- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2444
المشهد السياسي عقب الانتخابات التركية (الجزءالثالث): خيار «حزب العدالة والتنمية» و «حزب ديمقراطية الشعوب»
أسفرت الانتخابات التركية التي أُجريت في 7 حزيران/يونيو عن قيام برلمان لم يحصل فيه أي حزب على الأغلبية اللازمة لتشكيل الحكومة المقبلة. فقد فاز «حزب العدالة والتنمية» بـ 258 مقعداً يليه «حزب الشعب الجمهوري» بـ 132 مقعداً ثم فصيلين آخرين هما «حزب الحركة القومية» و «حزب ديمقراطية الشعوب» التي حصد كل منهما على 80 مقعداً، علماً أن «حزب ديمقراطية الشعوب» هو ائتلاف مكون من أكراد قوميين وليبراليين. وإذا ما استثنينا إمكانية إجراء انتخابات جديدة، سيتوجب على «حزب العدالة والتنمية» الدخول في ائتلاف مع أحد هذه الأحزاب بغية تشكيل حكومة. وفي مقالين سابقين من "المرصد السياسي" الثلاثية الأجزاء حول هذه الانتخابات، نظرنا في خيار الائتلاف بين كل من «حزب العدالة والتنمية» و«حزب الشعب الجمهوري» و «حزب العدالة والتنمية» و«حزب الحركة القومية». ومع استبعاد قيام أي ائتلاف بين «حزب الحركة القومية» و«حزب ديمقراطية الشعوب» (وبالتالي استبعاد احتمال قيام ائتلاف بين «حزب الشعب الجمهوري»، و «حزب الحركة القومية» و «حزب ديمقراطية الشعوب»)، يبقى البديل النهائي المعقول هو قيام ائتلاف بين «حزب العدالة والتنمية» و«حزب ديمقراطية الشعوب». ورغم أن هذا الأخير قد رفض سابقاً هذه الفكرة، يجدر دراسة مستقبل تركيا المحتمل في حال نشوء هذه الشراكة غير المرجّحة.
عدم قيام رئيس يتّبع نمط رئاسة تنفيذية؛ نقل أوجلان إلى الإقامة الجبرية
في الفترة التي سبقت الانتخابات، صرّح رئيس «حزب ديمقراطية الشعوب» صلاح الدين ديمرطاش (دميرتاز) مراراً وتكراراً أن حزبه سيعطّل خطط الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتحويل البلاد من ديمقراطية برلمانية إلى دولة ذات نظام رئاسي. وإذا ما دخل «حزب العدالة والتنمية» في اتفاق ائتلاف مع «حزب ديمقراطية الشعوب»، سيوافق أردوغان على عدم المضي قدماً بجهوده الرامية إلى تعديل الدستور لتحقيق هذه الغاية، على الأقل في الوقت الراهن. وفي المقابل، سيتعهّد «حزب ديمقراطية الشعوب» بعدم متابعة دعاوى الفساد المرفوعة منذ فترة طويلة ضد أردوغان وأفراد عائلته. بالإضافة إلى ذلك، من المرجّح أن يطلب ديمرطاش الحصول على التزام بتخفيض النسبة الانتخابية المطلوبة لدخول الأحزاب إلى البرلمان والتي تبلغ الآن 10 في المائة، مما يعني أنه إذا خسر «حزب ديمقراطية الشعوب» دعم الليبراليين له بسبب تحالفه مع أردوغان، سيبقى قادراً على كسب المقاعد ضمن السلطة التشريعية في الانتخابات المقبلة.
ولكي يتم إبرام الاتفاق بشكلٍ نهائي مع «حزب ديمقراطية الشعوب»، سيتوجب على أردوغان التعهد بتغيير الوضع القانوني لمؤسس «حزب العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان»، الذي خاضت تركيا حرباً ضده دامت عقود قبل أن تدخل معه في محادثات سلام عام 2012. وقد ألقت تركيا القبض على أوجلان بمساعدة الولايات المتحدة في عام 1999 وقدمته للمحاكمة في العام نفسه، وحكمت عليه بالسجن مدى الحياة. وتعتبر كل من الولايات المتحدة وتركيا، أن «حزب العمال الكردستاني» هو منظمة إرهابية، على الرغم من أن محادثات السلام الجارية يمكن أن تُغيّر في النهاية من ذلك الوضع القانوني. أما الآن، فتشكل الجماعة الجناح المسلّح، وبالتالي المهيمن، في الحركة القومية الكردية في تركيا، لذلك فإن أي اتفاق ائتلاف مع «حزب ديمقراطية الشعوب» - الجناح السياسي للحركة - سوف يتأثر بهذا الواقع. ومن المرجّح جداً أن يَعْرض أردوغان إطلاق سراح أوجلان من السجن ووضعه تحت الإقامة الجبرية، ملمحاً إلى تمتعه بالحرية في النهاية، وبالتالي اجتذابه لمناصري «حزب ديمقراطية الشعوب». ومن شأن ذلك أن يُسفر عن التوصل الى اتفاق مع القوميين الأكراد.
