- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
آن الأوان للتركيز على الحروب المنضوية في إطار الحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»
خلافاً لعدة تأكيدات، قد لا تكون هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية» شديدة التعقيد في المناطق التي سعت هذه الجماعة إلى الاستيلاء عليها في كل من العراق وسوريا وليبيا ودول أخرى. ويعرف هذا التنظيم بـ «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش») الذي نصّب نفسه بنفسه كدولة إسلامية. وإذا نظمت القوات المسلحة المحلية صفوفها وتلقت الدعم الجوي، ستهزم تنظيم «داعش» على أرض المعركة، وبقيامها بذلك ستقوض سمعة هذه الجماعة القائمة على النجاح وتحد من قدرتها على تجنيد العناصر. ولكن هناك عائق واحد يحول دون تحقيق هذا النصر، وهو انعدام الوحدة وقلة الاندفاع من قبل معارضيها.
وفي غياب نشر قوة برية دولية كبرى، ستستمر الجهات الفاعلة المحلية بالتحكم بوتيرة الحرب، مما يعني أن المعركة ستدور وفقاً لجدولها الزمني الخاص وليس حسب الجدول الزمني للولايات المتحدة. ففي حين تعتبر هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية» الهاجس الأكبر بالنسبة إلى واشنطن، إلا أن ذلك لا يشكل الأولوية القصوى لمعظم الجهات الفاعلة المحلية المصطفة ضد التنظيم على الأرض. وحقيقة الأمر هي أنه لا يوجد فريق متماسك من الحلفاء يحارب تنظيم «داعش» وأن هذه الحرب هي فقط واحدة من عدة حروب تدور حالياً أو يتم الإعداد لها في مختلف أنحاء المنطقة. ففي عدة حالات، تحارب الجهات الفاعلة تنظيم «الدولة الإسلامية» فقط للتموضع بشكل أفضل في النزاعات الأخرى.
لقد سعت الولايات المتحدة والائتلاف الدولي الذي يحارب تنظيم «الدولة الإسلامية» في الشرق الأوسط إلى إبقاء الحرب ضد التنظيم بسيطة بقدر الإمكان من خلال التشديد على نقاط التوافق بين الحلفاء وتجنب قضية بناء الدولة. وقد طُلب من المخططين العسكريين في الائتلاف عدم التركيز على أثر الحرب وتشعباتها على المستوى الإقليمي الأوسع، كما ضيِّقت آفاقهم، فأصبحوا أشبه بعربات خيول ينحصر حقل رؤيتها بالطريق الذي تسلكه.
وعلى الرغم من أن هذا الهدف قد يكون مهماً لتشكيل ائتلاف من الغرباء، إلا أن اللاعبين المحليين في العراق وسوريا ودول أخرى ينمو فيها تنظيم «الدولة الإسلامية» (مثل ليبيا وأفغانستان واليمن)، لطالما سمحوا لأنفسهم بأخذ المشهد الاستراتيجي الكامل في المنطقة بعين الاعتبار. فلدى جميع حلفاء الولايات المتحدة وخصومها أهداف أكثر تعقيداً بكثير من تقويض تنظيم «داعش» وهزيمته. وبالنسبة إليهم، تشكل المعركة الحالية لعبة تموضع للعمل الحازم فعلياً الذي سيبدأ سرعان ما يتم إلحاق الهزيمة بتنظيم «الدولة الإسلامية».
وتقوم الأولوية القصوى لمعظم اللاعبين على تعزيز سيطرتهم على الأرض. فالأكراد في سوريا والعراق هم في صدد فرض مطالبهم طويلة الأمد المرتبطة بالأراضي. وتقوم الجماعات المدعومة من إيران على غرار «[فيلق]/منظمة بدر» بإرساء إمارات في مناطق عراقية مثل ديالى وطوزخورماتو. ويسعى أبو مهدي المهندس - أبرز وكيل إيراني في العراق، وإرهابي مدرج على لائحة الولايات المتحدة للإرهاب كان قد تورط في مقتل جنود أمريكيين وبريطانيين - إلى إدراج "وحدات الحشد الشعبي" بسرعة ضمن مؤسسة دائمة جديدة أشبه بوزارة، تملك ميزانية وبنى تحتية، وذلك لدرء خطر التسريح بعد زوال تنظيم «الدولة الإسلامية». فهو يطمح إلى بناء جيش موازٍ جديد مساوٍ لـ «فيلق الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني وتابع له، مما يعزز الجهود الإيرانية الرامية إلى الاستيلاء على القيادة السياسية والدينية في العراق.
