- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2643
التأثير الإقليمي لـ "خطة العمل المشتركة الشاملة": تراجع الثقة في دور الولايات المتحدة لتحقيق التوازن
"يصادف الرابع عشر من تموز/يوليو الذكرى السنوية الأولى لتوقيع الاتفاق النووي مع إيران المعروف بـ "خطة العمل المشتركة الشاملة". وهذا المقال هو الأول في سلسلة من المراصد السياسية التي تقيّم الكيفية التي أثّر فيها الاتفاق على المصالح المختلفة للولايات المتحدة. وستصدر المقالات المقبلة في الأيام التي تسبق الذكرى".
ما زالت أصداء "خطة العمل المشتركة الشاملة" ترتدّ في جميع أنحاء الشرق الأوسط الذي يغدو أقلّ أمناً مما كان عليه في تموز/يوليو الماضي، ويعود ذلك جزئياً إلى التوصل إلى هذا الاتفاق. ولا يكمن الجزء الأكبر من المشكلة في شروط هذه الصفقة، التي ستعقّد أي مجهود إيراني يُبذَل لحيازة القدرة على صنع الأسلحة النووية لعشر سنوات على الأقل. وبالأحرى، تلاحظ المنطقة أنّ تأثيراته السياسية شجّعت، لا بل جعلت إيران تسعى إلى الهيمنة. ولا يخلو هذا الرأي من الصحة، لذلك يُلقى العبء على عاتق واشنطن التي عليها أن تُظهر أن الوضع ليس كذلك. وبشكلٍ عام، تدرك القوى الإقليمية هذا الواقع وقد اختلفت ردود فعلها، ابتداءً من المعارضة الكلية التي أبدتها السعودية، مروراً بالمقاربات المختلطة التي تبنّتها تركيا ودول خليجية أخرى، وصولاً إلى تكيُّف العراق وعُمان مع الوضع. فإلى جانب ما يراه بعضهم على أنّه قيادة أمريكية ضعيفة، يخاطر هذا التخبُّط غير المنسّق على التسبب بالانزلاق نحو فوضى أكبر.
وفي البداية، رحّبت الدول في المنطقة (باستثناء إسرائيل، على الأقل رسمياً) بـ "خطة العمل المشتركة الشاملة"، مع أنّ الترحيب السعودي كان فاتراً في أحسن الأحوال. وانقسمت الشعوب العربية حول الاتفاق، وفقاً لـ "مؤشر الرأي العام العربي" لعام 2015، إذ أبدى 40 في المائة دعمهم له و32 في المائة معارضتهم إياه. وبرر هؤلاء المعارضون موقفهم إلى حد كبير بأن الاتفاق يمكن أن يسهّل المشاغبة الإيرانية. وبشكل مطيع، وقّعت جميع دول الخليج التي حضرت مؤتمر القمة بين الولايات المتحدة و«مجلس التعاون الخليجي» في السعودية في شهر نيسان/أبريل المنصرم نصّاً مؤيداً لـ "خطة العمل المشتركة الشاملة". فكان من الممكن تلمّس غياب الحماس إزاء المقاربة التي تعتمدها أمريكا مع إيران - وهو إحساس يتّضح أيضاً بسبب غياب الملك سلمان عن كلٍّ من "مؤتمر قمة الأمن النووي" لعام 2016 في واشنطن، ومؤتمر القمة الأول بين الولايات المتحدة و«مجلس التعاون الخليجي» في عام 2015 (كما غاب ثلاثة من أصل خمسة رؤساء دول في «مجلس التعاون الخليجي» عن المؤتمر الأخير).
إنّ هذه التأثيرات الكامنة - بالإضافة إلى كون الاتفاق قد أطلق العنان لإيران - وليس أي من تفاصيل "خطة العمل المشتركة الشاملة" هي التي تُقلق كثيراً معظم الدول الإقليمية. وهناك نتيجتان متوقعتان للاتفاق قد تسببتا بهذه التأثيرات. أولاً، منح الاتفاق الوسيلة لإيران لزيادة ثقلها عبر الدبلوماسية والمال والوكلاء والعنف، وبالتحديد من خلال السماح للنظام بالاستفادة من عشرات مليارات الدولارات المتأتية من مكاسب النفط التي كانت محرومة منها ومن الصادرات المتجددة من النفط، ومن خلال السماح له بترك طاولة المفاوضات تعوم بـ "الانتصارات" القابلة للجدل (أي الاحتفاظ بحق تخصيب اليورانيوم وتفادي الاعتراف ببرنامج التسليح الخاص به)، وبالتحول إلى شريك تِجاري عالمي جذاب. وثانياً، أصبحت إدارة أوباما، التي لم تحقق نجاحات دبلوماسية في أماكن أخرى، مدينة جداً لإيران بسبب الاتفاق، لدرجة أنها تفادت مواجهة إيران، والأسوأ من ذلك أنها تنظر إلى الاتفاق كما يبدو على أنه لحظة تحوّل مع طهران، تشبه "الهافانا في الرمال".
