- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3958
إدارة ترامب ستحظى بسبل للتعامل البناء مع الفلسطينيين
يبدو أن محمود عباس مستعد للتعاون مع الإدارة الأمريكية القادمة، لكن هل سيكون إرثه النهائي نجاحاً دبلوماسياً، أم سيضطر إلى العودة إلى أداته المتبقية الوحيدة وهي "المقاومة السياسية"؟
يتذكر معظم الفلسطينيين الفترة الأولى من ولاية دونالد ترامب كواحدة من أكثر الفترات مرارة في العقدين الماضيين. فخلال السنوات الأربع التي قضاها في منصبه، تمكن من وقف التمويل الأمريكي لـ "وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" ("الأونروا")، وأغلق مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وأعلن تلك المدينة عاصمة موحدة لإسرائيل. كما نظر الفلسطينيون إلى "صفقة القرن" التي اقترحتها إدارته باعتبارها منحازة ضدهم، حيث عرضت إقامة دولة فلسطينية على 70% فقط من أراضي الضفة الغربية، مما دفع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى رفض الاقتراح بشكل قاطع. وفوق كل ذلك، من المرجح أن يتذكر الفلسطينيون تلك الفترة بشكل سلبي بسبب "اتفاقيات إبراهيم"، التي حطمت المبدأ الذي طالما تبنته الدول العربية بعدم تطبيع العلاقات مع إسرائيل إلى أن يتم حل القضية الفلسطينية.
وعندما أُعلن عن نتيجة الانتخابات الأمريكية الشهر الماضي، هنأ عباس وحركة "فتح" ترامب، مؤكدين على التزام الفلسطينيين بالسلام، ومعربين عن أملهم في أن "تدعم الولايات المتحدة تحت قيادة ترامب التطلعات المشروعة للشعب الفلسطيني". وحتى الآن، يبدو أن عباس لا ينوي مقاطعة ترامب كما فعل من قبل، بل مستعد للانخراط بشكل بناء مع إدارته الثانية. وفي الواقع، أرسل عباس إشارات إلى ترامب عبر قنوات غير مباشرة - مثل السعودية ومصر ومستشار ترامب الجديد لشؤون الشرق الأوسط، رجل الأعمال اللبناني الأمريكي مسعد بولس، الذي تزوج ابنه من ابنة ترامب - بأنه على استعداد لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل للتوصل إلى حل دائم، مع اعتبار "صفقة القرن" نقطة انطلاق محتملة لهذه المباحثات.
ويبدو أن عباس، الذي بلغ التاسعة والثمانين من عمره في تشرين الثاني/نوفمبر، قد حلل الوضع الجيوستراتيجي وأدرك أن الوقت ليس في صالحه أو صالح الشعب الفلسطيني. ومن المرجح أنه يعتقد أنه لن يعيش لرؤية إقامة دولة فلسطينية، ولكنه يرغب على أقل تقدير في ترك إرث يظهر أن المسار الدبلوماسي كان الخيار الصحيح.
وعلاوة على ذلك، يدرك عباس أيضاً أن السنوات المقبلة قد تشهد تحركات من قبل الحكومة الإسرائيلية نحو ضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية، في محاولة لإضعاف السلطة الفلسطينية، وربما حتى إعادة احتلال أجزاء من غزة. لذلك، لم يعد أمامه خيار سوى الاعتماد على رغبة ترامب في إحداث تغيير سياسي واقتصادي في الشرق الأوسط، من المفترض أن يتضمن تفاهمات جديدة بشأن القضية الفلسطينية.