ويعزز اللاعبون غير المنتمين إلى الائتلاف أيضاً علاقاتهم مع جهات خارجية داعمة جديدة. فنظام الأسد في سوريا يسعى إلى التكامل مع الآلة العسكرية الروسية. وتتعلم الجماعات الكردية السورية المسلحة كيفية العمل مع الائتلاف الذي تقوده الولايات المتحدة مع إبقاء الخيارات مفتوحة مع الأسد والروس. ومن جهتها، تقوم الجماعات السنية السورية بتوطيد روابطها العسكرية مع المملكة العربية السعودية وقطر وتركيا. وتستمر الجماعات المدعومة من إيران في العراق بترسيخ علاقاتها مع روسيا وإيران. ويرحب الأكراد العراقيون بوجود الائتلاف الدولي على أرضهم، حيث تمركزت مؤخراً قوات برية تركية جديدة، الأمر الذي ولّد مقاومة بلاغية عنيفة من جانب بغداد.
إن استعدادات اللاعبين المحليين للحرب، أو على الأرجح الحروب، المقبلة، تساعد على تفسير التقدم البطيء الذي أُحرز حتى الآن في المعركة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية». فالقادة الأكراد العراقيون يتكلمون بكل صراحة عن معركتهم القادمة مع الميليشيات الشيعية والقوى الأخرى المدعومة من بغداد، على طول الحدود المتنازع عليها مع الحكومة الاتحادية العراقية. وتُبقي "قيادة عمليات بغداد" على ما يقرب من نصف وحداتها العسكرية العراقية الهجومية كقوات احتياط في العاصمة، بالرغم من تراجع خطر شن تنظيم «داعش» هجوم على بغداد. ولِماذا الأمر كذلك؟ الجواب: لمواجهة خطر الميليشيات الشيعية. ويستعد الأكراد في سوريا لحرب مستقبلية ضد تركيا للمحافظة على دويلتهم الفعلية على أرض الواقع على طول الحدود التركية السورية. وستستخدم جميع هذه الجهات الفاعلة الأسلحة التي حصلت أو استولت عليها خلال الحرب الحالية ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» لخوض حروب الغد ضد بعضها البعض.
وليس ذلك الأمر بجديد. فعندما أوقف ستالين قواته خارج وارسو في آب/أغسطس عام 1944 وسمح للنازيين بالقضاء على المقاومة البولندية، كان يفكر مسبقاً بالحرب المقبلة، أي احتلال أوروبا الشرقية والحرب الباردة. ومن جهة أخرى، كان القادة النازيون يأملون باستمرار عقد اتفاق سلام منفصل مع بعض دول الحلفاء إلى حين انتهاء الحرب. وبينما كانت الحرب تشارف على نهايتها، كان الطرفان، الشرق والغرب، يتزاحمان للاستحواذ على الأراضي والتكنولوجيا والتحكم بقادة محليين رئيسيين، واضعين نصب أعينهم "الحرب الباردة" القادمة.
قد تكون المقارنة مع مثال "الحرب الباردة" ملائمة للوضع الحالي في الشرق الأوسط. ولعل أوضح اتجاه في السنوات الأخيرة تمثل باصطفاف الأطراف في نزاع شيعي- سني محتمل وارتباط عدة نزاعات مع بعضها البعض ضمن نسيج واحد.
فمن جهة، هناك "محور المقاومة"، الذي يضم لاعبين مثل إيران و«حزب الله» اللبناني ووكلاء إيران في العراق على غرار «[فيلق]/منظمة بدر» و«عصائب أهل الحق» و «كتائب حزب الله» برئاسة أبو مهدي المهندس. وقد راهنت روسيا على ما يبدو على هذا المعسكر. وكان هذا المحور متحداً ضد العالم السني بشكل واسع ومصمماً على استبعاد القوات الأمريكية من المنطقة. فمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» ليست سوى وسيلة لتحقيق غاية بالنسبة إلى هذه الجماعات، وهي تغطية للعمليات ضد جماعات سنية أخرى ووسيلة لبناء الشرعية في السياسات المحلية. ولا تعتبر هذه الجماعات هزيمة تنظيم «داعش» ضرورة حتمية طالما بقي التنظيم في المناطق السنية.
