تسمح بقيام تجارة تقليدية واتصالات بين المجتمعات العابرة للحدود. وحيث لامست الحدود المناطق الاستراتيجية والغنية بالنفط بالقرب من الخليج العربي، الذي هو منفذ العراق الوحيد إلى البحر، أدّى موضعها دوراً في اندلاع حربان كبيرتان مع إيران والكويت. وتنطبق دينامية مماثلة على العديد من الدول في مناطق كثيرة من العالم.
تنوّع دون تمثيل
تسببت الجوانب الأكثر إثارة للجدل في ولادة العراق الحديث، من التقاء مجموعة فريدة ومتنوعة من الأعراق والطوائف والطبقات الخاضعة لأشكال حكومات غير تمثيلية. فالأول والأكثر إثارة للجدل، أدت الحدود التي أُنشئت مع تركيا في عام 1926 إلى عزل جزءٍ من الأمة الكردية داخل الحدود الإدارية الحديثة للعراق. كما فُوضت مجموعات مهمة أخرى من الأقليات - التركمان واليهود والمسيحيين الآشوريين، على سبيل المثال لا الحصر - لتحكم من بغداد. كذلك، تم إخضاع الشيعة العرب، الذين هم أكبر مجموعة عرقية طائفية منفردة، إلى حكومة تسيطر عليها جهات غير شيعية.
وفي حين أصبحت الحدود الحديثة للعراق وقوميته حقيقةً واقعة، تم الحفاظ على وحدة هذه المجموعات بوسائل متنوعة. فغالباً ما كانت القوة العسكرية الخاصة بالحكومة مهمة جداً في تدارك الثورات والانتفاضات التي قام بها الأكراد والشيعة. وأدّت الثروة النفطية والسياسة الحزبية إلى تحقيق التقدم الاجتماعي وبداية دولة ريعية شعر فيها المواطنون بالطمأنة من خلال رعاية الدولة. إلا أن ديكتاتورية صدام حسين العنيفة إلى حد كبير فقدت السيطرة على الشمال الكردي، وبدأت السلطة المركزية للدولة تضعف بشكل كبير في ظل العقوبات الغربية.
وعوضاً عن الديكتاتورية، سعى الائتلاف إلى فرض ديمقراطية تمثيلية تحفّز العضوية الوطنية لكافة المكوّنات العراقية - أي شكل من أشكال الحكم لم يطوّره يوماً أبناء البلاد في العراق. وقد لا تكون هذه الفكرة قد فشلت نهائياً، لكن من الواضح أن العرقية والطائفية القائمة على أساس الحصص، والديمقراطية التي تهيمن عليها الأحزاب في الوقت الحالي لم تحقق التماسك بين العراقيين، بل في الواقع على العكس تماماً من ذلك.
ولم تكن بعض الظروف مثل بروز تنظيم «الدولة الإسلامية» وانخفاض أسعار النفط مساعدة أيضاً. كما أن القوى المركزية في العراق - أي القوة العسكرية والنفوذ الاقتصادي للحكومة - لم تكن يوماً ضعيفة إلى هذا الحد. ولم تبدُ فكرة تداول السلطات على أساس الهوية العرقية الطائفية جذابة بتاتاً إلى هذه الدرجة بالنسبة إلى الكثير من العراقيين منذ ولادة الدولة.
