- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3114
إيجاد منطق لحملة اعتقالات «قوات الحشد الشعبي» في العراق
في الفترة بين 8 و12 شباط/فبراير، أطلق المكتب المركزي لمنظمة مظلة الميليشيات العراقية «قوات الحشد الشعبي» أحدث مرحلة من حملته المستمرة لمكافحة الفساد، حيث اعتقل العديد من قادة الميليشيات وأغلق 100 مقر "وهمي" تابع لجماعات «قوات الحشد الشعبي». وقد سلّطت هذه الخطوة الضوء على استمرار التوترات ضمن داخل شبكة الميليشيات التي يهيمن عليها الشيعة في العراق وتحظى بدعم إيران، علماً أن هذه المشاكل تمتدّ لتطال سوريا.
المحصّنون في العراق
على الرغم من ادعاءاتهم بالنزاهة، اتّضح أن قائمة سوابق العديد من ألوية «قوات الحشد الشعبي» حافلة بضروب الاحتيال والسرقة وغيرها من الأنشطة الإجرامية. ففي آذار/مارس 2018، كانت ميليشيات «قوات الحشد الشعبي» المعترف بها رسمياً تحصل على رواتب مساوية لتلك التي يحصل عليها أفراد الجيش، وهو أمر اعتبرته العديد من العناصر إشارةً لسلب أموال الدولة. كما أقدمت جماعات تابعة لـ «قوات الحشد الشعبي» على بيع هويات خاصة وتصاريح خطية تسمح للمشترين بحمل أسلحة صغيرة.
وحتى أن أكبر ميليشيات «قوات الحشد الشعبي» ترتكب الجرائم بانتظام. فقد سرقت «عصائب أهل الحق» معدات من مصفاة "بيجي" النفطية، ثم تجرأت على محاولة إعادة بيعها إلى الحكومة. وفي شباط/فبراير، نقلت وكالة "رويترز" أن الجماعات الشيعية التابعة لـ «قوات الحشد الشعبي» احتكرت سوق المعادن الخردة قرب الموصل، مما أعاق جهود إعادة الإعمار المحلية في حين ساعدت الميليشيات على كسب ملايين الدولارات.
وفي أيلول/سبتمبر الماضي، أطلقت «قوات الحشد الشعبي» أولى حملاتها لكبح هذه الأنشطة. ووفقاً للموقع الإخباري العراقي "السومرية"، تمّ اعتقال شخص لم يُذكر اسمه وسط ضجة كبيرة وحُكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات بتهمة فتح مقر وهمي لجماعة ادّعى أنها كانت تحت سيطرة «قوات الحشد الشعبي»، ثم استخدم المقر كواجهة لبيع هويات مزيفة. وكان الهدف من هذا الاعتقال إلى جانب حملات القمع التالية هو إقناع عامة الناس بأن الإجرام يقتصر على المنظمات "الوهمية"، مع الإظهار في الوقت نفسه التزام «قوات الحشد الشعبي» برسالتها الأساسية القائمة على مكافحة الفساد - حتى في ظل مواصلة أبرز جماعات «الحشد الشعبي» أنشطتها الاحتيالية.
الولاء إلى العلامة
نجح عدد كبير من الميليشيات المدعومة من إيران في إقامة توازن دقيق بين زرع الخوف وفرض الاحترام من جهة، والاندماج في النسيج الاجتماعي والسياسي في العراق من جهة أخرى. فحماية صورة الميليشيات واسمها أمر بالغ الأهمية لتحقيق هذه الأهداف.
ومن بين هذه الميليشيات «كتائب حزب الله» - منظمة صنّفتها الولايات المتحدة إرهابيةً وتضمّ ثلاثة ألوية من «قوات الحشد الشعبي» (45 و46 و47). وبين عامَي 2014 و2015، نشرت لوائح بجماعات "وهمية" تابعة لها على شبكاتها التلفزيونية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، مؤكدةً أن هذه الجماعات تستخدم اسمها على نحو خاطئ، وطلبت من العراقيين التحقق من جميع أتباعها من خلال الاتصال بالمسؤولين في «كتائب حزب الله» عبر الهاتف.