ومن جهة أخرى، هناك تحالف أقل تماسكاً ولكن في طور النمو يشمل المملكة العربية السعودية وتركيا وقطر والإمارات العربية المتحدة. وتركز هذه الجماعة على محاربة محور المقاومة الشيعي في المقام الأول، وفي حالة تركيا، منع تعاظم النفوذ الكردي في كل من سوريا وتركيا. ويَعتبر هذا التحالف السني تنظيم «الدولة الإسلامية» والعناصر الجهادية الأخرى تهديداً أقل خطراً من التهديد الشيعي، حتى أنه ينظر إلى المقاتلين السلفيين كأداة في بعض الحالات، كما هو الوضع في اليمن حيث يخوض تنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة العربية» حرباً موازية ضد الحوثيين المدعومين من إيران وإلى جانب التحالف العربي الذي تقوده المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، أين يقف الائتلاف الذي تقوده الولايات المتحدة من كل ذلك؟ إنه بمثابة الدخيل غير المنحاز مع - والمصمم على عدم رؤية - التحالفات الطائفية المحلية التي يتضح اصطفافها أكثر فأكثر. فبالرغم من أن واشنطن قد تسعى إلى لعب دور القوة الموازنة بين هذين المعسكرين، تواجه الحكومة الأمريكية خيارات شديدة الصعوبة بين حلفائها السنة التقليديين من جهة واللاعبين الشيعة المتوقع لهم النجاح والذين يشكلون لاعبين أساسيين في الحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية».
كيف يمكن لواشنطن أن تكتسب ثقة الشيعة في العراق وتحافظ عليها، بينما تعمل في الوقت نفسه عن كثب مع حلفائها التقليديين مثل تركيا والمملكة العربية السعودية، علماً أن تركيا تعمل كما يبدو على تقسيم العراق ودعم المتطرفين السلفيين في سوريا، بينما يُنظر إلى المملكة العربية السعودية بأنها تقصف المدنيين الشيعة الزيديين في اليمن دون أي تمييز، من خلال حملة جوية عنيفة، وتقمع المجتمعات الشيعية في منطقة الخليج؟
وفي سيناريو بديل، هل يمكن لواشنطن أن تحافظ على إمكانية الوصول وعلى نفوذها ضمن العالم العربي السني الأوسع إذا ما بدأت بالتعاون، ضمنياً أو علنياً، مع اللاعبين الإيرانيين والروس في سوريا، في حين تبقي هذه الدول نظام الأسد في السلطة وفي الوقت الذي تقوم الميليشيات المدعومة من إيران بعزل السنة في العراق في مناطق وأحياء منفصلة وتحاول تقويض الحكومة المنتخبة؟
في ظل هذه الظروف، يُعتبر تركيز الولايات المتحدة على تنظيم «الدولة الإسلامية» مبرراً نوعاً ما. فالتنظيم يشكل خطراً جدياً على الأمريكيين في ديارهم وفي الخارج، وهو القضية الوحيدة التي تتوافق عليها جميع الأطراف كلامياً والأقل إثارة للحزازيات من بين التحديات التي تواجهها المنطقة. إلا أن تنظيم «داعش» لن يبقى إلى ما لا نهاية ورقة تين تغطي الشروخات المتزايدة التي تبرز في النظام الإقليمي. وبالتالي، لا بد من أن تبدأ الولايات المتحدة الآن في الاستعداد لدرء الحروب المقبلة أو خوضها، لأن خصومها قد بدأوا فعلاً بالتحرك. ويفترض ذلك تحديد مصالح واشنطن طويلة الأمد بوضوح ومحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» بطريقة تدعم هذه الأهداف على المدى الطويل.