حكومة مقسّمة بين الليبراليين والمحافظين
يتألف الكادر الأساسي لـ «حزب ديمقراطية الشعوب» من قوميين أكراد يساريين غالباً ما يتمتعون بسجل اشتراكي أو حتى ماركسي. وكان برنامج الحزب خلال الانتخابات ليبرالياً بشكلٍ واضح، يهدف إلى توسيع نطاق جاذبيته وكسبه نسبة أصوات تفوق الحد الأدنى المحدد بـ 10 في المائة. وقد نجحت هذه الاستراتيجية إذ فاز الحزب بمقاعد في السلطة التشريعية بنسبة دعم بلغت 13 في المائة. غير أنّ التحول نحو التركيز على التوجه الليبرالي، قد أدخل عدد من الأسماء والأفراد الجدد إلى كادره، بمن فيهم المسيحيين، والعلويين، والناشطين في مجال حقوق المرأة، وحقوق مثليي الجنس، وحقوق الإنسان على نطاق أوسع.
وإذا شكّل «حزب العدالة والتنمية» و«حزب ديمقراطية الشعوب» ائتلافاً، سينضم سياسيو «حزب ديمقراطية الشعوب» الجدد والقدامى إلى حكومة تكون [غالبيتها] مؤلفة من وزراء تابعين لـ «حزب العدالة والتنمية» من اليمين المحافظ، بمن فيهم بعض الإسلاميين. ولا شكّ أنّ مثل هذه الحكومة ذات التنوع الشديد ما بين أعضاء ليبراليين للغاية وآخرين محافظين جداً ستواجه هزّات متكررة فيما يتعلق بالقضايا الاجتماعية، بما فيها التعليم، والسياسة الثقافية، ودور المرأة في المجتمع، والمطالب بحقوق متساوية من قبل العلويين، والمسيحيين، واليهود، وغيرهم من غير المسلمين. وإذا سقطت الحكومة المكونة من «حزب العدالة والتنمية» و«حزب ديمقراطية الشعوب» قبل انتهاء فترة ولايتها، ربما تكون إحدى الأسباب الرئيسية لذلك هي الخلافات حول هذه القضايا.
علاقات أفضل مع أكراد تركيا، والعراق، وسوريا
إنّ الحوار مع «حزب ديمقراطية الشعوب» قد يساعد «حزب العدالة والتنمية» على التخفيف من حدّة التوتر على المستوى الداخلي. فقبل الانتخابات، أنذر بعض المحللون من [مواجهة البلاد] "انتفاضة كردية" محتملة إذا لم ينجح «حزب ديمقراطية الشعوب» في عبور العتبة الإنتخابية لدخول البرلمان، وأشاروا إلى أن «حزب العمال الكردستاني» قد يرفع السلاح مرّة أخرى بهدف تقويض الدولة التركية والمسار الديمقراطي لـ «حزب ديمقراطية الشعوب». وسيمنع الائتلاف بين «حزب العدالة والتنمية» و«حزب ديمقراطية الشعوب» من حدوث هذا الاحتمال ويقوّي «حزب ديمقراطية الشعوب» عبر إيصاله بسرعة إلى الحكومة في حين يوفر للأكراد القوميين سلطة سياسية حقيقية في تركيا. ولأول مرة، سيكون للجناح السياسي المحلي للحركة الكردية فرصة لتحقيق التفوق على الجناح المسلح.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن مثل هذا الائتلاف سيزيد من تحسّن علاقة أنقرة مع «حكومة إقليم كردستان» في العراق. وبالفعل تتمتع روابط تركيا مع «حكومة إقليم كردستان» بالاستقلالية، وتشمل تجارة هائلة الحجم واتفاقات حول الطاقة وعلاقة شخصية بين أردوغان ورئيس «إقليم كردستان» مسعود بارزاني. وستؤدي السلطة السياسية الكردية المتزايدة في تركيا إلى توثيق العلاقات بين أنقرة وأربيل.
إنّ اكتساب «حزب ديمقراطية الشعوب» نفوذاً أكبر سيساعد تركيا فيما يتعلق بالأكراد السوريين. فـ «حزب الاتحاد الديمقراطي»)، الفصيل المهيمن بين أكراد سوريا، هو حزب تابع لـ «حزب العمال الكردستاني» وقد تمكّن مؤخراً من استعادة عدد من الأراضي التي كانت تقع تحت سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية»، جامعاً بذلك منطَقَتيْه المحاصرتين في شمال وشمال شرق سوريا لتشكلا منطقة واحدة متواصلة جغرافياً تمتدّ على طول 250 ميلاً. وقد تشكل هذه المنطقة الحدودية الكردية التي أطلق عليها اسم "روج آفا" رادعاً لتركيا ضدّ تنظيم «داعش».