والواقع أن عباس يبدو أنه يعتقد أن الفلسطينيين قد يحصلون على فرص خلال إدارة ترامب القادمة لم تكن متاحة لهم في السابقة. ومن المتوقع أن يواصل ترامب بذل جهد رئيسي بدأه في نهاية ولايته الأولى وهو التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل ودول عربية إضافية، وعلى رأسها السعودية. وقبل حرب غزة، كانت فرص التوصل إلى مثل هذا الترتيب تتزايد دون أن تضطر إسرائيل إلى تقديم تنازلات بشأن القضية الفلسطينية. ولكن الآن، من الصعب رؤية الرياض تمضي نحو إقامة علاقات كاملة مع إسرائيل إذا لم تتم معالجة القضية الفلسطينية. ويأمل عباس أن يطلب ترامب من إسرائيل تقديم "ثمن" بشأن القضية الفلسطينية، سواء من خلال تصريحات أو أفعال، لدفع الترتيب الإقليمي والعلاقات مع السعودية قدماً. علاوة على ذلك، من الصعب أن نتصور رئيس وزراء إسرائيلي، وخاصة بنيامين نتنياهو، يدخل في صدام مع ترامب بشأن هذه القضية.
ولكن الوضع أكثر تعقيداً مما يدركه عباس تماماً، وينبغي أن يثير قلقه. فمن ناحية، غالباً ما بالغ في تقدير ما يمكن للسعوديين أن يفعلوه من أجله. ورغم أن الرياض تريد بالتأكيد أن ترى تقدماً في القضية الفلسطينية، إلا أنها تبدو غير مستعدة لبذل الكثير لتحقيق هذا الهدف، وخاصة وسط الشكوك حول قدرة ترامب على تحقيق معاهدة الدفاع المرجوة بين الولايات المتحدة والسعودية.
وعلى نطاق أوسع، شهد المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط تغييرات كبيرة منذ ولاية ترامب الأولى. وتشير التصريحات الصادرة عن حملة الرئيس المنتخب وفريق السياسة الخارجية الناشئ إلى أنه ينوي دعم سياسات الحكومة الإسرائيلية الحالية، بما في ذلك عناصرها الأكثر تطرفاً؛ ويتمثل ذلك في توسيع المستوطنات وضم أراضٍ في الضفة الغربية؛ ومنع المساعدات للسلطة الفلسطينية حتى لو أدى ذلك إلى انهيار الاقتصاد الفلسطيني؛ والامتناع عن فرض عقوبات على العناصر اليهودية المتطرفة في الضفة الغربية؛ ودعم تشريعات الكنيست التي تهدف إلى منع أنشطة "الأونروا" في الضفة الغربية وغزة.
بالإضافة إلى ذلك، إذا تم طرح "صفقة القرن، النسخة الثانية" على الطاولة خلال فترة ولاية ترامب المقبلة، فمن المرجح أن تتضمن شروطاً أقل ملاءمة للفلسطينيين من النسخة الأولى. وفي "بودكاست" أخير لصحيفة "هآرتس"، وصف السفير الإسرائيلي السابق مايكل أورين محادثات أشار فيها فريق ترامب إلى أن خطة السلام الأصلية بحاجة إلى تغيير في ضوء حرب غزة. وبغض النظر عن نوايا ترامب، فبعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، سيكون من الصعب على إسرائيل تجديد المفاوضات مع السلطة الفلسطينية إذا كان الهدف النهائي هو إنشاء دولة فلسطينية.
على أي حال، إلى أن تصبح الصورة أكثر وضوحاً، من المرجح أن يتجنب عباس اتخاذ خطوات دراماتيكية قد يُنظر إليها على أنها مواجهة ترامب بشكل مباشر. والجدير بالذكر أن "حماس" و"فتح" عقدتا محادثات في الأشهر الأخيرة بهدف إنشاء لجنة من التكنوقراط لإدارة غزة بعد الحرب. وعادة ما تكون هاتان الحركتان معاديتين لبعضهما البعض، لكن لديهما الآن خوف مشترك من أن تحاول إسرائيل السيطرة الدائمة على شمال غزة.
