- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3305
الولاية القضائية: «المحكمة الجنائية الدولية» و 'الوضع في فلسطين'
لبعض الوقت، ومنذ كانون الأول/ديسمبر على وجه التحديد، تنظر «المحكمة الجنائية الدولية» في مسائل اختصاصها القضائي حول جرائم حرب وغيرها من الانتهاكات الخطيرة المزعومة "التي ارتُكبت في جميع أنحاء أراضي دولة فلسطين". وقد عبّر مسؤولون إسرائيليون وفلسطينيون، وكذلك دول ومنظمات وأفراد مختلفين، عن آرائهم حول هذا الأمر. والآن يتوجّب على "مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية" الرد على هذه الطلبات بحلول 30 نيسان/أبريل، مما يمدد الموعد النهائي الأصلي بسبب جائحة فيروس الكورونا.
وإذا استمرت ملاحقات «المحكمة الجنائية الدولية» بشأن هذه القضايا، فقد يجد مواطنون إسرائيليون وفلسطينيون أنفسهم في قفص الاتهام في لاهاي، ويُحتمل أن يشمل كبار السياسيين والضباط العسكريين. وبالتالي، فإن إلقاء نظرة متعمقة على المحكمة والخلفية القانونية لأسئلتها القضائية العالقة أمور في محلها.
عن المحكمة
تم إنشاء «المحكمة الجنائية الدولية» التي هي محكمة دولية دائمة بموجب معاهدة «نظام روما الأساسي» في 1 تموز/يوليو 2002. وتتمثل سلطتها في "ممارسة ولايتها القضائية على أشخاص فيما يتعلق بأخطر الجرائم التي تثير قلقاً دولياً"، والمعروفة بأنها "جريمة الإبادة الجماعية"، و "الجرائم ضد الإنسانية" و "جرائم الحرب" و "جريمة العدوان". والأهم من ذلك أن ولاية «المحكمة الجنائية الدولية» "مكمّلة للولاية القضائية الجنائية الوطنية".
وحتى كتابة هذه السطور، هناك 123 دولة طرفاً في النظام الأساسي. وقد وقّعت عليه الولايات المتحدة وإسرائيل عام 2000، ولكنهما أبلغتا الأمين العام للأمم المتحدة بعد ذلك بعامين أنهما لن تصادقا عليه، وبالتالي لن تكونا مقيّدتين بأي التزامات تترتب عليه. وبدون هذا التصديق، فإنهما ليستا طرفاً في المعاهدة. أما الدول الأخرى التي ليست أطرافاً في النظام الأساسي، فلديها فرصة للانضمام إليه عبر إيداع صكّ انضمامها لدى الأمين العام للأمم المتحدة.
"الوضع في فلسطين"
في 2 كانون الثاني/يناير 2015، أودع المسؤولون الفلسطينيون صكّ انضمامهم إلى «المحكمة الجنائية الدولية» لدى الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك بان كي مون، الذي أشار إلى أن «نظام روما الأساسي» "سيدخل حيّز التنفيذ لدولة فلسطين في 1 نيسان/ أبريل 2015". وفي الوقت نفسه، أشار إلى أنه "يتعين على الدول أن تتخذ قرارها الخاص فيما يتعلق بأي مسائل قانونية تثيرها الصكوك التي عممها الأمين العام للأمم المتحدة".
وفي 22 أيار/مايو 2018، أحال وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي "الوضع في فلسطين" إلى "مكتب المدعي العام"، مطالباً المدعي العام لـ «المحكمة الجنائية الدولية» "بالتحقيق، وفقاً للولاية القضائية الزمنية لـ «المحكمة»، في الجرائم السابقة والجارية والمستقبلية في إطار السلطة القضائية للمحكمة، والتي تُرتكب في جميع أنحاء أراضي دولة فلسطين". ووفقاً للطلب، فإن "دولة فلسطين تضم الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل عام 1967، كما حددها «خط الهدنة» لعام 1949، وتشمل الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة".
