- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2878
إنقاذ «إقليم كردستان» أمر حيوي للمصالح الأمريكية والعراقية على السواء
أسفرت الأزمة المستمرة بين الحكومة الاتحادية في العراق و«حكومة إقليم كردستان» عن خسارة هذه الأخيرة الكثير من الأراضي والنفط والسلطة التي بدأت تكتسبها بعد الإطاحة بصدام حسين عام 2003. وفي الإقليم، يخسر القادة الأكراد شرعيتهم، كما أن استمرار «حكومة إقليم كردستان» نفسها قد يكون على المحك نظراً للخلاف السياسي الداخلي والعمليات العسكرية المستمرة من قبل قوات الأمن العراقية.
وعموماً، تتحمل القيادة السياسية في «حكومة إقليم كردستان» بحدّ ذاتها مسؤولية المصائب التي تواجهها. ومع ذلك، يشعر الكثير من الأكراد أيضاً أن الولايات المتحدة خذلتهم، فهي تبدو غير راغبة في التدخل من أجل حماية منطقتهم. فلأكثر من عقدين من الزمن، ساعدت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على إنشاء «حكومة إقليم كردستان» والدفاع عنها، وها هي تحتاج مرة أخرى إلى الإنقاذ - ليس فقط من نفسها بل أيضاً من جيش عراقي تشتد عزيمته ويخضع لنفوذ إيراني كبير. ولأسباب قانونية وجيوسياسية، خلصت واشنطن أساساً منذ فترة طويلة إلى أنه لا يمكنها دعم كافة المكاسب الإقليمية التي حققتها «حكومة إقليم كردستان» عقب عام 2003 في غياب دعم من داخل العراق أو من أوساط الدول المجاورة. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو ما إذا كان المسؤولون الأمريكيون يدركون أنه قد تكون هناك حاجة إلى اتخاذ خطوات طارئة بغية حماية كيان «إقليم كردستان» المكرّس في الدستور من التفكيك أيضاً.
شبح الغزو أو الانهيار الداخلي
على الرغم من أن هذه ليست المرة الأولى التي تواجه فيها «حكومة إقليم كردستان» تهديداً وجودياً، إلّا أن العديد من السيناريوهات الرهيبة - والتي تم دحرها بالكامل على يد قوات الأمن العراقية والميليشيات المرافقة لها، أو تفككها بحسب الخطوط الحزبية، أو انهيارها وسط صراع داخلي بين الأشقاء على فطيرة اقتصادية آخذة في التقلص - تجعل من هذه الأزمة ربما الأكثر حدة حتى الآن. ففي صيف عام 2014، نجحت «حكومة إقليم كردستان» في تخطي سلسلة من الهجمات العسكرية التي شنها تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى جانب المصاعب الاقتصادية الناجمة عن انهيار أسعار النفط وتدفقات اللاجئين الهائلة. وقد تمكنت من الصمود بفضل وحدتها الداخلية والدعم العسكري والاقتصادي الأمريكي.
غير أن «حكومة إقليم كردستان» خسرت اليوم الدعم الدولي الذي تمتعت به في ما مضى بسبب استفتاء على الاستقلال أسيء تقدير تبعاته والذي أصرّ القادة الأكراد على إجرائه الشهر الماضي، على الرغم من المعارضة الأمريكية. كما أن ردود الفعل الساخطة الناتجة عنه قد شجعت قوات الأمن العراقية التي اكتسبت خبرة في ساحات المعركة على إخراج قوات "البيشمركة" الكردية من الأراضي التي سيطرت عليها منذ عام 2014 وإعادتها إلى حدودها الأساسية من عام 2003.
وفي الموازاة، يتأجج التحزب الكردي الجياش على الصعيد المحلي. وفي ظل انسحاب "البيشمركة" من كركوك، لجأ كل حزب من الحزبان الرئيسيان اللذان يسيطران على «حكومة إقليم كردستان»، وهما «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و«الاتحاد الوطني الكردستاني»، إلى وسائل الإعلام والماكينات السياسية التابعة لخصمه الآخر من أجل تبادل اتهامات الغدر والخيانة. وكان اقتراح حزبي بانتزاع معقل «الاتحاد الوطني الكردستاني» من السليمانية من «حكومة الإقليم» قد حظي بتأييد شخصيات وطنية مؤثرة مثل رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي. وفي المقابل، فإن نداء «الاتحاد الوطني الكردستاني» للحصول على الدعم الخارجي قد دق ناقوس الخطر في أوساط مراقبي الشؤون الكردية الذين يذكرون أن هيكلية السلطة الحالية غير المتوازنة لـ «حكومة إقليم كردستان» نتجت عن طلب «الحزب الديمقراطي الكردستاني» مساعدة قوات صدام على طرد «الاتحاد الوطني الكردستاني» من أربيل عام 1996، ومن ثم التماس دعم تركيا في العقد التالي. وبالمثل، أثبتت المدفعية الإيرانية فعاليتها في مساعدة «الاتحاد الوطني الكردستاني» على الاحتفاظ ببعض الأراضي.