بعد الاتفاق الموقت لمجموعة «دول الخمسة زائد واحد» مع إيران عام 2013، وعندما اتّضح احتمال التوصل إلى اتفاق نهائي، ركّز القادة الإقليميون والمحللون الأمريكيون على هذا القلق الثاني، بتسليطهم الضوء على الحاجة إلى إكمال "خطة العمل المشتركة الشاملة" من خلال قوة متجددة لمواجهة العدوانية الإيرانية. وكان هذا التركيز جلياً في الرسالة الخاصة بـ "مشروع إيران" من شهر تموز/يوليو 2015 والتي سبقت الاتفاق ووقّعها أكثر من مئة سفير أمريكي سابق، وفي "البيان العام بشأن سياسة الولايات المتحدة إزاء المفاوضات النووية الإيرانية" من 24 حزيران/يونيو الذي صادق عليه الحزبان الجمهوري والدبمقراطي في الولايات المتحدة وحُرّر برعاية "معهد واشنطن". وكانت الدول الإقليمية أكثر تحفظاً، لكن التقارير أجمعت تقريباً على أن هذه الدول شددت على النقطة نفسها.
وأجابت الحكومة الأمريكية أنها "فهمت الرسالة". وتم التركيز على معارضة "أنشطة ]إيران[ المزعزعة للاستقرار" في كلا البيانين النهائيين لمؤتمريْ القمة بين الولايات المتحدة و«مجلس التعاون الخليجي»، وفي الرسالة التي وجّهها وزير الخارجية جون كيري في 2 أيلول/سبتمبر إلى أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي حيث كتب: "نحن نشارك القلق الذي عبّر عنه الكثيرون في الكونغرس فيما يخص دعم إيران المستمر للجماعات الإرهابية والوكيلة في جميع أنحاء المنطقة، وتأييدها لنظام الأسد في سوريا، وجهودها لتقويض استقرار البلدان المجاورة لها، والخطر الذي تشكّله على إسرائيل. وليس لدينا أوهام بأنّ هذا السلوك سوف يتغير بعد تنفيذ «خطة العمل المشتركة الشاملة»". إلى ذلك، استمرّ المسؤولون في الإدارة الأمريكية، بدءاً بالرئيس، في التشديد على أن الصفقة "تداولية" - وهي عبارة عن "تدابير نووية فقط" يُتّفَق عليها لمرة واحدة، وليست لحظة "تحويلية" تاريخية على غرار زيارة الرئيس نيكسون إلى الصين.
لسوء الحظ، تُناقض إجراءات الإدارة الأمريكية وتعليقاتها منذ ذلك الحين هذه الالتزامات. ففي نيسان/أبريل المنصرم، أشار الرئيس أوباما، في مقابلة مع جيفري غولدبرغ لمجلة "أتلانتيك"، إلى أنه يجب على المملكة العربية السعودية أن تتعلّم "مشاركة" الشرق الأوسط مع إيران. فواقع أنّه يُلقي العبء على الرياض - وهي حليفة للولايات المتحدة كما أنها، مهما كانت شوائبها، مؤيّدة للوضع العالمي الراهن الذي تقوده الولايات المتحدة - بدلاً من إلقائه على إيران، التي تشكل خصماً معروفاً لهذا النظام، هو واقع لافت للنظر.
وفي غضون ذلك، كانت ردود الإدارة الأمريكية على الأزمات التي تولّدها إيران مختلطة منذ التوصل إلى "خطة العمل المشتركة الشاملة"، لكنها تفتقر حتماً إلى ما يتطلبه إقناع الدول الإقليمية المشكّكة بأنّ واشنطن تلاحق التزامات كيري. وفي العراق، مارست الإدارة ما يكفي من السلطة منذ منتصف عام 2015 لإبعاد تنظيم «الدولة الإسلامية» بمساعدة القوات الحكومية، مما أضعف دور الجماعات الشيعية التي تدعمها إيران. كما ساندت الولايات المتحدة جهود «مجلس التعاون الخليجي» في اليمن، ومنعت شحن الأسلحة الإيرانية، وعاقبت إيران (بشكل معتدل) لخرقها أحكام تجارب الصواريخ الخاصة بآلية إنفاذ "خطة العمل المشتركة الشاملة" التي تعتمدها الأمم المتحدة (قرار مجلس الأمن رقم 2231).