وكما ذُكر أعلاه، فإن أي محاكمات مستقبلية من قبل «المحكمة الجنائية الدولية» بشأن "الوضع في فلسطين" يمكن أن تنطوي على إحضار مواطنين إسرائيليين وفلسطينيين أمام قضاة المحكمة في لاهاي. وعلى الجانب الإسرائيلي، يمكن الشروع في محاكمات ضد شخصيات سياسية وعسكرية حالية أو سابقة، والتي تشمل كبار القادة مثل بنيامين نتنياهو وبيني غانتس. وعلى الجانب الفلسطيني، قد يكون أعضاء من حركة «حماس» وجماعات مسلحة أخرى من بين المتهمين.
ومع ذلك، تقتصر السلطة القضائية لـ «المحكمة الجنائية الدولية» على الجرائم التي يُزعم ارتكابها إما على أراضي الدول التي هي أطراف في «نظام روما الأساسي» (بما في ذلك سفنها وطائراتها المسجلة) أو من قبل مواطني هذه الدول. وبما أن إسرائيل ليست طرفاً في النظام الأساسي، فإن السؤال المطروح حالياً هو ما إذا كان يمكن اعتبار "دولة فلسطين" طرفاً.
في 20 كانون الأول/ديسمبر 2019، وبعد إجراء التدقيق التمهيدي الإلزامي، أعلنت المدعي العام لـ "المحكمة الجنائية الدولية" فاتو بنسودة أنه "تم استيفاء جميع المعايير القانونية... لفتح التحقيق". وبالنظر إلى "المسائل القانونية والوقائعية الفريدة والمثيرة للجدل" لهذه القضية، فمع ذلك قررتْ السعي للحصول على قرار من الدائرة التمهيدية الأولى لـ «المحكمة الجنائية الدولية» "بشأن نطاق الولاية الإقليمية لـ «المحكمة» في وضع فلسطين، والتأكيد على أن 'الأراضي' التي يجوز للمحكمة ممارسة اختصاصها عليها بموجب المادة 12 (2) (أ) تشمل الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة".
وفي اليوم نفسه، نشرت إسرائيل موقفها الخاص في هذا الشأن، بإشارتها إلى أن «المحكمة الجنائية الدولية» لا تملك الولاية القضائية الإقليمية لأن "فلسطين" لا يمكن اعتبارها دولة، ويرجع ذلك أساساً إلى افتقارها إلى السيطرة الفعلية على الأراضي التي تدّعيها. وقدّم الفلسطينيون موقفهم إلى المحكمة في 16 آذار/مارس 2020، وأشاروا فيه إلى العدد الكبير من الدول والمنظمات الدولية التي تعتبر فلسطين دولة، وإلى ضرورة أن تحكم «المحكمة الجنائية الدولية» في ولايتها وفقاً للغرض من نظامها التأسيسي. وسمحت الدائرة التمهيدية أيضاً لسبع دول وست وثلاثين منظمة/فرداً بتقديم ملاحظاتهم بحلول 16 آذار/مارس، مُطالِبة مكتب المدعي العام بالرد بحلول 30 آذار/مارس؛ وتم تمديد الموعد النهائي في وقت لاحق لمدة شهر واحد.
