- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3795
التحدي الذي تطرحه حرب المدن في غزة: الدروس المستفادة من الموصل والرقة
توفر الاختلافات وأوجه التشابه بين ظروف ساحة المعركة في المناطق الحضرية في غزة والعراق وسوريا لصناع القرار السياسي في الولايات المتحدة رؤية واقعية ولكن واضحة حول ما سيلتزمون به بالضبط في دعم الحملة البرية الإسرائيلية.
في 12 تشرين الأول/أكتوبر، حذّر "جيش الدفاع الإسرائيلي" كافة سكان مدينة غزة داعياً إياهم إلى إخلائها في غضون أربعٍ وعشرين ساعة، مما أشار إلى أن تنفيذ عملية برية في المنطقة الحضرية أصبح وشيكاً على الأرجح. وبينما تبدأ إسرائيل المرحلة البرية من حملتها الرامية إلى تدمير "القدرات العسكرية وقدرات الحُكم" التي تتمتع بها حركة "حماس" (على حد تعبير مكتب رئيس الوزراء)، فمن الحكمة أن يراجع المسؤولون والمراقبون الدروس المستفادة من ساحات المعارك الحضرية الأخرى التي تم خوضها مؤخراً.
مقارنة ساحة المعركة والخصم في غزة
إن كل معركة حضرية هي معركة فريدة بحدّ ذاتها يحددها مخطط المدينة والتضاريس البشرية والقوات فيها، لذا من المفيد كخطوة أولى مقارنة غزة وقواتها المعنية مع ساحات المعارك الأخرى والمقاتلين الآخرين في المناطق الحضرية. فمع أن مساحة قطاع غزة تبلغ 363 كيلومتراً مربعاً بالإجمال، يشير تعدد المناطق شبه الحضرية وذات الكثافة الأدنى التي تقع ضمنه إلى أنه من الأدق اعتبار ساحة المعركة الحضرية كشبكة مؤلفة من أربع إلى ست مناطق أصغر حجماً، وأكبرها مدينة غزة التي تغطي نحو ٥٢ كيلومتراً مربعاً، بالإضافة إلى عددٍ من المناطق التي تبلغ مساحتها ١٣ كيلومتراً مربعاً (على سبيل المثال، خان يونس ورفح). وهذا يجعلها أصغر حجماً إلى حدٍ ما من ساحتَي المعارك الحضرية السابقة في شرق الموصل وغرب الموصل في العراق (حوالي 77.7 كيلومتراً مربعاً لكل منهما)، وذات مساحة موازية تقريباً لمساحة الرقة في سوريا، أي "العاصمة" السابقة لتنظيم "الدولة الإسلامية". إلا أن عدد سكان غزة البالغ نحو مليونَي نسمة يعادل عدد سكان الموصل في عام 2014 تقريباً، عندما سقطت المدينة في أيدي تنظيم "الدولة الإسلامية". وبعبارات أخرى، تتفوق مدينة غزة إلى حدٍ كبيرٍ على غيرها من بيئات المعارك الحضرية الأخيرة من حيث الكثافة السكانية - على الرغم من أنه غير الواضح ما الذي سيكون عدد السكان الذين سيبقون هناك بعد أمر الإخلاء الإسرائيلي وبداية المعركة.
تُعتبَر غزة أيضاً ساحة معركة حضرية معقّدة بشكلٍ غير عادي، بما في ذلك على صعيد البُعد الثالث. فمدينة غزة تضم نحو ستين مبنًى بارتفاع ستة طوابق أو أكثر، مقارنةً بعدم وجود أيٍ من هذه المباني تقريباً في معركة الموصل بين عامَي 2016 و2017 ومعركة الرقة في عام 2017. كما استثمرت حركة "حماس" جهداً هائلاً في تطوير أنفاق عسكرية تحت القطاع، مما أدى إلى توسيع مساحة المعركة المحتملة إلى حدٍ غير معروف. وإذا أُخِذت هذه العناصر كلها في الاعتبار، سوف يستلزم الاستيلاء على كافة البقع الحضرية في غزة تنفيذ عملية معادِلة لمعركة واحدة بحجم معركة غرب الموصل بالإضافة إلى معركة أو معركتين بحجم معركة الرقة (من غير المؤكد ما إذا كانت هذه المعارك ستتطور بالتتابع أو بالتوازي).