ويثير كل ما سبق علامات استفهام حول الكيفية التي يجب أن تنظر بموجبها الولايات المتحدة إلى العراق، وكيف يمكن للمصالح الأمريكية أن تتفاعل مع طبيعة الدولة العراقية وشكلها. فهل يجب أن تسعى الولايات المتحدة إلى نتيجة حاسمة، أي إلى "سياسة عراق واحدة" أم، على العكس من ذلك، إلى «دولة كردستان» المستقلة؟ أم يجب على الولايات المتحدة أن تنتظر إلى أن يقوم العراقيون بتحديد جدول أعمال؟
تسهيل إعادة ضبط العلاقات بين بغداد والأكراد
تشكّل مسألة كردستان نقطة بداية مهمة لأنها قد تكون الشائبة الأكثر وضوحاً في البداية الحديثة للعراق. وعلى الرغم من أنه بإمكان المرء أن يجادل بشأن الأراضي المنخفضة المتنازع عليها، لا شك في أنه ليست هناك مصلحة أو مطالبة حقيقيتين للدولة العراقية التي يهيمن عليها العرب، ولسكان العراق في السيطرة على معظم المرتفعات والمناطق الجبلية التي تديرها «حكومة إقليم كردستان». وتعود جذور معارضة العرب وآخرين من غير الأكراد للاستقلال الكردي إلى معاملة المناطق المتنازع عليها المختلطة عرقياً والمهمة اقتصادياً، وخاصةً كركوك الغنية بالنفط.
بين عاميْ 1991 و 2003، كان الأكراد العراقيون مستقلين إدارياً عن الدولة العراقية، على الرغم من أن ميزانيتهم كانت ما زالت تُستمد من حصة تديرها الأمم المتحدة من صادرات النفط العراقية. وقد وافقوا على إعادة الاندماج مع العراق في عام 2003 كنوعٍ من تجربة في إدارة منطقة فدرالية غير متناسقة داخل العراق. وقد تُجري «حكومة إقليم كردستان» استفتاء [خلال العام المقبل] لجمع الأدلة على أن معظم الأكراد العراقيون يريدون إنهاء هذه التجربة والعودة إلى علاقة أكثر مساواة مع بغداد، إما كتوأم يتألف من كيانين سياديين داخل عراق إتحادي، أو، على الأرجح، كدولة كردية مستقلة معترف بها من قبل الأمم المتحدة.
ومن بين القوى الخارجية، يبدو أن تركيا قد تراجعت حقاً عن معارضتها لقيام دولة كردية سيادية، ويرجع ذلك جزئياً لأن أكراد العراق صريحين بأنهم سيحكمون فقط داخل حدود العراق التي رُسمت إبان الإستعمار في زمن الانتداب. وتبدو إيران معادية جداً للفكرة، ويعود ذلك جزئياً إلى تقوية العلاقات بين تركيا و«حكومة إقليم كردستان» وجزئياً لأنها قد تشكل مثلاً يحتذي به الأكراد الإيرانيون، ولكن لا أحد يستطيع أن يجزم فيما إذا كانت إيران ستستمر في معاداتها [لهذه الفكرة] إذا ما دعَم المجتمع الدولي إلى حد كبير حكومة سيادية للأكراد العراقيين. وإذا ما تم التعامل مع المناطق المتنازع عليها بشكل صحيح، فهناك الكثير من العلامات التي تشير إلى أن بغداد قد تكون أكثراستعداداً لتقبُّل "الطلاق الودّي".
يتعيّن على الولايات المتحدة الإضطلاع بدور الوسيط الناشط في المساعدة على هذا الانفصال الودّي والتأكد من أن الكيانين العراقي والكردي يعيشان [بسلام] كجيران طيّبين. وتتمتع الولايات المتحدة بمستوى مرتفع جداً من الفطنة والخبرة إزاء المشكلة الشائكة الخاصة بالمناطق المتنازَع عليها في العراق، ويُنظر إليها على أنها وسيطاً نزيهاً. ويمكن أن تساعد القيادة الأمريكية في بروز جهود متعددة الجنسيات من أجل العثور على حلول تدريجية طويلة المدى لمناطق مثل كركوك. كما يجب أن تساعد الولايات المتحدة في ضمان عدم إهمال الأقليات - أي التركمان والمسيحيين واليزيديين والشبك والكاكائيون، وغيرهم - نظراً إلى أنها جماعات هامة من أصحاب المصالح في المناطق المتنازع عليها مع مظالم وطموحات فريدة من نوعها.
