- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
الانحلال الكبير
يعاني الشرق الأوسط منذ خمس سنوات من انهيار على صعيدين. أولاً، عجزت الكثير من دول المنطقة عن توفير مؤسسات سياسية فعالة أو فرص اقتصادية لمواطنيها، مما أدى إلى انهيارها عملياً. وتبيّن أن إعادة بناء هذه الدول مهمة شاقة، الأمر الذي دفع إلى حدوث المزيد من أعمال القمع والعنف في مصر، وإلى تقسيم سوريا والعراق على أسس طائفية، وإلى استيطان الفوضى في ليبيا واليمن. ولا يشكل الاضمحلال السياسي والاقتصادي لهذه الدول ظاهرة جديدة، وهو لم يأتِ نتيجة للانتفاضات العربية من عام 2011، بل إن تلك الاضطرابات أدت إلى كشف المشاكل الهيكلية العميقة ومفاقمتها في النهاية، والتي ما انفكت تتأزم خلال العقود الماضية.
ثانياً، انهارت المنظومة الأمنية في الشرق الأوسط. فمنذ "حرب الخليج" في عام 1991، كانت هذه المنظومة قائمة على وجود أمريكي قوي وفاعل في المنطقة، يحظى بدعم دول حليفة قوية ولكنها غير ديمقراطية في معظمها. وكان الطرفان ملتزمَيْن باستراتيجية تقودها الولايات المتحدة وتتمحور أساساً حول الدعم الأمريكي الاقتصادي والأمني المكثّف والتدخل الغربي الفاعل لمواجهة المفسدين الإقليميين، وإقصاء القوى المهيمنة الأخرى من خارج المنطقة، والحفاظ على الوضع القائم في المجالات الأخرى.
بيد أن الاستراتيجية الأمريكية بدأت بالتغيّر منذ هجمات 11 أيلول/سبتمبر، التي دفعت واشنطن ليس فقط إلى التركيز بشكل أكبر على مكافحة الإرهاب، بل أيضاً إلى التساؤل عمّا إذا كان الوضع القائم في المنطقة - خصوصاً غياب التقدم السياسي والاقتصادي الحقيقي في الشرق الأوسط - هو في الواقع مجدٍ ومستدام. وفي حين أن هذا التوجه قد أحرج حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، إلا أن اعتراضهم الأساسي كان على حرب العراق في عام 2003، إذ رأوا أنها أدت إلى تمكين طهران وإلى زيادة عدم الاستقرار في المنطقة.
وقد برز تحول أعمق في عهد الرئيس أوباما، إذ اقترن الإرهاق الذي سببته الحروب مع الأزمة المالية والاكتفاء الذاتي من حيث الطاقة والرغبة في تحويل التركيز إلى آسيا، إلى تراجع الانخراط الأمريكي الاستراتيجي في الشرق الأوسط. وتبين ذلك بشكل ملموس مع الانسحاب الأمريكي من العراق في عام 2011، الذي وصفه الحلفاء الإقليميون بالمتهوّر، وعدم تحرك الولايات المتحدة بشأن "الخط الأحمر" الذي رسمته حول الأسلحة الكيميائية السورية في عام 2013. وفي الوقت نفسه، أدّى تركيز الرئيس أوباما على تحسين العلاقات مع إيران إلى تغيير طبيعية الانخراط الأمريكي في الشرق الأوسط. فقد تخلّت الولايات المتحدة فعلياً عن استراتيجيتها الطويلة الأمد، ولكنها لم تتبع أي استراتيجية بديلة واضحة. وإذا أخذنا في عين الاعتبار أيضاً الإطاحة بحلفاء واشنطن في مصر وغيرها من الدول، يتبيّن أن النتيجة كانت انهيار المنظومة الأمنية في المنطقة.