وفي ظل توافر الكثير من السلطة والنفط القابلين للاستيلاء الآن، وبروز قيادة أصغر سناً وأكثر طموحاً وأقل براغماتية، يلوح في الأفق شبح إبرام صفقات جانبية وحتى اندلاع حرب أهلية كردية. وبناء على ذلك، يعتمد صمود «حكومة إقليم كردستان» على إقامة وحدة داخلية من أجل وقف استنزاف رأس المال السياسي والاقتصادي، والاستعداد لمواجهة أزمات اقتصادية وشيكة، والتفاوض بصوت واحد في بغداد.
الجميع بحاجة إلى «حكومة إقليم كردستان»
إن صمود «حكومة إقليم كردستان» أمر حيوي لاستقرار العراق والمنطقة الأوسع. وإذا كان يمكن استخلاص أي عبر من السابق فهي أن «حكومة إقليم كردستان» المجزأة تفسح المجال أمام تدخلات إيرانية وتركية من شأنها تقويض سيادة العراق كما حصل في تسعينيات القرن الماضي. فضلاً عن ذلك، حتى لو كانت بغداد تتمتع بالشرعية المحلية المطلوبة، إلّا أنه لا يمكنها أن تفرض من جديد حكماً مباشراً في المناطق الكردية الواقعة في شمال العراق، والتي كانت تتمتع بحكم ذاتي منذ عام 1991. ولتحقيق الاستقرار في البلاد والحكم بشكل فعال، تحتاج بغداد إلى نظير قوي ومعتمد ومسؤول في أربيل. وسواء أدرك العراقيون ذلك أم لا، فإنهم بحاجة إلى سياسيين أكراد في العاصمة لإدخال وجهات نظر ومصالح غربية في هيكلية السلطة التي تهيمن عليها إيران. ومن جانبهم، ربما لا يزال الأكراد يعتقدون أن الحفاظ على «حكومة إقليم كردستان» كجزء من عراق اتحادي هو المسار الأكثر حكمةً - ففي النهاية، صوتوا لصالح الدستور الوطني خلال حقبة ما بعد صدام بنسبة فاقت تلك التي شهدها استفتاؤهم الخاص على الاستقلال.
ولعل الأهم من ذلك أن وجود «إقليم كردستان» مُكرّس في الدستور العراقي، لذلك فإن الدعوات الأخيرة لتقسيمه وممارسة السيطرة الاتحادية على محافظاته الكردية الثلاث تتعارض مع القوانين النافذة. وكما كان من الخطأ بالنسبة لقادة «حكومة الإقليم» أن يوسعوا رقعة الاستفتاء بشأن الاستقلال ليشمل الأراضي المتنازع عليها، كذلك فمن الخطأ بالنسبة لبغداد أن تتخلى عن الدستور وكافة مزاعم التفاوض حول الخلافات لمجرد أن كفة ميزان القوة تميل إلى صالحها حالياً. وكما أشارت وزارة الخارجية الأمريكية في 20 تشرين الأول/أكتوبر، فإن "إعادة تأكيد السلطة الاتحادية على المناطق المتنازع عليها لا تغير وضعها بأي حال من الأحوال - فستبقى موضع نزاع إلى أن يتمّ حل وضعها وفقاً للدستور العراقي". وينطبق الأمر نفسه على الخلافات التي طال أمدها بين أربيل وبغداد على النفط والإيرادات النفطية وتقاسم السلطة.
وعلى الصعيد الجيوسياسي، يتنافى تفكيك «حكومة إقليم كردستان» مع المصالح الأمريكية في المنطقة، خاصة بالنظر إلى رأس المال العسكري والسياسي الكبير الذي استثمرته واشنطن أساساً في تأسيسها وبقائها. فقد برزت «حكومة إقليم كردستان» بفضل ملاذ آمن ساعدت القوات الأمريكية على إقامته وحمايته اعتباراً من عام 1991. وخلال ذروة الحرب الأهلية الكردية بين عامي 1994 و1996، دعت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك مادلين أولبرايت رئيس «الحزب الديمقراطي الكردستاني» مسعود بارزاني وزعيم «الاتحاد الوطني الكردستاني» جلال الطالباني إلى واشنطن لتوقيع اتفاق سلام. وفي وقت لاحق، ساعدت الحماية التي وفرتها الولايات المتحدة الأكراد على الاستفادة إلى حدّ كبير من الإطاحة بصدام حسين عام 2003. وفي الآونة الأخيرة، قامت الولايات المتحدة بحماية أربيل من هجمات تنظيم «الدولة الإسلامية» في عام 2014، ثم قامت بتسليح قوات "البيشمركة" وتدريبها لمواصلة المعركة.