إتّحادية فاعلة في العراق العربي
إلى جانب وضوح مسألة النزعة الانفصالية الكردية، يبرز تحدي المصالحة الصعب والهوية الوطنية داخل العراق الفدرالي، ويعني ذلك الأجزاء ذات الغالبية العربية في البلاد. وتتعلق بعض الانقسامات بالدور السياسي المتقلص للمجتمع الشيعي في العراق، لا سيما في عهد نظام صدام حسين. وثمة انقسامات أخرى أكثر حداثة وهي: معاناة جميع الطوائف من العنف المستشري والتمييز منذ عام 2003. فعلى سبيل المثال، في القتال ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، خلقت الجرائم التي لحقت بالسنّة العراقيين من قبل إخوانهم في الدين تحدياً كبيراً للمصالحة داخل المجتمع السني، وليس فقط بين السنة والشيعة.
ويحتاج العراقيون في المناطق غير الكردية أيضاً إلى إثارة بعض المسائل الراسخة بشأن مستقبل الدولة العراقية وتمثيلها. بمعنى آخر، من الذي سيحكم العراق وكيف سيحكمون العراق؟ وقد تزايدت الدعوات الانفصالية السنية من خلال رفض شرعية الحكومة التي يقودها الشيعة في بغداد ومن ردة الفعل على معاملة السنة كمواطنين من الدرجة الثانية في المناطق المختلطة. وتشير الدلائل إلى أن الفترة الكارثية لحكم تنظيم «الدولة الإسلامية» في المناطق السنية من العراق أدت إلى التبرير المنطقي لطرفيْ الانقسام الطائفي. فقد خفّ حديث القادة السنة على المستوى المحلي عن إعادة الزمن إلى الوراء إلى ما قبل عام 2003، بينما زاد حديثهم حول ضمان عودة المواطنين إلى مدنهم وتأمين تلك المناطق بالاشتراك مع الحكومة. فقد عاش مئات الآلاف من المشردين السنّة لمدة تصل إلى عامين في مجتمعات شيعية وكردية، والتحق أولادهم بمدارس محلية، وبالكاد نتج حادث عنف واحد بين هؤلاء السكان المشردين. وقد تكون هناك فرصة للقيادة الشيعية المرهقة لتقديم تنازلات للمجتمعات السنية التي عانت من الذل بشكل كامل.
ويُحتمَل أن تتمتع الفدرالية بإمكانات جيدة للنجاح في المناطق غير الكردية من خلال حكام الأقاليم ومجالسها ذوي النفوذ الأكبر. وتتمتع الولايات المتحدة بمركز جيد يوفّر لها وجودها المطمئن مجالاً للتعاطي بين الكتل الشيعية والممثلين الناشئين للمجتمع السني - أي المحافظين، ورؤساء مجالس المحافظات، ومدراء المناطق، وقادة الميليشيات التي تدعمها الحكومة. ومجدداً، تتمتع الولايات المتحدة ببعض الخبرة في دعم كل من النموذجيْن التدريجييْن التنازلي [من الأعلى إلى الأسفل] والتصاعدي [من الأسفل إلى الأعلى] للمصالحة في العراق، وكلاهما ضروريان في الوقت الراهن. وتشكّل إعادة البناء، وتطوير قوات الأمن المحلية، وتحسين الحوكمة والاستثمار المحلي مجالات تستطيع القيادة الأمريكية أن تحفّز بشأنها برامج مساعدات طويلة المدى من بلدان متعددة.
