- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
اللغة العربية في الجزائر تشعل جدل الهوية بتوابل سياسية
منذ شهر تموز/جويلية/يوليو 2015 تشهد الجزائر نقاش إيديولوجي ساخن بشأن اللغة وعلاقتها بهوّية الجزائريين. وقد أُثير هذا النقاش في أعقاب قرار وزارة التربية استعمال اللغة "العامية" أو "المتكلّمة" في التدريس خلال المراحل الأولى من التعليم الابتدائي. وقد كشف المفتش العام الشؤون التعليمية عن هذا القرار خلال مؤتمر صحفي عُقد في الوزارة وخُصص لعرض توصيات منتدى تربوي عُقد تحت إشراف مباشر من الوزير الأول عبد المالك سلال وخُصص لبحث ضعف النظام التعليمي الجزائري. وقد بررت وزيرة التربية والتعليم نورية بن غبريط رمعون قرار التحول إلى اللهجة العربية بأنه مبنياً على "دوافع بيداغوجية بحتة".
وأكدت بن غبريط بأن اللجوء إلى استعمال اللغة المحلية في المدارس لا يهدف إلى إزاحة اللغة العربية عن مكانتها كلغة رسمية في الجزائر، والتي يحميها الدستور منذ استقلال البلاد عن فرنسا عام 1962. وبدلاً من ذلك، سيكون التدريس في اللهجة العامية العربية بمثابة محاولة لتقريب المعرفة للتلاميذ الجدد استعداداً لتعليمهم اللغة العربية الفصحى في مراحل لاحقة . ووفقاً للوزيرة، يصطدم حالياً هؤلاء التلاميذ وبصورة فجائية باللغة العربية الفصحى في بداية حياتهم الدراسية، على الرغم من أن معظمهم لم يعتاد التكلم في هذه المرحلة سوى بواحدة من مجموعة متنوعة من اللهجات العامية الجزائرية المتأثرة إلى حد كبير باللغات الفرنسية أو الإسبانية أو الأمازيغية.
ومع ذلك، أطلقت تصريحات الوزيرة والتغيير المقترح في المدارس الجزائرية موجة غضب عارمة في جميع أنحاء البلاد لدرجة أن البعض دعا الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى التدخل وإقالة الوزيرة بن غبريط من منصبها.
ويشمل المدافعون عن اللغة العربية الفصحى أنصار التيار الإسلامي وعلى رأسهم "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين"، ورئيس "حركة مجتمع السلم" عبد الرزاق مقري المحسوب على تيار "الإخوان المسلمين"، و"التيار القومي الجزائري" برئاسة عثمان سعدي الذي يشغل أيضاً منصب رئيس "الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة العربية"، والذي يُزعم عنه أنه من قادة التيار البعثي في الجزائر. ويعتقد هؤلاء المدافعين عن العربية الفصحى أن استعمال اللغة العامية في بيئة التدريس هو مجرد مؤامرة ضد العربية الفصحى، التي تعاني بالفعل من التضييق والتهميش مقارنة باستعمال اللغة الفرنسية. ويعتبر العديد من الجزائريين أن الفرنسية هي لغة الاستعمار، وبالتالي غير ملائمة للتعليم. وعلى الرغم من أن معظم الجزائريين يستعملون اللغة الفرنسية في أحاديثهم اليومية، إلا أنهم ينظرون إلى التعليم الذي يجري في اللغة الفرنسية، أو امتداداً لها إلى اللهجات المتؤثرة بالفرنسية، بمثابة استمرار لمسلسل تبعية الجزائر لدولة المستعمر فرنسا.
ويعتقد أنصار العربية الفصحى أن تعليم اللغة العامية "يهدد ثوابت الأمة الجزائرية ويهدد وحدتها". كما يطرحون سؤالاً جوهرياً، بتساؤلهم ما هي اللغة العامية التي ستختارها الوزارة كلغة جديدة للتعليم من بين عشرات اللهجات المحلية. وبالتالي فإن تفضيل لهجة واحدة على أخرى للدراسة يمكن أن يؤدي إلى حدوث انقسامات اجتماعية خطيرة، الأمر الذي يهدد بدوره وحدة وتماسك الجزائريين.