بيد، فشلت واشنطن في ردع احتجاز إيران العنيف للطاقم البحري الأمريكي المخطئ في كانون الثاني/يناير المنصرم، وفي الواقع أشادت بالنظام على أعماله أكثر مما أدانته. وبالرغم من التزاماتها تجاه دول «مجلس التعاون الخليجي»، أوقفت الحكومة بيع الطائرات إلى الكويت والبحرين وقطر، وهم الحلفاء الرئيسيين في محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» وردع إيران. ولم تفعل الولايات المتحدة الكثير لمقاومة انتهاكات إيران في لبنان. والأهم من ذلك كله، لم يكن هناك رداً يُذكر من قبل واشنطن على الحلف الإيراني الروسي في سوريا الذي عُقد تماماً بعد "خطة العمل المشتركة الشاملة" وعكَس حظوظ نظام الأسد، وسبّب توتراً ثنائي الأطراف مع تركيا والدول العربية، وأضعف بصورة أكثر التزام الولايات المتحدة للثوار المناهضين للأسد. وباختصار، فبالنسبة إلى أنقرة والقدس ومعظم الدول العربية، يبدو أن إيران تحرز تقدماً على مختلف مسارح الأحداث، من دون أن تتلقى صدّاً أمريكياً ملحوظاً.
ومن دون استعداد البيت الأبيض إلى "التحكم بزمام الأمور"، يتصرف اللاعبون في الساحة الإقليمية على المستوى الفردي. فالسعودية هي الأقوى في مقاومة إيران، إذ تقود حملة اليمن، وتدعم الإطاحة ببشار الأسد، وتبقى بعيداً عن حكومة رئيس الوزراء الشيعي حيدر العبادي في العراق، وتسحب ممتلكاتها المصرفية من لبنان الذي ترى أنه عالق في نطاق التأثير الإيراني. وقد اتبعَت الإمارات العربية المتحدة وفي بعض الأحيان قطر استراتيجيات مماثلة. أما عُمان والكويت فتقفان على الهامش. والأردن متخوّفة من إيران لكنها تواجه مخاطر أكثر إلحاحاً. وتبقى مصر غائبة إلى حدّ كبير عن المنصة الإقليمية. وقد دعمت تركيا اتفاق نووي إيراني سابق ("اتفاق طهران" عام 2010)، لكنها ترى الآن أن إيران هي في الوقت نفسه خصماً إقليمياً وشريكاً تجارياً، كما تعارض بشدة محور الأسد - طهران في سوريا. وبالنسبة إلى إسرائيل، فتقرّ عدة شخصيات رفيعة المستوى، من بينها مسؤولون عسكريون قياديون، أنّ "خطة العمل المشتركة الشاملة" أوقفت بشكل مؤقت السعي النووي الإيراني، على الرغم من أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لم يعترف بهذه النقطة. وفي الوقت نفسه، سعت إسرائيل إلى التودد إلى موسكو، وبقيت محايدة بشكل عام بشأن الأسد، وردّت على حلف إيران و«حزب الله» بغارات عسكرية متكررة إلى حد ما في سوريا.
إن النتيجة لكل ذلك ليست مُرضية. فالإدارة الأمريكية تبدو مهتمّة بشكل أساسي في الحفاظ على الاتفاق وقنواته الجديدة مع طهران، بينما تدير حملتها التي ما تزال محدودة ضدّ تنظيم «الدولة الإسلامية». وإذ تُترك الدول الإقليمية لكي تدير أمورها لوحدها وإذ تواجه هذه الدول إيران وهي تخطو خطوات إلى الأمام، تأتي ردود فعلها بشكل غير متماسك وخطير، مثل إسقاط الأتراك للطائرة الروسية، والنزاع اليمني المستعصي، والغارات الإسرائيلية في سوريا. وبقدر ما سببت "خطة العمل المشتركة الشاملة" حدوث ذلك، فقد سببت أيضاً بالتدهور الأمني في الشرق الأوسط.
جيمس جيفري هو زميل متميز في زمالة "فيليب سولوندز" في معهد واشنطن وسفير الولايات المتحدة السابق في العراق وتركيا.