دور الولايات المتحدة في عراق اليوم
يجب أن تُلقي الولايات المتحدة نظرة فاحصة على أفكارها المسبقة حول العراق، لكن عليها ألا تحاول وضع جدول أعمال لمستقبل البلاد. وقد يكون من المفيد الحفاظ على حدود العراق الخارجية وتأمينها، وبالفعل لا يوجد أحد على الأرجح مهتم بتغييرها. إلا أن الوضع الداخلي للعراق هو شئ يبدو أن العراقيين أنفسهم يدركون أنه بحاجة إلى تغيير. وإذا كان العراقيون منفتحين على الانفصال العادل عن الأكراد، فلا يمكن للولايات المتحدة أن ترغب في "وحدة العراق" أكثر من العراقيين أنفسهم. ولواشنطن مصلحة كبيرة في [قيام] علاقات اقتصادية وسياسية وعسكرية ودبلوماسية وثيقة بين عراق أكثر تماسكاً وكيان كردي جديد. وفي النهاية، يشكّل كلٌّ من هذين الجاريْن حليفاً قوياً للولايات المتحدة. فأين لا تريد الولايات المتحدة أن يكون حليفاها المقرّبان على وفاق مع بعضهما البعض؟
وقد يؤدي الانفصال البطيء إلى نوعٍ آخر من عراق ذي أغلبية عربية - أي إلى مكان تكون اللامركزية على مستوى الأقاليم، والمصالحة الوطنية والمجتمعية هما الأهم؛ وأيضاً إلى مكان يتعيّن أن يعمل فيه الاقتصاد غير النفطي والاقتصاد الهيدروكربوني جنباً إلى جنب، حيث يؤمّن أحدهما فرص العمل بينما يؤمّن الآخر حصة كبيرة من الميزانية الآخذة في التراجع ببطء. وسيساعد ذلك على ضمان الارتباط المستدام بين المناطق الحاوية للنفط والمناطق غير النفطية.
ومهما كان من الصعب تصوّر ذلك أحياناً، سيتسنّى خدمة الحوكمة التمثيلية والمتعددة الثقافات والمذاهب واللغات على نحو أفضل بالنسبة إلى جميع الأراضي داخل العراق اليوم. ومهما ينتهي المطاف بكردستان والمناطق المتنازَع عليها والعراق الفدرالي، إلا أنه لا يمكن أن يكون هناك انفصال كامل للنسيج العراقي المتنوع تماماً - ويجب أن يؤخذ في الاعتبار في الحكومة المستقبلية. بالإضافة إلى ذلك، يجب ألا تتخلى الولايات المتحدة عن إيمانها بالفكرة الأساسية المتمثلة في تعزيز الحكومة التمثيلية في العراق. وفي الواقع، يتعيّت على الولايات المتحدة مساعدة العراقيين على تنفيذ هذه الرؤية بشكلٍ كامل في الوقت الذي يناسبهم، مما يؤدي في النهاية وربما في وقت سريع، إلى قيام حكومة أغلبية تتألف من كتل من جميع المجموعات العرقية الطائفية. وكما قال زعيم شيعي رفيع المستوى إلى الكاتب: "مهما كان عدد الشيعة، لن يُسمَح لنا أبداً بإدارة عراق ناجح طالما يجب على كل حكومة أن تكون حكومة وحدة وطنية. وربما علينا أن نُنهي «الائتلاف الوطني» [الذي يشمل عموم الشيعة]". ويشير هذا النوع من الأفكار، الذي يتفوه به زعيم عراقي طائفي إلى حد كبير، إلى الطريق الصحيح بالنسبة للسياسة الأمريكية في العراق وهو: عدم وضع جدول أعمال، بل بالأحرى مساعدة العراقيين بنشاط على تنفيذ أفكارهم الجيدة الخاصة بهم.
مايكل نايتس هو زميل "ليفر" في معهد واشنطن، وكان قد عمل في جميع محافظات العراق وأمضى بعض الوقت ملحقاً مع قوات الأمن في البلاد.