علاوة على ذلك، أعلن عباس مؤخراً أنه في حال عجزه عن أداء مهامه، فإن رئيس "المجلس الوطني الفلسطيني" روحي فتوح سيتولى منصبه بشكل مؤقت لمدة تسعين يوماً إلى حين إجراء انتخابات عامة. ويبدو أن هذا الإعلان كان يهدف جزئياً إلى استرضاء واشنطن، التي ضغطت منذ فترة طويلة على عباس لاتخاذ خطوتين مهمتين: (1) تسمية خليفة له كوسيلة لمنع الصراع بمجرد رحيله، و(2) الشروع بشكل عاجل بإجراء إصلاحات لكي تتمكن السلطة الفلسطينية من أن تصبح بديلاً لـ "حماس" في غزة. ومع ذلك، تجنب عباس تعيين خليفة مفضل واختار بديلاً مؤقتاً بدلاً من ذلك - وهي نقطة خلاف محتملة أخرى بين الفلسطينيين وإدارة ترامب القادمة.
الخاتمة
لقد تعلّم عباس والسلطة الفلسطينية دروساً من الولاية الأولى للرئيس ترامب ويدركان أن المستقبل القريب قد يتضمن نقطة تحوّل تجسّد الشرق الأوسط لسنوات قادمة، مما يؤثر على وضع الفلسطينيين. وبناءً على ذلك، وبدلاً من مواجهة ترامب أو مقاطعته كما فعلوا خلال ولايته السابقة، فإنهم يحاولون التعامل معه وإظهار حسن النوايا، رغم إدراكهم أن المصالح الفلسطينية والطموحات الوطنية ليست من أولويات الرئيس المنتخب. ويتعزز هذا التوجه بخيبة الأمل التي أصابت القادة الفلسطينيين من إدارة بايدن، التي كانت محط آمالهم ولكنها خذلتهم على مدار العام الماضي.
وإدراكاً للتغيرات التي حدثت منذ ولاية ترامب الأولى، يعمل عباس على تقليل الأضرار التي لحقت بالقضية الفلسطينية وحشد الدعم الإقليمي بطريقة قد تدفع برؤيته النهائية إلى الأمام، أو كما ذكر أعلاه، تتيح له ترك إرث من الدبلوماسية الناجحة. إن شريان حياته الرئيسي في هذا الصدد هو المملكة العربية السعودية، التي تلتزم بالقضية الفلسطينية وأظهرت هذا الدعم من خلال التصريحات العامة والتمويل. ويبدو أن عباس يعتقد أن الرياض تلعب دوراً محورياً في التحركات التي يرغب ترامب في اتخاذها في المنطقة وهي: عرقلة النفوذ الإيراني والصيني، وإبرام اتفاقيات ثنائية مع دول الشرق الأوسط، وتوسيع نطاق التطبيع العربي مع إسرائيل. لذلك، سيحتاج ترامب في تعامله مع المملكة إلى تضمين جانب فلسطيني في أجندته. وإذا اشترطت الرياض إجراء المزيد من محادثات التطبيع بمعالجة القضية الفلسطينية، فقد يحقق عباس نجاحاً سياسياً رغم كل التحديات. ولكن مدى التزام السعوديين بهذا الموقف يظل مسألة مفتوحة للنقاش.
ويتعين على جميع الأطراف أيضاً أن تأخذ في الاعتبار إمكانية أن يدفع الفشل في هذا المسار عباس إلى اتخاذ خطوات غير مريحة لإسرائيل والولايات المتحدة، مثل متابعة التدابير السياسية والقانونية على الساحة الدولية (أي "المقاومة السياسية")، وحشد دول الشرق الأوسط إلى جانب السلطة الفلسطينية من أجل تعقيد الاتفاقات الإقليمية، والتعاون مع "حماس" بشأن مستقبل غزة. وتنطوي هذه الخطوات على مخاطر، من بينها تدهور أكبر في استقرار الضفة الغربية والذي من شأنه أن يؤثر على الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء.
نعومي نيومان هي زميلة زائرة في المعهد والرئيسة السابقة لوحدة الأبحاث في "جهاز الأمن العام الإسرائيلي".