علاوةً على ذلك، تختلف حركة "حماس" عن الخصوم في معركتَي الموصل والرقة وغيرهما من المعارك الحضرية الأصغر حجماً مثل معارك عين العرب "كوبانى" ومنبج والرمادي والفلوجة. ولا شك في أنها تتساوى مع تنظيم "الدولة الإسلامية" من حيث القدرة على تنفيذ التفجيرات الانتحارية، وربما تتفوق عليه في الحرب المضادة للدروع وعمليات الطائرات بدون طيار والدفاع الجوي. وفي حين أن تنظيم "الدولة الإسلامية" كان لديه نحو عامين للاستعداد على الصعيد الدفاعي في الموصل والرقة، أمضت حركة "حماس" خمسة عشر عاماً لإعداد "دفاع في العمق" ومكثَّف يجمع بين التحصينات الأرضية وتحت الأرض وفوقها وأنفاق الاتصالات ومنصات المَدافع ومواقع القتال، بالإضافة إلى حقول الألغام المحتملة والعبوات الناسفة المحسنة والألغام المضادة للدروع والعبوات المتفجرة الخارقة والمباني المفخخة.
وعلى نفس القدر من الأهمية، تحتجز "حماس" أكثر من مائة رهينة إسرائيلية وأجنبية وفقاً لمعظم التقارير، بما في ذلك بعض الأمريكيين - وهو الأمر الذي يتسم بتعقيد لم يسبق له مثيل. وفي الثالث عشر من تشرين الأول/أكتوبر، زعمت "حماس" أن ثلاثة عشر سجيناً، "بمن فيهم أجانب"، قد قتلوا في غارات جوية للجيش الإسرائيلي خلال الأربع والعشرين ساعة التي سبقت ذلك اليوم، في محاولة واضحة لردع إسرائيل عن استخدام قوتها الجوية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن موقف سكان غزة غير مؤكد. ففي العراق وسوريا، سعى معظم سكان المناطق الحضرية جاهدين إلى الابتعاد عن الجيوب الدفاعية لتنظيم "الدولة الإسلامية"، لكنهم مُنعوا من القيام بذلك وتم استغلالهم كدروع بشرية. وعلى الرغم من أن "حماس" قد تستخدم الرهائن الأجانب بنفس الطريقة تقريباً، إلا أن بعض مواطني غزة على الأقل قد يميلون إلى البقاء في المناطق الحضرية عن طيب خاطر، بل ويدعمون التنظيم بشكل إيجابي أو سلبي، الأمر الذي قد يشكل تعقيداً كبيراً. وفي الواقع، حثت سلطات "حماس" السكان على تجاهل تحذير الإخلاء الإسرائيلي.
قد يكون أحد الاختلافات الرئيسية الأخرى هو جودة قوات الهجوم ومعرفتها العميقة للبيئة. ففي معركتَي المدينتين العراقية والسورية المذكورتين أعلاه، كان المهاجمون البريون في معظم الأوقات عبارة عن قوات مشاة خفيفة غير مجهَّزة وشبه مدرَّبة (باستثناء المعارك التي شاركت فيها "قوات العمليات الخاصة العراقية" أو وحدات معينة من "قوات سوريا الديمقراطية"). وعلى هذا النحو، لم تكن هذه القوات مستعدة بشكل كافٍ لمواجهة تعقيد وحداثة تلك البيئات الحضرية. وحتى في أفضل الأحوال، عندما تم تزويد هذه القوات بمعلومات استخباراتية أمريكية تم الحصول عليها من خلال ثماني سنوات من الاحتلال وثلاث سنوات من المراقبة المكثفة، إلّا أنها ربما لم تكن على علم جيد مثل "جيش الدفاع الإسرائيلي" بشأن غزة - وهي المنطقة التي نفذت فيها إسرائيل حربين سابقتين وعقوداً من المراقبة المستمرة. ويختلف "جيش الدفاع الإسرائيلي" من الناحية النوعية عن الشركاء الذين عملت أمريكا "بواسطتهم ومعهم ومن خلالهم" في العراق وسوريا. وسيتم اختبار مدى هذا الاختلاف بدقة عبر القتال الوشيك، لكن يبدو أن "جيش الدفاع الإسرائيلي" هو القوة الأكثر تماسكاً وتجهيزاً واستعداداً لخوض المعارك الكبرى في المدن، منذ أن خاض الجيش الأمريكي بنفسه "معركة الفلوجة الثانية" المدمرة للغاية في تشرين الثاني/نوفمبر 2004.