فكرة الدول عن الدولة
إن الدول السبع التي قدمت ملاحظات هي أستراليا والنمسا والبرازيل وتشيكيا [الجمهورية التشيكية] وألمانيا والمجر وأوغندا. وقالت هذه الدول بأن "دولة فلسطين" لا تستوفي حالياً الشروط التي بموجبها يمكن اعتبارها دولة على النحو المقصود في المادة 12 (2) (أ) من «نظام روما الأساسي». يجدر مقارنة هذا الموقف بأنماط تصويتها على عضوية الفلسطينيين في "منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة" ["يونيسكو"] (31 أكتوبر 2011)، وعلى تبني قرار "الجمعية العامة للأمم المتحدة" 67/19 (4 كانون الأول/ديسمبر 2012)، الذي حدد لفلسطين "صفة الدولة المراقبة غير العضو في الأمم المتحدة":
ومن الجدير بالذكر أيضاً علاقة كل دولة بإسرائيل. فقد أقامت ثلاث من الدول السبع - أستراليا وتشيكيا وألمانيا - علاقات قوية بشكل خاص مع إسرائيل، وكثيراً ما كانت متعاطفة مع مخاوفها ومواقفها، قبل وقت طويل من إحالة الوضع الفلسطيني إلى «المحكمة الجنائية الدولية». أما بالنسبة للدول الأخرى، فقد أشارت التقارير الإعلامية إلى علاقات ودية متزايدة بين رئيس الوزراء نتنياهو وقادة النمسا والبرازيل والمجر وأوغندا.
ولم تطلب الولايات المتحدة وكندا، اللتان شاركتا في كثير من الأحيان مواقف إسرائيل في المحافل الدولية، الإذن من «المحكمة الجنائية الدولية» لتقديم ملاحظات بشأن "الوضع في فلسطين" بصفتهما "صديقتا المحكمة". وفي رسالة إلى المحكمة في 14 شباط/فبراير، كررت وزارة الخارجية الكندية الموقف الذي عبّرت عنه لأول مرة بعد أن طلب الفلسطينيون الانضمام إلى «نظام روما الأساسي» - أي أن فلسطين "لا تستوفي معايير الدولة بموجب القانون الدولي وغير معترف بها من قبل كندا كدولة". ووفقاً لبعض التقارير كتب نتنياهو إلى رئيس الوزراء الكندي جوستين ترودو يطلب صراحة إظهار مثل هذا الدعم. وبالمثل، في بيان صدر في 20 كانون الأول/ديسمبر، كرر وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو موقف الولايات المتحدة: "[لا نعتقد] أن الفلسطينيين مؤهلين كدولة ذات سيادة" وبالتالي لا ينبغي أن يشاركوا في المنظمات الدولية بهذه الصفة.
إن الفلسطينيين ليسوا وحدهم في التأكيد على أن «المحكمة الجنائية الدولية» تمتلك الولاية الضرورية. إذ إن موقفهم مدعوم بطلبات "أصدقاء المحكمة" من قبل "جامعة الدول العربية" التي تمثل اثنتين وعشرين دولة، و"منظمة التعاون الإسلامي" التي تمثل سبعة وخمسين دولة (العضوية الفلسطينية مدرجة في هذه الأرقام؛ كما أن سوريا مدرجة أيضاً، على الرغم من التعليق المستمر لعضويتها).
المعايير القانونية الدولية في سياق سياسي
على الرغم من أن القانون الدولي يتميز أحياناً بمواقفه القاطعة، إلا أنه لم يتمكن من تحديد مفهوم الدولة أو الاعتراف بها على نحو دقيق. والقضية الفلسطينية ليست المثال الوحيد لهذه الظاهرة (انظر إلى كوسوفو، على سبيل المثال)، لكنها من بين أكثر الحالات تعقيداً.
ووفقاً للدول التي تدعم موقف إسرائيل، يجب تقييم ولاية «المحكمة الجنائية الدولية» وفقاً لـ «نظام روما الأساسي» و «اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات»، لأن «نظام روما» المذكور هو معاهدة دولية. وهذا يعني اللجوء إلى المعايير التقليدية لمفهوم الدولة بموجب القانون الدولي، والتي تتطلب عادة سيطرة حكومية فعالة على الإقليم المعني. وفي الوقت الحاضر، تمارس "السلطة الفلسطينية" نوعاً محدوداً فقط من السيطرة على أجزاء معينة من الضفة الغربية - وبالتحديد "المناطق «أ» و «ب»" - ولا شيء في قطاع غزة أو القدس الشرقية. وبالمثل، فإن اختصاصها الجنائي في هذه المناطق محدود ولا يمتد إلى الإسرائيليين. ونتيجة لذلك، يصعب تحديد الولاية القضائية "الوطنية" التي ستكمّلها «المحكمة الجنائية الدولية» في هذه الحالة.