القتال ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» والأسد؛ تحسين العلاقات الأمريكية- التركية
بالنسبة لـ «حزب العدالة والتنمية»، إن العدو الرئيسي لتركيا في سوريا هو نظام الأسد، في حين أن الخصم الرئيسي لـ «حزب الاتحاد الديمقراطي» هو تنظيم «داعش»، الذي يستمر في مهاجمة الأكراد. وإذا انضم «حزب ديمقراطية الشعوب» إلى الحكومة، سيركز على مساعدة الأكراد السوريين في توسيع نطاق مكاسبهم الأخيرة ضدّ تنظيم «الدولة الإسلامية». ومن شأن ذلك أن يتعارض مع سياسة «حزب العدالة والتنمية» الداعية إلى الإطاحة بالأسد من دون محاربة «داعش» بالضرورة.
وستتفاقم التوترات الناتجة حول سياسة تركيا تجاه سوريا إذا تم تسليم حقيبة وزارة الشؤون الخارجية إلى «حزب ديمقراطية الشعوب»، وهي الحقيبة التي عادة ما تُمنح إلى الشريك الأصغر في حكومات الائتلاف التركية. وقد يتبنّى وزير خارجية تابع لـ «حزب ديمقراطية الشعوب» وبقوة قيم الاتحاد الأوروبي الليبرالية ويدعم سياسة الولايات المتحدة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية». وبالرغم من أن ذلك قد يحسّن بشكلٍ كبير من العلاقات التركية - الأمريكية، من الممكن أن تساهم المواقف المختلفة حول المسألة السورية في سقوط الحكومة المكونة من «حزب العدالة والتنمية» و«حزب ديمقراطية الشعوب» قبل انتهاء فترة ولايتها.
«حزب العمال الكردستاني» أو «حزب ديمقراطية الشعوب» قد يصبحان لاعبيْن سياسييْن رئيسييْن
إن الوصول إلى السلطة من خلال حكومة إئتلافية قد يزيد من قوة «حزب ديمقراطية الشعوب»، سواء بصفة مؤقتة أو على المدى الطويل. وخلافاً لما حصل في أيرلندا حيث نشأ "الجيش الجمهوري الأيرلندي" - الجناح المسلّح للحركة القومية الأساسية - من الجناح السياسي "شين فين" ولا يزال خاضعاً لهذا الحزب السياسي، فإن العكس هو الصحيح بالنسبة للحركة الكردية في تركيا - فقد وُلد «حزب ديمقراطية الشعوب» من «حزب العمال الكردستاني» المسلّح، وما زال تابعاً له. بيد، من خلال دخول «حزب ديمقراطية الشعوب» في حكومة إئتلافية ومنْح القوميين الأكراد إلماماً بما تتضمنه الحقائب الوزارية وغيرها من عناصر القوة السياسية الحقيقية، قد يزداد نفوذ «حزب ديمقراطية الشعوب» على حساب «حزب العمال الكردستاني».
ومع ذلك، فبإمكان أوجلان أن يتسبب بفشل هذه العملية، لا سيما إذا أطلق أردوغان سراحه من السجن فوراً. فمثل هذه الخطوة قد تسمح لأوجلان ولأعضاء الجناح المسلح السابقين أن يصبحوا الأطراف السياسية الكردية المهيمنة في تركيا، مما يؤدي إلى زيادة إدراج «حزب ديمقراطية الشعوب» تحت [هيمنة] «حزب العمال الكردستاني». وفي هذه الحال، قد تواجه البلاد حركة كردية سياسية مسلّحة مزدوجة ممثلة في البرلمان. ومن الممكن أن يؤدي بروز أوجلان السريع على الساحة السياسية إلى تقويض استقرار حكومة «حزب العدالة والتنمية» و«حزب ديمقراطية الشعوب» بشكلٍ كبير. وفي المقابل، إذا تم تأخير إعادة دخول أوجلان إلى معترك السياسة، قد يستمر نمو «حزب ديمقراطية الشعوب» ليصبح الفريق المعارض التركي الرئيسي، مع أنّ ذلك يستلزم أن يحافظ رئيس «حزب ديمقراطية الشعوب» صلاح الدين ديمرطاش على جاذبية الحزب الليبرالية (لكي تصل إلى الأتراك من الطبقة الوسطى) فضلاً عن جاذبيته المحافظة (لكي تصل إلى الأكراد المؤيدين لـ «حزب العدالة والتنمية»)، بينما يتم التأكد من أنّ الإلغاء المحتمل لنسبة 10 في المائة للعتبة الانتخابية لا تستميله لممارسة السياسة الكردية الضيقة الأفق من جديد.
سونر چاغاپتاي هو زميل "باير فاميلي" ومدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن، ومؤلف كتاب "صعود تركيا: أول قوة مسلمة في القرن الحادي والعشرين".