وفي نيسان/أبريل 2015، زعمت «كتائب حزب الله» أنها اعتقلت " جاسوساً" يدعى كريم الشحماني بالقرب من جرف الصخر. واتّهمته الميليشيا بتلقي الأموال من "وكالة المخابرات المركزية" الأمريكية والاستخبارات الكويتية لتأسيس «كتائب حزب الله الخالدون»، بهدف الإضرار بسمعة «كتائب حزب الله». وسواء كان الاتهام صحيحاً أم لا، فقد أظهر التوترات الناتجة عن مشاكل في علامات الميليشيات.
ومن بين "الجماعات الوهمية" الـ 100 التي تمّ مداهمتها في شباط/فبراير الأخير، زعمت إحداها أنها تمثّل «كتائب الإمام علي» (اللواء 40 في «قوات الحشد الشعبي»)، في حين ادّعت جماعة أخرى أنها جزء من «سرايا الدفاع الشعبي» (اللواء 47) الخاضعة لـ «كتائب حزب الله»، كما ادّعت جماعة أخرى أنها تمثّل «حركة الأبدال» (اللواء 39). وتشكّل هذه الألوية الفصائل الأساسية الخاضعة لإيران ضمن «قوات الحشد الشعبي».
المنشقون عن "التيار الصدري" مشتتون
شكّل المنشقون عن معسكر القائد الشيعي مقتدى الصدر، من «عصائب أهل الحق» إلى «كتائب الإمام علي»، أهدافاً جذابة بشكل خاص بالنسبة لإيران. فباستقطابهم، سعت طهران إلى إضعاف أحد أبرز منافسيها الدينيين والسياسيين في العراق وتعزيز نفوذها وشبكات التجنيد الخاصة بها، فضلاً عن أهدافها الإقليمية.
ومع ذلك، استهدفت أحدث حملة قمع شنّتها «قوات الحشد الشعبي» جماعتين صغيرتين منشقتين عن "التيار الصدري" كانتا في السابق تحت جناح إيران، هما «قوات أبو فضل العباس» و«جيش المؤمل». وكانت الجماعتان قد اتُهمتا بارتكاب جرائم في عامَي 2017 و2018، لكن «قوات الحشد الشعبي» لم تتابع هذه التهم في ذلك الوقت. ورغم أن أياً من الجماعتين لم يكن بحجم أبرز ميليشيات «قوات الحشد الشعبي»، إلا أنهما حافظتا على حضور كبير عبر وسائل التواصل الاجتماعي وأسّستا الشبكات الأولى من المقاتلين الشيعة العراقيين للمشاركة في الحرب السورية بناء على أمر من إيران.
«قوات أبو فضل العباس»: المنظمة الوكيلة "الوهمية"
كان الشيخ أوس الخفاجي من أبرز قيادي "التيار الصدري" سابقاً، لكن سمعته بدأت تتغيّر في عام 2012 حين نأى الصدر بنفسه علناً عن هذا القائد. وبحلول نهاية ذلك العام، انخرط الخفاجي بتأسيس شبكة غير محكمة الترابط من المقاتلين العراقيين الشيعة لنشرها في سوريا. وازداد الطابع الرسمي لهذه الشبكة بعد أن غزا تنظيم «الدولة الإسلامية» الموصل. وفي حزيران/يونيو 2014، أعلن الخفاجي عن تأسيس «قاعدة قوات أبو فضل العباس» (لكن تم إلغاء كلمة "قاعدة" من اسم الجماعة في النهاية). وفي ذروتها في أواخر عام 2014 وأوائل عام 2015، تفاخرت «قوات أبو فضل العباس» بأنها تضم حوالي 2000 مقاتل في العراق وسوريا. وفي حين لم تصنّف الميليشيا رسمياً على أنها لواء تابع لـ «قوات الحشد الشعبي»، اعتُبر الخفاجي عموماً أحد الناطقين باسم «قوات الحشد الشعبي» وقادته عند ظهوره على قنوات التلفزيون.
وفي 7 شباط/فبراير، خرج الخفاجي على موجات الأثير وحمّل إيران مسؤولية اغتيال الروائي العراقي علاء مشذوب في 2 شباط/فبراير على أيدي "مسلّحين مجهولي الهوية". وبعد يوم واحد، أوقفت عناصر «قوات الحشد الشعبي» الخفاجي، علماً أنه حتى تاريخ كتابة هذه السطور لا يزال محتجزاً بمعزل عن العالم الخارجي في مكان مجهول. وبعد اعتقاله، احتجت عناصر من قبيلة عربية شيعية تحمل اسمه في بغداد وجنوبي العراق، محذرة من استخدام القوة إذا لم يُطلق سراحه.