المقالة الأولى: «إنهاء قرن من الخضوع: إرث "سايكس بيكو" للأكراد» بقلم ديفيد بولوك
يتمّ أحياناً وصف الأكراد، الذين يعيشون في أراضٍ عابرة للحدود المعاصرة المنتشرة بين تركيا وإيران وسوريا والعراق، ويناهز عددهم 35 مليون نسمة، بأنهم الجماعة العرقية الأكبر في العالم من دون بلد خاص بها. وفي الحقيقة، ربما يعود هذا الشرف المريب إلى السكان "التاميل" في الهند (وسري لانكا)، وسكان المحافظات المختلفة في باكستان، وغيرهم الكثيرين في شبه القارة الهندية؛ ولكن لِمَ الاعتبار. فحتماً تُعتبر تطلعات الأكراد لإسقاط الخطوط التي رسمتها اتفاقية "سايكس بيكو" أو على الأقل إضعافها، والتي تعود إلى قرن من الزمن من أهم المسائل العرقية الدولية المعاصرة.
ونظراً إلى أن عدد الأكراد هائل فعلاً، فإنهم غالباً ما يتمسكون بشدّة بلغتهم وثقافتهم وهويتهم العرقية الخاصة المميزة بشكل عام، وبتاريخهم الخاص المميز؛ وقد بقي العديد منهم متيقنين من أنهم محرومون من الاستقلال الذي وعدتهم به نوعاً ما القوى الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى قبل قرن من الزمن. واليوم، يكمن المأزق الناتج الذي وقعوا فيه في صميم أحد أسوأ النزاعات في المنطقة وأكثرها حدّةً، حيث أن إيجاد حلّ له بطريقة أو بأخرى يُعتبر بالضرورة عنصراً أساسياً في أي خطة طويلة الأمد لإحلال السلام وإرساء الاستقرار في كامل "الجزء الشمالي" من منطقة الشرق الأوسط الكبير.
ولم يكن وعد الأكراد بالاستقلال عملياً جزءاً من اتفاقية "سايكس بيكو" السرية، التي قَسّمت الأراضي التي تسكنها أغلبية كردية بين بريطانيا وفرنسا في الوقت الذي لم يُعرض الاستقلال لأي منها. وعوضاً عن ذلك، وفي إطار مساعي الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون لـ "حق تقرير المصير" خلال "مؤتمر فرساي للسلام" ومن ثم خلال "معاهدة سيفر" في عام 1920، نال الأكراد تعهداً باحتمال الحصول على أمة سيادية. ولكن في غضون سنوات قليلة، تم سحق ذلك التعهد قسراً.
لقد ثار الأكراد أولاً ضد حكومة مصطفى كمال أتاتورك التركية الجديدة، الأمر الذي تسبّب في خسارتهم جزءاً كبيراً من أرضهم ونحو نصف عددهم الإجمالي، وسرعان ما هُزموا. وفي غضون ذلك، ضمّ البريطانيون ولاية الموصل العثمانية سابقاً والمناطق المجاورة لها، إلى جانب قسم كبير من السكان الأكراد، في إطار الانتداب على العراق الذي منحتهم إياه "عصبة الأمم". أما الفرنسيون، وبما يتماشى أيضاً مع اتفاق "سايكس بيكو"، فقد تولّوا الانتداب على سوريا، على الطرف الجنوبي من كردستان التاريخية. بالإضافة إلى ذلك، أبقت حكومة رضا شاه الجديدة وجيوشه في إيران المحافظات في أقصى الشمال الغربي ذات الغالبية الكردية تحت سيرة طهران الأوتوقراطية بشكل حازم.
وبحلول الفترة التي أُبرمت خلالها "معاهدة لوزان" عام 1923، والتي ثبّتت تقريباً حدود وطنية جديدة لهذه المناطق، انقطع الحديث تماماً عن استقلال الأكراد؛ غير أنه منذ ذلك الحين - وخلال العقود القليلة الماضية بشكل متزايد - أبقى العديد من الأكراد هذا الحلم حياً في أذهانهم. إلا أن قوى هذا التحرك اتخذت أشكالاً مختلفة كلياً خلال أوقات مختلفة تماماً، في مختلف البلدان التي تم فيها توزيع الأكراد.