وقد أحدث هذان الانهياران فراغاً في الشرق الأوسط، إذ فتح تفكك الدول والمؤسسات ثغرة لبروز لاعبين مغرضين، بعضهم مثل تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش») والجماعات المماثلة، التي وجدت مواقع لها ووسعتها في جميع الأماكن التي تشهد صراعات في المنطقة، وآخرون مثل إيران والانتهازيين من خارج المنطقة مثل روسيا. ونظراً إلى تردد الولايات المتحدة في التحرك أو في بناء تحالفات إقليمية فعالة، شكلت قوى المنطقة بنفسها تكتلات خاصة بها ذات أغراض محددة وقائمة على وجهات نظر أو استراتيجيات أو مصالح مشتركة إلى حد ما. وقد سعت هذه التكتلات جاهدة إلى التفوّق، مستخدمةً الإمكانات المتوفرة لديها - بما في ذلك الوكلاء (كما في سوريا) والتدخلات المباشرة (كما في اليمن)- ومن دون مشاورة واشنطن في أغلب الأحيان. وقد سعت هذه التكتلات أيضاً إلى تنويع علاقاتها الدولية، ملتفتةً بشكل متزايد إلى روسيا والصين، لتوسيع حيّز المناورة لديها والحد من خسائرها نظراً إلى السياسة الأمريكية التي لا يمكن التنبؤ بها تجاه المنطقة.
ويبدو أن العودة إلى الوضع القائم السابق غير مرجحة: فتنظيم «الدولة الإسلامية» أصبح مترسخاً، وعلى غرار تنظيم «القاعدة»، من الممكن أن تستمر إيديولوجيته متخذةً أشكالاً جديدة حتى إذا تفكك التنظيم نفسه؛ وتفاقمت الانقسامات الداخلية في سوريا والعراق ومن غير المرجح أن يعود البلدان إلى مَبْنيهما السابقين؛ وازدادت إيران قوةً بسبب الاتفاق النووي؛ وتنشط روسيا والصين بشكل متزايد في المنطقة؛ فضلاً عن أن الضغوط الاقتصادية والسياسية التي ساهمت في اندلاع انتفاضات عام 2011 ما زالت مستمرة، لا بل تفاقمت في الكثير من الحالات، إلا في عدد قليل من الدول التي بذلت جهوداً جدية للإصلاح.
لذلك، يجب على الرئيس الأمريكي المقبل أن يواجه هذه الوقائع وأن يبني استراتيجية للتعامل معها. ومن المفيد إعادة إحياء بعض عناصر الاستراتيجية الأمريكية السابقة - على سبيل المثال، يمكن أن تساهم الجهود الأكثر وضوحاً والأكثر تضافراً لمواجهة إيران في تعزيز الاستقرار الإقليمي وزيادة ثقة حلفاء الولايات المتحدة. وينبغي أيضاً إعادة النظر في عناصر أخرى بعد أن ثبت فشلها طوال عقود. فقد أظهرت السنوات الخمس الماضية على سبيل المثال، أن من مصلحة الولايات المتحدة أن تشجع الإصلاح الاقتصادي والسياسي لتحسين مرونة مؤسسات الدولة وقدرتها على التأقلم.
وبالرغم من أن الصراعات الأخيرة في المنطقة أدت إلى حدوث اضطرابات واسعة، إلا أنها وفرت فرصاً أيضاً، مثل الاستعداد المتزايد لدى حلفاء واشنطن على العمل معاً لمواجهة التهديدات المشتركة. وإذا اقترن ذلك بشكل فعال مع قيادة أمريكية متجددة، فمن الممكن أن يشكل قاعدة لقيام منظومة أمنية جديدة ومتعددة الأطراف أكثر من ذي قبل في المنطقة.
وأخيراً، يجب أن تكون الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، مهما كانت تفاصيلها، طويلة الأمد وأن يوافق عليها الحزبان "الديمقراطي" و"الجمهوري" سياسياً في واشنطن، خشية أن تؤدي السياسة الأمريكية التي لا يمكن التنبؤ بها إلى تفاقم المخاطر في المنطقة بدلاً من الحد منها. لقد اكتسب الشرق الأوسط سمعة مفادها أنه عصيّ عن التغيير، لكن السنوات الماضية أثبتت أن ذلك غير صحيح، فالشرق الأوسط منطقة تغلي بالتغييرات. ولمعالجة مشاكله بشكل فعال، يجب على قادته وعلى صنّاع السياسة الأمريكيين أن يثبتوا أنهم قادرون على التأقلم أيضاً.
مايكل سينغ هو زميل أقدم في زمالة "لين- سويغ" والمدير الإداري في معهد واشنطن.
"سايفر بريف"