وكان الخفاجي يتحدث في السابق بصراحة عموماً عن روابطه بطهران. فخلال زيارة قام بها إلى لبنان في كانون الأول/ديسمبر 2018، التقى بمسؤولين من «حزب الله»، المنظمة الوكيلة الأبرز لإيران في المنطقة، وأشاد بدعمهم. بعد ذلك، أغدق عليه الموقع الإخباري "العهد" التابع لـ «حزب الله» نقداً رائعاً. لكن بعد اعتقاله، سرعان ما أصبحت هذه الروابط طيّ النسيان. وفي هذا الصدد، قال كريم النوري، قيادي بارز في "منظمة بدر" الخاضعة لسيطرة إيران، لصحيفة "الشرق الأوسط" إن الاعتقال اندرج في إطار سلسلة اعتقالات هدفت إلى إغلاق المقرات "الوهمية" التي تنخرط في عمليات ابتزاز، وتحرّض عامة الشعب، وبالتالي تخلق المشاكل.
وسواء كانت الاتهامات الإجرامية صحيحة أم لا، فإن الادعاء بأن «قوات أبو فضل العباس» ومكتبها كانوا "وهميين" يبدو منافقاً بشكل سافر. ففي إحدى المرات التقط النوري صورةً مع الخفاجي في نفس المقر "الوهمي" الذي ذكره كسبب للاعتقال. كما نشر أنصار «قوات أبو فضل العباس» صوراً للخفاجي بينما كان أبرز قياديي «قوات الحشد الشعبي» يستقبلونه استقبالاً حاراً، بمن فيهم أبو مهدي المهندس (الذي صنفته الولايات المتحدة إرهابياً وقام بتأسيس «كتائب حزب الله» ويتولى منصب نائب رئيس هيئة «قوات الحشد الشعبي»)، وأحمد الأسدي. ولا تزال الشكاوى حول اعتقال الخفاجي ونفاق «قوات الحشد الشعبي» الواضح تظهر في رسائل «قوات أبو فضل العباس»، ولا سيما في سوريا.
«جيش المؤمل»، اللواء الضائع
تردّد أيضاً أن من بين المعتقلين في إطار الحملة التي شنّتها «قوات الحشد الشعبي» في شباط/فبراير، كان سعد سوار قائد «جيش المؤمل» (رغم أن بعض وسائل التواصل الاجتماعي تزعم أنه احتُجز في الشهر الذي سبق). وقد أدّى اعتقاله إلى مضاعفة بعض عناصر الجيش مدحهم لإيران، في حين نأى آخرون بأنفسهم عنه بالكامل.
وخلال حرب العراق عام 2003 وبعدها، قاد سوار خلايا شيعية متشددة مدعومة من إيران في شمال بغداد واعتقلته القوات الأمريكية والعراقية. وبعد هروبه من السجن في عام 2011، التمس اللجوء إلى إيران حيث وسّع علاقاته هناك. وفي عام 2012، سافر إلى سوريا وأصبح مجنداً وقائداً لعدد من الجماعات المنشقة المشتتة عن "التيار الصدري"، بما في ذلك «قوات التدخل السريع» و«لواء أبو فضل العباس» ومقرهما في دمشق. وبعد عودته إلى العراق في عام 2014، أسس «جيش المؤمل» في صيف عام 2016. وسرعان ما تلقت الجماعة التدريب على يد الشبكة الراسخة من الميليشيات الشيعية الخاضعة لسيطرة إيران في العراق. ومثله مثل الخفاجي، كان ارتباط سوار بالوكالات الإيرانية واقعاً جلياً - فيمكن بسهولة إيجاد صوره إلى جانب المهندس وقائد «عصائب أهل الحق» قيس الخزعلي على موقع "فيسبوك".
وفي نهاية المطاف، صنّفت «قوات الحشد الشعبي» «جيش المؤمل» رسمياً على أنه اللواء 99. لكن بحلول عام 2018، غادر أعضاء بارزون في الجماعة العراق وأسسوا أعمالهم الخاصة في سوريا، حيث كان عدد كبير منهم قد قاتل سابقاً تحت راية جماعات أخرى. واندمج جزء كبير من هؤلاء المقاتلين والقادة مجدداً في ميليشيات شيعية يسيطر عليها ظاهرياً الجيش السوري (على سبيل المثال، «لواء ذو الفقار» و«لواء الإمام الحسين»).