الدروس المستفادة من معارك المدن الأخيرة
مع أن الاختلافات المذكورة أعلاه تؤكد مخاطر الاعتماد المفرط على المقارنات التاريخية، يمكن أن يستخلص المرء عدة دروس مهمة من المعارك الحضرية التي دارت مؤخراً في الشرق الأوسط:
- من شبه المستحيل تجنب تدمير المناطق الحضرية. تشير الأيام الأولى التي شن فيها "جيش الدفاع الإسرائيلي" ضرباته على غزة إلى أن إسرائيل مستعدة لإحداث أضرار مادية هائلة سعياً لتحقيق أهدافها العسكرية. وحتى لو تغير ذلك في بداية المرحلة البرية، إلّا أن كل معركة حضرية تنتهي بالاختيار بين إنقاذ البيئة المادية وإنقاذ أرواح القوات الصديقة. فعند مواجهة مثل هذا القرار، يلجأ المهاجمون عموماً إلى الخيار الأخير، خاصةً حين يشعرون بالتعب. وفي غرب الموصل - التي تعتبرها الوكالات الإنسانية معركة مدمرة للغاية - أكدت الأمم المتحدة أن أكثر من 13 ألف مبنى قد تم هدمها أو أصبحت غير صالحة للسكن خلال حوالي 180 يوماً من المعارك. وفي منطقة الرقة الأكثر تركزا، بلغ العدد 11 ألف (أو 80 بالمائة من مباني المدينة) خلال 90 يوماً. وفي غزة، أفادت السلطات المحلية أن 535 مبنى قد تم تدميرها أو أصبحت غير صالحة للسكن بعد خمسة أيام من الحرب - وهذا العدد ليس بعيداً على الأرجح عن الهدف إذا حكمنا من خلال الصور المأخوذة من الغارات الجوية المقدرة بـ 2000 غارة تم شنها حتى الآن (تحديد الأماكن التقريبية لحوالي 400 غارة إسرائيلية كل يوم في فترة بداية الصراع، وزيادتها إلى 750 غارة في 12 تشرين الأول/أكتوبر). ويميل الدمار إلى التسارع عندما تبدأ العمليات البرية وتحتاج القوات إلى الدعم الناري، لذا ستضاهي الأضرار المسببة في غزة تلك التي لحقت بالموصل والرقة أو ستفوقها في النهاية على الأرجح.
- إن التكتيكات والتوقيت وجودة القوات لها أهمية كبيرة. لا رحمة في المعارك الحضرية بشكلٍ خاصٍ عند ارتكاب الأخطاء والشعور بالخمول وعدم تمتع القوات بجودة عالية أو إنهاكها. ففي معركة الموصل، سمحت إساءة التوقيت في الهجمات المركزية على المدينة لتنظيم "الدولة الإسلامية" بحشد قوته الكاملة ضد كل هجمة عراقية متجزئة، وهو خطأ لم يتم تصحيحه إلا في وقت متأخر من المعركة. لذلك، لم يتم استغلال المكاسب والفرص الآنيّة لتحقيق أي تقدّم؛ فكانت مساهمة التشكيلات الأضعف ضئيلة، بينما انتهى الأمر بالقوات ذات الجودة الأعلى إلى تحمل وطأة القتال والإصابة بالإرهاق والتعرض للتدمير.
- غالباً ما كان يتم توفير مخرج للعدو. في منبج والرقة والفلوجة وعدة معارك صغيرة أخرى، عادةً ما كان يُترك لقوات تنظيم "الدولة الإسلامية" ممر للهروب. ومع أن هذا الأمر لم يكن مريحاً للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، والذي أراد القضاء بشكلٍ حاسمٍ على التهديد المتأتي من هذا التنظيم، كانت تلك التقنية مفيدة للتشظية فساهمت في إنقاذ الأرواح وتقليل الأضرار وتقصير المعارك. وفي المقابل، لم يستغل تنظيم "الدولة الإسلامية" فرص الهروب في بعض المعارك مثل معارك الموصل وهجين والباغوز؛ وكنتيجة لذلك، حُوصر بعض المقاتلين، بينما اندمج آخرون مع السكان المدنيين.