وهناك أيضاً حجج أيديولوجية معارضة لاقتراح وزارة التربية. فقد جاء في تصريح صدر عن «جمعية العلماء المسلمين الجزائريين»: بـ "أن اللغة العربية ركن ثابت من أركان الهوية الحضارية للجزائريين، ولا يجوز الالتفاف عليها تحت أي مسوغ". وفي الوقت نفسه، اعلنت «حركة البناء الوطني» الإسلامية أن "مبادرة تدريس اللهجة العامية على حساب اللغة العربية من شأنها أن تزرع الفوضى في البلاد"، ودعت الرئيس بوتفليقة إلى التدخل من خلال رفع التجميد عن قانون تعميم اللغة العربية. وكان قد تم إقرار هذا القانون في كانون الثاني/يناير 1991، ولكن تم تجميده في 4 تموز/يوليو 1992، إلا أن الرئيس الجزائري السابق اليامين زروال رفع التجميد عن القانون في ذلك العام نفسه، وأنشأ «المجلس الأعلى للغة العربية» في الجزائر لمراقبة عملية استعمال اللغة العربية الفصحى وترقيتها. بيد، إن القانون لم يطبق، وتم حصر نشاط «المجلس الأعلى للغة العربية» في عقد ندوات أدبية فقط.
ويلوم الإسلاميون والتيار القومي العروبي، اللوبي الفرنسي عن الصعوبات التي تواجهها اللغة العربية الفصحى، حيث ينتشر هذا اللوبي بشدة في جميع أنحاء الإدارة الجزائرية. ويعتقدون أن هذه المجموعة قد أحبطت جميع محاولات تعريب الإدارات والمؤسسات الجزائرية الرسمية، كون هذه المؤسسات تتعامل باللغة الفرنسية في المقام الأول، على الرغم من أن إقرار الدستور يدرج اللغة العربية الفصحى كاللغة الرسمية في الجزائر.
ورداً على هذه الحركة الفرنكوفونية، دشن رواد شبكات التواصل الاجتماعي حملة لجمع مليون توقيع على عريضة، تطالب الرئيس الجزائري باستبدال تدريس اللغة الفرنسية باللغة الانجليزية في المدارس الجزائرية. وقالوا إن اللغة الفرنسية تواجه الانقراض حتى في بلدها الأم، في حين أن اللغة الإنجليزية هي لغة العلم والتطور التكنولوجي.
وكان العديد من كبار الشخصيات الجزائرية قد أعربوا علناً أيضاً عن معارضتهم للقرار الأخير باستعمال العامية في النظم المدرسية. وقد ذهب عالم الاجتماع السياسي الجزائري ناصر جابي إلى القول بأن "هذا القرار ليس قراراً وطنياً جزائرياً، بل جاء تحت تأثير ضغوط دولية، وهو مثل العديد من القرارات الأخرى التي فرضت في سياق العولمة والسيادة المنقوصة للدول".
ويعتقد الناقد والروائي الجزائري عمر أزراج أن "ربط ضعف المستوى اللغوي في المنظومة التعليمية باللغة العربية الفصحى، وتحميل هذه اللغة مسؤولية تخلف هذه المنظومة ليس أمراً بريئاً، وإنما هو ترجمة للنوايا المغرضة التي ما فتئت تمعن في التشكيك في قدرة اللغة العربية في أن تكون قوة الأداء الحضاري". بالإضافة إلى ذلك، يربط أزراج القرار الجديد بالتاريخ الطويل للاستعمار بقوله، إن "سيناريو إدراج العامية في التعليم الجزائري لتحطيم اللغة العربية ليس مشروعاً حديث العهد، بل كان مخططاً له في العهد الاستعماري منذ عام 1905، وبرز بعد الاستقلال على مستوى الأفراد وبعض الدعاة من الباحثين والباحثات".
ويبدو أن موجة العداء ضد القرار لها صلة أيضاً بسياسة العداء ضد وزيرة التربية الوطنية نفسها، والتي بدأت منذ الأيام الأولى من توليها المنصب في شهر مايو/أيار من العام الماضي. فبسبب اسم عائلتها "رمعون"، أثار بعض الجزائريين شكوك بشأن أصولها، بحجة أن اسمها الأخير قد يكون "يهودياً".