وكما هو معروف إن الأكراد مُقسمين داخلياً، وليس فقط بين جميع تلك الحدود الدولية الجديدة ولكن أيضاً في كل منها. فالقبائل والفصائل والأحزاب والشخصيات واللهجات والإيديولوجيات والتحالفات الإقليمية المتنافسة، والانقسامات الأخرى كلّفتهم جميعها ثمناً باهضاً. بالإضافة إلى ذلك، أصبح العديد من الأكراد مواطنين موالين للحكومات المركزية الجديدة في البلدان المتواجدين فيها، في حين استأنف الآخرون الكفاح من أجل الحكم الذاتي.
وفي إيران، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، تعاون بعضهم لفترة وجيزة مع الاتحاد السوفياتي من أجل تأسيس "جمهورية جيلان" الكردية الجديدة ومقرها في مهاباد. وسرعان ما أحبطت طهران تلك الفرصة، بدعم قوي من بريطانيا والولايات المتحدة. وفي تركيا، وبعد مرور أكثر من نصف قرن من الدمج القسري والهدوء النسبي، بدأ بعض الأكراد بحرب عصابات ضد أنقرة في جنوب شرق تركيا عام 1984، تحت راية «حزب العمال الكردستاني». وتستمر هذه الانتفاضة العقيمة، بصورة متقطعة وغير منتظمة، حتى يومنا هذا.
وفي العراق، [قامت حكومة رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم بحملة عسكرية على معاقل الزعيم الكردي مصطفى البارزاني في شمال البلاد عام 1961، في أعقاب فشل المناقشات حول منح الأكراد بعض مطالبهم القومية. واستمرت حكومات الرؤساء عبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف وأحمد حسن البكر في اتباع هذا المسار، على الرغم من توقيع اتفاقيتين - بين الأكراد والحكومة المركزية في بغداد في عامي 1964 و 1970 - تضمنتا منح الأكراد حقوقاً ثقافية والإسهام في الحكم وبعض الحقوق الأخرى]. وقد ثار الأكراد ضد الحكومة المركزية بدءاً في السبعينيات ومرة أخرى في أعقاب "حرب الخليج" عام 1991، بعد حملة الأنفال للإبادة الجماعية التي شنها صدام حسين ضدهم في عام 1988. وتعرّضت مقاومتهم للخطر بسبب انقسامات داخلية بين المنافس الرئيسي «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و«الاتحاد الوطني الكردستاني»، بلغت ذروتها في حرب أهلية مصغرة بين الأشقاء خلال عام 1996. غير أنه تحت غطاء جوي أمريكي، نجح أكراد العراق حالياً في الحصول على إقليم مستقر نسبياً يتمتع بحكم ذاتي، وهذا الوضع مستمر لفترة دامت ربع قرن، على الرغم من العديد من التحديات الأمنية والاقتصادية الداخلية والخارجية.
ويفتخر «إقليم كردستان» الذي يتمتع بالحكم الذاتي، والذي يبلغ عدد سكانه الأصليين ما يقرب من خمسة ملايين شخص - بالإضافة إلى مليوني لاجئ تقريباً معظمهم من العرب والمشردين داخلياً - بـ «حكومة إقليم كردستان» الخاصة به، مع رئيسها، وبرلمانها، وجيشها (البيشمركة) الخاص بها. لكن اقتصاده القائم على النفط يواجه صعوبات، ومازال يعتمد على خطوط الأنابيب وغيرها من أشكال الدعم من جارتيه تركيا، أو العراق، أو كليهما. وأكثر ما يلفت النظر، بعد مرور عقدين من العلاقات المتوترة جداً والعدائية أحياناً، أن «حكومة إقليم كردستان» وتركيا أصبحتا في السنوات الخمس الماضية من أقرب الأصدقاء، في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية.