ورغم روابطهما القوية بالشبكات الإيرانية، تمّ حلّ «جيش المؤمل» و«قوات أبو فضل العباس» عملياً بعد حملة القمع في شباط/فبراير. وتسبب هذا الوضع بعداء كبير بين مؤيديهما وممولهما السابق.
التوصيات في مجال السياسة العامة
للوهلة الأولى، بدت الاعتقالات التي نفذتها «قوات الحشد الشعبي» مؤخراً كدليل إضافي على أن الميليشيات تضفي ببساطة طابعاً رسمياً على دورها كمنظمة وطنية موحدّة من خلال التطهير من الفساد، والقضاء على العناصر الجامحة، واتخاذ إجراءات ضد عمليات الاحتيال. وقد حاولت «قوات الحشد الشعبي» أيضاً إظهار فائدتها وحماية علامتها من خلال مساعدة رجال الشرطة في عملهم، وتوفير خدمات اجتماعية، والمساهمة في مشاريع البنية التحتية. ومع ذلك، عندما يتعلق الأمر بالجماعات الرئيسية الخاضعة لسيطرة إيران والتي تدير «قوات الحشد الشعبي»، فإن الإجرام لا يزال واسع الانتشار، مما يبعث رسالةً مفادها أن الفساد مقبول بالنسبة للمفضلين لدى طهران.
من ناحية أخرى، قد يشير استمرار وجود المقاتلين العراقيين الشيعة في دمشق إلى أن نظام الأسد بدأ يستاء من مدى نفاذ إيران إلى سوريا وقوتها فيها. ولا تزال علاقة النظام بطهران وثيقة للغاية، لكن يمكن أن يسعى المسؤولون السوريون إلى تطوير حضور شيعي أكثر تنوعاً أيديولوجياً بهدف إعادة إرساء قدر من التوازن مع إيران.
كما أن اعتقالات «قوات الحشد الشعبي» تمنح الحكومة الأمريكية وسيلةً أخرى لإظهار أن إيران هي راعٍ لا يمكن لشيعة العراق الوثوق به. فمقاربة طهران المتشددة إزاء وكالاتها لا تسمح بأي انشقاق، وتشجع الفساد المستشري الذي يعيق تطوّر العراق، وتعامل حتى الشيعة الأجانب المخلصين لها الذين يروّجون لأيديولوجيتها على أنهم أكباش فداء تتخلى عنهم متى يحلو لها. إن هذه المواضيع قد تساعد واشنطن على عزل الجماعات التي تثير المتاعب، وممارسة الضغوط على طهران، وتأكيد التزام الولايات المتحدة بحملة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي لمكافحة الفساد. كما يمكنها الاستفادة من تصنيف وزارة الخارجية الأمريكية مؤخراً لقوات "الحرس الثوري الإسلامي" الإيراني كمنظمةً إرهابية أجنبية لتحقيق هذه الغايات، بما أن إعلان التصنيف يذكر «كتائب حزب الله» بالاسم.
ويقيناً، ستكون بعض هذه الجماعات الشيعية مسرورة إذا أصبحت موضع انتقاد مباشر من الولايات المتحدة. وبالتالي على واشنطن التركيز على تشجيع وسائل الإعلام في المنطقة على إيصال هذه الرسالة، فضلاً عن التطرق إليها عبر وسائل التواصل الاجتماعي وخلال الاجتماعات بين المسؤولين الأمريكيين والعراقيين. ولا يُعتبر الفساد ظاهرةً جديدة عموماً في العراق، لكن الأنشطة الإجرامية التي تنفذّها الميليشيات المدعومة من إيران تثير مخاوف كبيرة لدى شريحةً كبيرة من الشعب العراقي. ويُعتبر نشر المعلومات حول هذه الأنشطة بعيداً وفي كل مكان، طريقةً رائعة للتفريق بين إيران وشبكتها الإقليمية من المقاتلين والمواطنين العراقيين العاديين الذين سئموا من الفساد المستشري. ومن خلال تسليط الضوء على نفاق حملات التطهير من الفساد التي تشنّها «قوات الحشد الشعبي»، بإمكان واشنطن أن تظهر بشكل قاطع أن الوكالات الإيرانية لا توفّر حلاً حقيقياً لمشاكل العراق الأكثر إلحاحاً.
فيليب سميث هو زميل "سوريف" في معهد واشنطن، ومتخصص في الميليشيات الشيعية والجماعات التي تعمل لحساب إيران.