وعلاوة على ذلك، إن مشاركة بن غبريط رمعون فيما يسمى بـ "لجنة بن زاغو"، التي اعتمدها الرئيس بوتفليقة لإعداد خطة لإصلاح المنظومة التربوية، قد زاد من الانتقادات الموجهة لها. وقد خرجت "لجنة بن زاغو" بتوصيات اعتبرها الإسلاميون "مشروعاً تغريبياً" يهدد ثوابت الأمة الجزائرية. كما أن بن غبريط رمعون قد عرّضت نفسها لمزيد من الانتقادات من خلال ارتكابها أخطاء فادحة حين تحدثها باللغة العربية: فهي بالكاد تستطيع أن تكوّن جملة كاملة باللغة العربية. وقد أدت جميع هذه العوامل إلى الحكم عليها بأنها جزء من مخطط يستهدف اللغة العربية الفصحى.
وفي الطرف الآخر يرى المحسوبون على التيار الفرنكفوني أن حملة التشويه التي يقودها الإسلاميون ضد وزيرة التربية الوطنية تثبت أن الإسلاميين لا يريدون تنفيذ أي إصلاحات في المنظومة التربوية المترهلة بمناهجها الغارقة في هيمنة الإيديولوجية واللغة الواحدة. أما وسائل الإعلام المطبوعة باللغة الفرنسية وبعض الشخصيات السياسية - وأبرزها صحيفة "الوطن" المعروفة، و"الحركة الديمقراطية والاجتماعية" الشيوعية، و "حزب العمال" بزعامة لويزة حنون التروتسكية، والرئيس الأسبق لـ "حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية" سعيد سعدي - فقد أطلقوا عدة حملات لدعم مبادرة الوزيرة. وتفيد تصريحاتهم بأن اللغة العربية فُرضت على الجزائريين، وخلاف ذلك لما كانوا قد تعلموها.
إن أنصار هذا التيار يعتقدون بقوة أن اللغة الفرنسية هي المنقذة الوحيدة للشعب الجزائري من الضلال، ويلقون اللوم على النظام التعليمي الجزائري الحالي لمساهمته في انتشار التطرف الديني، كون البرامج التعليمية تشمل مواداً تحث على الكراهية الدينية. ويربط البعض ذلك إلى جيل من المتطرفين كانوا يقفون وراء مآسي التسعينات، أو ما يعرف بـ "العشرية السوداء"، التي أثرت على الجزائريين وأدت إلى سقوط أكثر من 200,000 قتيل جزائري بسبب الإرهاب.
وعند النظر إلى جوهر وعمق هذا الاستقطاب الإيديولوجي بين مؤيدي الفرنكوفونية من جهة واللغة العربية الفصحى من جهة أخرى، يمكن للمرء أن يجد أن مشكلة اللغة في الجزائر هي قضية سياسية وايديولوجية بالدرجة الأولى، وليست مشكلة تربوية. فالتيار الفرنكفوني الذي حمّل العربية وأنصارها أسباب الخيبات السياسية والاقتصادية والثقافية التي يعاني منها المجتمع الجزائري، عجز عن خلق مشروع حداثي يحرر المجتمع الجزائري من آثار الأصولية التي هددت البلاد خلال عشريتين كاملتين، رغم مواقف أنصارها كأكبر قوة لصناعة القرار في جميع المؤسسات الجزائرية.
وفي المقابل، يستخدم أنصار العربية الفصحى هذه اللغة إلى جانب غيرها من مقومات الهوية التي يفضلونها، كوسيلة لتحقيق أهدافهم السياسية التي تتعلق أساساً بتوسع وانتشار أفكارهم الخاصة في المجتمع الجزائري بدلاً من ترقية اللغة نفسها. وبالنسبة لهم، تصبح اللغة العربية الفصحى وسيلة لتحقيق أجندات سياسية وإيديولوجية خاصة بجماعات سياسية ومذهبية وعرقية معينة. ومن المفارقات، أن أغلب هؤلاء الأنصار يتحدثون الفرنسية، والبعض منهم حتى أرسل أبنائه للدراسة في الجامعات الفرنسية.