- دعمت الولايات المتحدة المعارك الحضرية الطويلة والمدمرة. في الحرب ضد تنظيم "الدولة الإسلامية"، دعمت الولايات المتحدة القتال في المدن لمدة 277 يوماً في الموصل، و90 يوماً في الرقة، و23 يوماً في منبج. وفي المقابل، ضغطت واشنطن والجهات الفاعلة الدولية الأخرى على إسرائيل لإيقاف عمليتها في غزة في كانون الأول/ديسمبر 2008 بعد 22 يوماً، ولإيقاف عمليتها في عام 2014 بعد 49 يوماً، مع أن هاتين العمليتين كانتا أقل تدميراً من كلٍ من العمليات الحضرية الثلاث ضد تنظيم "الدولة الإسلامية".
التداعيات على السياسة الأمريكية
حتى لو كانت العمليات البرية الإسرائيلية ناجحة في البداية، كما هو الحال في المرحلة الأولى من حرب المدن، على المسؤولين الأمريكيين افتراض أن الحملة ستصبح قريباً أبطأ وأكثر تكلفةً وغير شعبية على الإطلاق - ليس فقط في العالم العربي، ولكن أيضاً في أوروبا وفي النهاية في الولايات المتحدة. وإذا دعمت أمريكا تنفيذ أي عملية برية وكانت تنوي حقاً "الوقوف إلى جانب إسرائيل"، يجب أن تتمسك تماماً بهذا القرار طوال مدة الحملة - على عكس التدخل الذي قادته السعودية في اليمن، والذي دعمته واشنطن في البداية ثم تنصلت منه تدريجياً مع تزايد الغضب بشأن الضحايا المدنيين. ويتطلب طرد معظم عناصر "حماس" من غزة - وهو مكسب جدير بالاهتمام للمجتمع الدولي بأكمله، وليس فقط لإسرائيل - منح "جيش الدفاع الإسرائيلي" المساحة والوقت الكافيين لإكمال المهمة. وإذا لم يحدث ذلك، سيكون كلا الطرفين قد تحمّلا التكاليف الباهظة الناتجة عن العملية البرية من دون تحقيق أي منافع تُذكَر، ولا شك في أن حركة "حماس" ستنفّذ بعدئذٍ جولات مستقبلية من الأعمال الإرهابية والحربية.
بناءً على ذلك، إذا دعمت واشنطن العملية البرية في غزة، لا بد لها من اختيار التحلي بالعزم نفسه الذي أظهرته خلال معارك عين العرب والرمادي ومنبج والرقة والموصل. وقد كشفت الهجمات الإرهابية الأخيرة التي خلّفت أعداداً هائلة من الضحايا في إسرائيل عن طبيعة "حماس" الحقيقية حتى يراها الجميع، بما في ذلك تهديداتها المتزايدة للاستقرار الإقليمي والمصالح الأمريكية، ومعارضتها بتعنّتٍ للتعايش الإسرائيلي الفلسطيني، ودورها النشط في تعزيز مصالح إيران. وإذا كانت واشنطن تؤيد رغبة إسرائيل في القضاء على القدرات العسكرية وقدرات الحُكم التي تتمتع بها هذه الحركة في غزة - مثلما دعم التحالف العالمي الذي قادته الولايات المتحدة القضاء على سيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية" على الأراضي في العراق وسوريا - فعليها قبول واقع أنه لا يمكن تحقيق هذا الهدف من دون إلحاق أضرار كبيرة بالسكان المدنيين في غزة، حتى لو بُذلت أفضل الجهود. والحقيقة المرّة هي أن عدد القتلى المدنيين في غزة - ناهيك عن المخاطر التي يتعرض لها الرهائن والقوات الإسرائيلية - قد يصل إلى المستويات التي شهدتها "معركة الموصل" (تقدر بأكثر من 9000 قتيل)، مما يشكل ثمناً باهظاً يشبه الثمن الذي دفعه الكثير من العراقيين الأبرياء لإلحاق الهزيمة بتنظيم "الدولة الإسلامية".
مايكل نايتس هو "زميل برنشتاين" في معهد واشنطن وأحد مؤسسي منصة "الأضواء الكاشفة للميليشيات" التابعة للمعهد.