وفي سوريا التي تضمّ أصغر تجمّع للأكراد، بالأرقام المطلقة والنسبية على حد سواء، بقي نحو ثلاثة ملايين كردي متركزين في جيوب شمالية على طول الحدود التركية وهادئين نسبياً حتى فترة ليست ببعيدة. وتمكّنوا من شنّ حملة وجيزة من الاحتجاج والعصيان المدني بين عاميْ 2004 و2005، انتهت بعملية قمع قاسية قام بها بشار الأسد. ومع ذلك، فبعد وقت قصير من بدء الانتفاضة السورية في عام 2011، انسحبت قوات الأسد إلى حد كبير من تلك المناطق الكردية، وتركت الأكراد مع نوع من الحكم الذاتي الفعلي الذي ما زال قائماً حتى هذا اليوم.
وللمفارقة، منذ منتصف عام 2014، استفاد الأكراد بوجه عام في كل من العراق وسوريا من ظهور عدو مشترك جديد، ألا وهو: تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش»). ففي آب/أغسطس 2014، كاد تنظيم «داعش» أن يجتاح مدينة أربيل عاصمة «إقليم كردستان»، ولكن تم صده من قبل قوات "البيشمركة" - وبدعم من الولايات المتحدة وإيران. ومنذ ذلك الحين، زوّدت الولايات المتحدة (ودول التحالف الأخرى) القوات الكردية في العراق بمساعدات عسكرية مباشرة، سواء في الجو أو على الأرض، وخففت من إصرارها السابق بأن على «حكومة إقليم كردستان» أن تخضع اقتصادها إلى بغداد. وفي سوريا، قدّمت الولايات المتحدة أيضاً الدعم العسكري المباشر للحزب والميليشيا الكرديين المحليين الرئيسيين اللذين يحاربان تنظيم «الدولة الإسلامية» وهما: «حزب الاتحاد الديمقراطي» و«وحدات حماية الشعب». وتتمثّل النتيجة، سواء كانت مقصودة أم غير مقصودة، بتعزيز الحكم الذاتي للأكراد في كل بلد.
إلا أن النتيجة لم تكن استقلال الأكراد. فالولايات المتحدة ومعظم الدول الأخرى، وخاصة تركيا وإيران ولكن أيضاً فيما يتخطى حدودهما، بالإضافة إلى الحكومتين المركزيتين الضعيفتين في بغداد ودمشق، لا تزال تعارض بشدة هذا الأمر. لذلك، عندما يحذر رئيس «إقليم كردستان» مسعود البارزاني مراراً وتكراراً من الاستفتاء المقبل حول الاستقلال، يميل أكثر المراقبين المطّلعين إلى شطبْ ما يقوله ويصفونه بأنه خدعة أو ورقة مساومة مصممة بشكل ذكي للحفاظ على موقفه الداخلي في الوقت الذي ينتزع فيه أفضل اتفاق ممكن من جيرانه والمحاورين الآخرين.
وعلى نحو مماثل، حين أعلن «حزب الاتحاد الديمقراطي» هذا الشهر عن خطط رسمية لإقامة إقليم كردي "فدرالي" يتمتع بحكم ذاتي في سوريا، نجح في إدارة الإنجاز المميز المتمثل بتوحيد كل واحد من جيرانه في المعارضة، بل أكثر من ذلك: نظام الأسد، والمعارضة السورية، وتركيا، والولايات المتحدة، وحتى «حكومة إقليم كردستان» المنافسة على الجانب الآخر من النهر في العراق. وكانت روسيا هي الوحيدة التي أعلنت أن هذا الأمر قد يكون مقاربة معقولة من أجل التوصل إلى حلّ للحرب الأهلية في سوريا. وفي الوقت نفسه، تجنّب كل من «حزب الاتحاد الديمقراطي» وتركيا عموماً الدخول في أي مواجهات مباشرة عبر الحدود المشتركة بينهما - على الرغم من أن أنقرة تعتبر رسمياً هذا الحزب جزءاً من «حزب العمال الكردستاني» "الإرهابي". إن ذلك يُبقي أكراد سوريا يتمتعون بحكم ذاتي فعلي ولكن ليس بحكم القانون ضمن الرقعة الخاصة بهم في البلاد.