ولكن الشئ الأهم في الموضوع هو أن القضايا المرتبطة بالهوّية دائماً ما تثار من قبل السلطات الجزائرية من أجل إبعاد الجزائريين عن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي ما زالوا يعانون منها.
وقد طُرح موضوع اللغة العامية في وقت تعاني فيه الجزائر من أزمة مالية خانقة. فقد خسر الاقتصاد أكثر من 50 مليار دولار في أقل من عام بسبب انهيار أسعار النفط في الأسواق العالمية. وتعتمد الجزائر على عائدات النفط في تحديد 98 في المائة من ميزانيتها العامة، وبرامجها الاقتصادية، الأمر الذي أدى إلى حدوث انكماش اقتصادي عام في أعقاب هبوط أسعار النفط. ومما يزيد من الخطر الاقتصادي، هو انخفاض احتياطي البلاد من العملة الأجنبية من 200 مليار دولار في آب/أوت/أغسطس 2014 إلى 157 مليار دولار خلال الشهر الجاري، ومن المتوقع أن ينخفض إلى 125 مليار دولار بحلول نهاية عام 2015.
بالإضافة إلى ذلك، تَسبب انهيار أسعار النفط في انخفاض غير مسبوق في قيمة العملة المحلية مقابل الدولار. ففي السابق، كان سعر الدولار الواحد يعادل 70 دينار جزائري. أما الآن، فإن سعره يعادل 105 دينار جزائري، الأمر الذي أدى إلى زيادة هائلة في أسعار السلع الاستهلاكية.
وبالتالي، من المتوقع أن تنخفض عائدات البلاد بنسبة 70 في المائة اعتباراً من نهاية هذا العام، مما قد يجبر الحكومة إلى اللجوء إلى "صندوق النقد الدولي" للاقتراض، الأمر الذي يهدد سيادة الدولة من خلال التدخل الأجنبي.
لقد خلق الوضع الاقتصادي الخطير نوعاً من الإرباك لدى الحكومة الجزائرية التي اضطرت إلى الإعلان عن تبني سياسة التقشف. وأمام ضغط المعارضة وتخوف الجزائريين من مستقبل غامض، وجدت الحكومة نفسها مجبرة على خلق نقاشات هامشية لإلهاء الشعب عن التفكير في السيناريوهات المحتملة لمواجهة التداعيات الخطيرة التي تهدد الاقتصاد الجزائري. ولا يوجد ما هو أفضل من المسائل المتعلقة بالهوية لإثارة جدل يلهي الناس عن التفكير في الأزمة التي ستواجه البلاد عام 2018.
وبالعودة إلى قضية تعليم اللغة العربية الفصحى، ينبغي اتخاذ القرارات المتعلقة بهذه المسألة - والتي لها حساسية كبيرة لدى المجتمع الجزائري - بالتزامن مع فتح نقاش تشارك فيه مختلف المجموعات السياسية والثقافية ومنظمات المجتمع المدني. وهذا الحوار سيسمح للبلاد بالوصول إلى توافق يجنّبها من الانقسامات التي تهدد وحدة وتماسك مجتمعها. وفي المقابل، لا ينبغي تطعيم القرارات المستقبلية المتعلقة باللغة بأجندات سياسية وأيديولوجية لفئة واحدة محددة أو أخرى، حيث لا توجد ضمانات بأن مجموعة معينة تمثل معظم آراء الجزائريين.
يجب إبعاد النظام التعليمي الجزائري من التجاذبات السياسية والإيديولوجية الضيقة. كما ينبغي إجراء محاولات الإصلاح من خلال وضع مناهج أكاديمية وفق رؤية استراتيجية تساهم في خلق ثروة بشرية تُخرج البلاد من اعتمادها الكامل على عائدات النفط.
ياسين بودهان هو صحفي جزائري. وقد تم نشر هذه المقالة في الأصل من على موقع "منتدى فكرة".
"منتدى فكرة"