وفي المقابل، لطالما كانت «حكومة إقليم كردستان» حليفاً مفيداً ضد صدام وتنظيم «الدولة الإسلامية» وأعداء آخرين للولايات المتحدة، فضلاً عن قوة معتدلة في السياسة العراقية، على الأقل حتى وقت قريب. وبشكل أوسع نطاقاً، كانت هذه الحكومة بمثابة تجربة أمريكية فريدة في مجال تعزيز الديمقراطية وبناء دولة لا يجب التخلي عنها ببساطة. وكما كتب السيناتور الأمريكي جون ماكين في 24 تشرين الأول/أكتوبر، "إذا لم تستطع بغداد ضمان الأمن والحرية والفرص التي یرغب فیھا الشعب الكردي في العراق، وإذا اضطرت الولايات المتحدة إلى الاختيار بين الميليشيات المدعومة من إيران والأكراد، شركاءنا منذ زمن بعيد، سأختار الأكراد".
الوساطة الأمريكية التي تشتد الحاجة إليها
لا يمكن لبغداد وأربيل التفاوض بمفردهما على نحو عادل نظراً للتطورات المفاجئة ميدانياً، والتي يمكن أن تتعارض مع الدستور في غياب وسيط نزيه وغير متحيز. فبغداد تحقق الانتصارات وتبدو قادرة على دفع القوات الكردية خارج حدود عام 2003 وعزل «إقليم كردستان» اقتصادياً. ويخشى الأكراد أيضاً من عدم قيام بغداد بالتفاوض معهم بحسن نية بسبب ما ولده الاستفتاء الذي أجروه من حقد وضغينة. وطالما تهدد بغداد جدياً بشنّ تحرك عسكري داخل حدود "كردستان 2003" وقطع أوصال المنطقة الاتحادية، فإن فرصة مساهمة المحادثات في تحسين الوضع تكاد تكون معدومة، على الرغم من دعوات بارزاني ورئيس الوزراء حيدر العبادي إلى استئناف المفاوضات وفقاً للدستور.
ولتذليل هذه العقبات التي تحول دون إجراء محادثات مفيدة، على الولايات المتحدة أن توضّح أنه يتعين على «حكومة إقليم كردستان» أن توحّد أقوالها وأفعالها قبل التوجه إلى طاولة المفاوضات. ومن شأن تجميد تطبيق نتائج الاستفتاء وجعل بارزاني يقدم استقالته من منصب رئاسة «حكومة الإقليم»، أن يخففا من التوترات الفورية، ولكن هذه الخطوات لن تجيب على سؤال حول هوية ممثل «حكومة إقليم كردستان» الشرعي في المفاوضات.
يجب على واشنطن أيضاً تذكير الطرفين المعنيين بأنه في حين تشكل الأحداث الراهنة فرصة لإعادة صياغة العلاقات بين العراق و«حكومة إقليم كردستان» على أسس قانونية أكثر صلابةً، فإن معالجة مسائل عملية مثل تدفقات النفط وتقاسم الإيرادات تُعتبر أكثر إلحاحاً. وعلى الرغم من النكسات التي مني بها اقتصاد «حكومة إقليم كردستان» منذ عام 2014، إلّا أنه كان يتعافى ببطء قبل وقوع الأحداث الأخيرة. وإذا ما تعثر مجدداً على المدى القريب، وقامت أربيل في النهاية بحجز رواتب كافة الموظفين الحكوميين، فعندئذ من المرجح أن تندلع احتجاجات جماعية، مع احتمال كبير لتصاعدها إلى أعمال عنف نظراً للشرعية المزعزعة للقادة الأكراد. إن انتشار العنف - أو حتى العجز المطوّل عن دفع د الرواتب وبالتالي الحكم - سيمنح خصوم «حكومة إقليم كردستان» في بغداد العذر الذي يحتاجون إليه لتفكيك الإقليم. ولذلك، يجب على واشنطن حثّ الأكراد على إجراء الإصلاحات التي وعدوا بها في الماضي، لكنهم لم يفوا بها، مثل اعتماد المزيد من الشفافية في قطاعهم النفطي.
وأخيراً، يُعتبر بقاء «حكومة إقليم كردستان» بمثابة خط رجعة بالنسبة للولايات المتحدة إذا خسر العبادي الانتخابات العام القادم ضد منافسيه النافذين الموالين لإيران. وفي إطار هذا السيناريو، من المرجح أن تعلو الأصوات المناهضة للولايات المتحدة في العراق، وقد تصبح «حكومة الإقليم» الشريك الأمريكي الوحيد الموثوق به للحفاظ على سياسة وطنية معتدلة، وعلى استقلال البلاد، وتقويض عودة تنظيم «الدولة الإسلامية». ولتجنب مثل هذه النتائج في عام 2018، على واشنطن أن تكبح العبادي اليوم وتطلب منه عدم تخطي حدود عام 2003 التي يكرسها الدستور لـ«حكومة إقليم كردستان».
بلال وهاب هو زميل "سوريف" في معهد واشنطن.