لكن داخل تركيا، تخلت حالياً الحكومة المركزية و«حزب العمال الكردستاني» على السواء وبشكل مأساوي عن مقاربة التوقّف عن القتال التي اعتُمدت بين العاميْن 2013-2015 واستأنفا حرباً مباشرة منخفضة الحدّة. وفي حين يطالب «حزب العمال الكردستاني» بحكم ذاتي للأكراد، عمل «حزب العدالة والتنمية» الحاكم في أنقرة على دراسة احتمال منح المواطنين الأكراد المزيد من الحريات الثقافية والحريات السياسية المحلية على الأقل. وبدا أن الفجوة بين الحزبيْن قد تقلّصت قبل عام واحد فقط لتعود وتبدو الآن متسعة للغاية، غير أنه قد يُصار إلى سدّها يوماً ما - إن لم يكن ربما مع «حزب العمال الكردستاني»، فعندئذ مع الأحزاب الكردية الأصيلة الأخرى، مثل «حزب ديمقراطية الشعوب». وفي هذه الحالة يمكن على الأرجح تطبيق مقولة "لا حل عسكري".
أما الدولة التي لا تنفك تضيّق الخناق ضمن هذه اللائحة، من حيث منح الأكراد حقوقهم، فهي إيران. ونظراً لأن الجمهورية الإسلامية لم تكن يوماً طرفاً في اتفاقية "سايكس بيكو"، لا يمكن لوم هذا الإرث الإمبريالي على الظروف الصعبة التي يعيشها أكراد إيران الذين يتراوح عددهم بين سبعة إلى عشرة ملايين شخص. وعلى الرغم من أنهم يشاركون في ما تمر به السياسة الوطنية الإيرانية، إلا أنهم مُحرمون من أي حكم ذاتي فعلي محلي أو حتى من هوية. فطهران تعيّن حكامهم الذين لا يكونون من الأكراد في أغلب الأحيان. وبالكاد يُسمح لهم باستخدام لغتهم؛ وقد أُجيز افتتاح أول معهد للتعليم العالي باللغة الكردية في إيران في العام الماضي فقط. كما يتمّ قمع أي معارضة علنية بشكل عنيف كما هو الحال في أحداث الشغب التي وقعت في منطقة مهاباد في العام الماضي. يُذكر أن عمليات إعدام الأكراد والكثيرين غيرهم ممن يُعتبرون كفاراً ازدادت بشكل ملحوظ خلال عهد الرئيس حسن روحاني، بعشرة أضعاف من مُعدل كل فرد في المملكة العربية السعودية عبر الخليج. وكالعادة، لا تتوانى إيران عن الانحطاط إلى حدّ استخدام الورقة الطائفية: فالعديد من المواطنين الأكراد المفضلين لديها هم من الشريحة الأقلية الشيعية للأكراد المتمركزة في مدينة سنندج الريفية. ويَطلق بعض الأكراد المناهضين للنظام، من كلا الطائفتين، وبسخرية لقب الجحوش على المتعاونين، كما فعلوا في السابق مع زمرة الأكراد المؤيدين لصدام حسين في العراق.
وفي الخلاصة إذاً، ما هو مصير الأكراد استناداً إلى اتفاقية "سايكس بيكو"؟ يمكن ذكر العديد من النقاط تباعاً، وجميعها ترتكز على التحليل السابق. أولاً، لا تزال الحدود القديمة قائمة على نحو مفاجئ. وببساطة ليس هناك مشروع كردي كامل مطروح لأسباب لا تتعلق بسيادة الدولة فحسب بل بالانقسام<