وفي سوريا، تقوم المصلحة الاستراتيجية الأساسية لواشنطن على بقاء دولة سورية تتمتع بشرعية أساسية ولن تشكل ثانية ملاذاً أمناً للتنظيمات الإرهابية ومصدِّراً للاجئين. ولا يمكن تحقيق ذلك سوى من خلال التوصل إلى حل للحرب الأهلية يكون مقبولاً من قبل جميع الجهات الإقليمية الفاعلة، وبشكل موازٍ منع أي من هذه الجهات من تحقيق نصر واضح وتام. ولعل الخطوة الأولى للتفاوض حول هذه النتيحة هي فرض التوازن العسكري المستقر في سوريا بطريقة تمنع نظام الأسد وتنظيمي «الدولة الإسلامية» و «القاعدة» من الإطاحة بالمعارضة السنية في شمال غرب سوريا. وفي الوقت نفسه، يجب على الولايات المتحدة أن توسع نطاق تأثيرها على «حزب الاتحاد الديمقراطي» السوري- الكردي وتساعد "القوات الديمقراطية السورية" على تحرير الرقة وهزيمة تنظيم «داعش» في شرق سوريا. وفي ظل الضغوط العسكرية المتزايدة، قد يصبح لاعبو محور المقاومة أكثر استعداداً للتفاوض على رحيل الأسد. ويمكن أن تستكمل الولايات المتحدة هذه الجهود بحملة موازية من شأنها إرغام دول الخليج على دعم عملية وقف إطلاق نار واتفاق سلام مستدامين في الحرب الأهلية اليمنية.
أما في العراق، فقد يكون الحل أكثر بساطة، لا سيما وأن واشنطن تنتهج بالفعل المسار الصحيح بصورة عامة. ينبغي على الولايات المتحدة أن تستمر في تقديم أقصى درجات الدعم لرئيس الوزراء حيدر العبادي - شخصية معتدلة وإصلاحية - وللجيش العراقي، الذي ما يزال أكثر المؤسسات الوطنية احتراماً في العراق واللاعب الرئيسي الذي باستطاعته فرض التوازن في وجه الميليشيات الشيعية. على واشنطن ألا تتخلى عن بغداد أو تلجأ إلى حلول مختصرة تؤدي إلى إضعاف العبادي وتصب في مصلحة الميليشيات، مثل تسليح السنة العراقيين والأكراد مباشرةً. وما زال بإمكان واشنطن مساعدة بغداد على تعيين رئيس أركان قوي للجيش العراقي، تصبح القيادة تحت إمرته أكثر توحداً. ويمكن أن تدعم الولايات المتحدة مطلب العراق في الحصول على تمويل من "صندوق النقد الدولي" و"البنك الدولي" من أجل مواجهة الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد. كما يستطيع الجيش الأمريكي تكثيف ضرباته الجوية لمساعدة العبادي بشكل واضح على تحقيق المزيد من الانتصارات على أرض المعركة في الرمادي والموصل.
إذا كان هدف الولايات المتحدة ومصلحتها في الشرق الأوسط يتمحوران حول محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» فحسب، يمكن عندها اعتبار الاستراتيجية الحالية كافية ووافية. ولكن يجب على الولايات المتحدة أن تأخذ بعين الاعتبار الحروب المتعددة المنضوية في إطار الحرب ضد تنظيم «داعش» والتي بدأت تظهر ملامحها. فالدول الإقليمية تبقى متيقظة، إذ تملك رؤية متوازنة عن اللعبة الجيوستراتيجية طويلة الأمد، وليس فقط قضية تنظيم «الدولة الإسلامية» قصيرة الأمد. ومن جهتها، تحتاج الولايات المتحدة إلى توسيع حقل رؤيتها خارج إطار تنظيم «داعش» تماماً كما تفعل الدول الإقليمية، وذلك لكي يتسنى لها درء النزاعات المقبلة في الشرق الأوسط أو الحد منها أو الانتصار فيها.
مايكل نايتس هو زميل "ليفر" في معهد واشنطن. و قد عمل في كل محافظة عراقية وفي معظم المناطق التي يبلغ عددها المائة، بما في ذلك فترات قضاها ملحقاً بـ "قوات الأمن العراقية" و"البيشمركة"، وكان آخرها مع "قوة المهام المشتركة" لـ عملية «العزم التام».
"وور أون ذي روكس"