ومع ذلك قد تلاحظ المحكمة، النسبية التي تبرز في بعض الأحيان عند تطبيق معايير الدولة. على سبيل المثال، تم الاعتراف بتايوان من قبل خمس عشرة دولة فقط في جميع أنحاء العالم، على الرغم من استيفائها للمعايير التقليدية إلى حد كبير، في حين كانت الصومال لا تزال تعتبر دولة بعد فترة طويلة من انهيار حكومتها المركزية. يجب أيضاً مراعاة الغرض [الذي من أجله أُقِرّت] المعاهدة عند محاولة تفسير أحكامها؛ فقد تأسست «المحكمة الجنائية الدولية» بهدف عدم السماح لادعاءات ارتكاب جرائم خطيرة بالمرور دون تمحيص. فإذا قبِلت المحكمة أن فلسطين تمتلك خصائص كافية لكي تُعتبر دولة، فحينئذ يمكنها أن تقرر أنها تمتلك الولاية للتحقيق في الجرائم المزعومة في الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة، بغض النظر عما إذا كان الجناة المزعومون إسرائيليين أو فلسطينيين.
وفي ضوء هذه التعقيدات، يبدو أن النظر في الحجج القانونية الدولية المتعلقة بـ «نظام روما الأساسي» أو الدولة الفلسطينية بمعزل عن السياق السياسي الدولي الذي يتم طرحها فيه، مهمة شاقة. ولا يبدو من قبيل المصادفة أن البلدان ذات العلاقات الإسرائيلية الجيدة تميل إلى دعم مطالبات إسرائيل القانونية بشأن هذه القضايا، في حين أن الدول التي تشارك الفلسطينيين في اللغة و/أو دين الأغلبية هي التي تدافع عن المناقشات القانونية الفلسطينية.
ويبرز بوضوح اثنان من أكبر التحديات التي تواجه القانون الدولي في هذه القضية. الأول يتعلق بواقع كَوْن بعض المعايير القانونية الدولية أقل وضوحاً من المفاهيم التي تم تطويرها في النظم القانونية المحلية. والثاني هو عدم إنفاذ القانون على المستوى العالمي. ففي بعض مجالات القانون الدولي، لم يتم نقل السلطة القضائية إلى سلطة أعلى من الدول على الإطلاق، أو نُقلت جزئياً فقط، كما يتضح من الالتزام العالمي الجزئي بـ «المحكمة الجنائية الدولية».
ويتجلى هذا الغموض متعدد المستويات بشكل مثالي في "الوضع في فلسطين"، حيث يدّعي كلا الجانبين أن أي حكم مخالف لموقفهما سيشير إلى أن «المحكمة الجنائية الدولية» مسيّسة. ويبقى الأمر الآن متروكاً للمحكمة، ودائرتها التمهيدية الأولى على وجه الخصوص، لكي تصل إلى قناعة بأنها قادرة على البت في مسألة الولاية على أساس الحجج القانونية (الكافية).
ألكسندر لونجاروف هو زميل زائر في برنامج القانون الدولي والأوروبي في جامعة "Vrije Universiteit Brussel"، ومسؤول في "اللجنة الاقتصادية والاجتماعية الأوروبية". وهذا المرصد السياسي يعبّر عن آراء المؤلف فقط ولا يعكس بأي شكل من الأشكال رأي "اللجنة الاقتصادية والاجتماعية الأوروبية" و/أو "الاتحاد الأوروبي"، اللذان لا يمكن تحميلهما مسؤولية أي استخدام لوجهة نظرهما.