خلال تصريحات بثتها محطات التلفزيون المحلية الإيرانية في 14 أيار/مايو، وصف المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي فكرة إجراء مفاوضات مع الولايات المتحدة بأنها "سمّ"، لكنه في الوقت نفسه طمأن المشاهدين بأنه "لا نحن ولا هم يسعون إلى الحرب، إنهم يعلمون أن ذلك لا يصب في صالحهم". وتُعد صيغة "لا حرب ولا تفاوض" جزءاً لا يتجزأ من استراتيجية "المقاومة الرشيدة" التي يعتمدها خامنئي، والتي تنص على عدم إثارة المواجهة العسكرية، ولكن في الوقت نفسه رفضْ القيام بأي تنازلات. ففي نظره، تُعتبر المقاومة عاملاً رئيسياً في صمود الجمهورية الإسلامية على مدى أربعين عاماً لأن الولايات المتحدة لم تكن راغبة في الاعتراف بوجود دولة إيديولوجية إسلامية منذ البداية؛ وبدلاً من ذلك، يزعم أن واشنطن وحلفاءها بذلوا قصارى جهدهم للإطاحة بالدولة أو على الأقل تحويلها إلى حكومة خالية تماماً من أيديولوجيتها المتحدية.
وتُعتبر الجمهورية الإسلامية، بصفتها نظاماً شبه استبدادي، دولةً توسّعيةً بطبيعتها وترفض عدداً كبيراً من الحسابات الجيوسياسية التقليدية التي تربط الدول والأمم الأخرى. فالركائز الدينية التي يقوم عليها النظام تضخّم هذه السمات، مما يجعل الجمهورية الإسلامية أكثر عزماً على "تصدير الثورة" والقضاء على الأعداء الأيديولوجيين مثل إسرائيل، ومنح المرشد الأعلى ألقاب معظّمة مثل "زعيم العالم الإسلامي". وتخدم العقيدة العسكرية الرئيسية التي تتبعها طهران والمرتكزة على الحرب غير المتناسقة هذا الموقف التوسعي، وهو الأمر بالنسبة لبرامجها النووية والصاروخية.
ومع ذلك، يدرك خامنئي أيضاً الفوائد العملية لهذه الاستراتيجية من حيث الحفاظ على استمرارية النظام. فبالإضافة إلى مساعدة القيادة في حصد الفضل المحلي لتوسيع عمق إيران الاستراتيجي حتى حدود إسرائيل وشواطئ البحر المتوسط، يعتقد اعتقاداً راسخاً بأن سياسة المقاومة قد منحت إيران نفوذاً متزايداً في جميع أنحاء الشرق الأوسط ومكانةً عالميةً كأفضل أمل ضد البلدان والتيارات الغربية. ومن هذا المنظور، سيقضي التخلي عن سياسة طهران الإقليمية المتحدية على طبيعة النظام ذاتها.
وفي الوقت نفسه، يكون خامنئي صادقاً عندما يعلن أن إيران ليست مهتمةً بالتصعيد العسكري. والسبب غير المعلن الكامن وراء مثل هذه التصريحات هو عدم استطاعة إيران تحمّل، عسكرياً أو سياسياً، مواجهة مسلحة تقليدية مباشرة مع أي دولة، ولا سيما الولايات المتحدة أو إسرائيل. ولهذا السبب، يعتمد النظام إلى حد كبير على الحرب غير المتناسقة، والإرهاب، والحرب بالوكالة، وغيرها من التكتيكات التي يمكن تنفيذها مع هامشٍ من إمكانية إنكارها، حتى لو كان هذا الهامش صغيراً. وتتمثل الفكرة في بقاء إيران قوة تهديد مخيفة مع تجنب الحرب التقليدية المباشرة.
لكن لكل مقاومة نقطة انهيار. وتتمثل أولى أولويات النظام في الحفاظ على المنظومة التي تم وضعها بعد الثورة الإسلامية، وقد أظهرت طهران قدرتها على التراجع بشكل ملحوظ عندما تواجه هذه المنظومة خطراً وجودياً. ففي ثمانينيات القرن الماضي، رحب آية الله روح الله الخميني بالحرب الإيرانية-العراقية في بادئ الأمر ووصفها بأنها "بداية حل مشكلة الشرق الأوسط"، مشدداً مراراً وتكراراً على "أننا سنصمد حتى النهاية" و"سنقاتل حتى ولو استغرقت الحرب عشرين عاماً". ولكن بعد مرور ثمانية أعوام وتكبُّد مئات الآلاف من الإصابات، وافق على قرار الأمم المتحدة بوقف إطلاق النار، قائلاً إنه فعل ذلك "لمصلحة الجمهورية الإسلامية"، بينما وصف القرار بصورة ميلودرامية بأنه "أكثر فتكاً من شرب الشوكران."
وبالمثل، لطالما وصف خليفته المفاوضات مع الولايات المتحدة كمحرّمة - إلى أن دفعه الضغط الذي قادته الولايات المتحدة إلى بدء مفاوضات مع إدارة أوباما بشأن البرنامج النووي الإيراني. وبعد الرضوخ، أشار خامنئي إلى "المرونة البطولية" التي أظهرها في السماح للمحادثات بالمضي قدماً. واليوم، يمكن أن تظهر البوادر الأولية لنقطة انهيار أخرى إذا رأى أن التهديد العسكري الأمريكي هو تهديد حقيقي وباهظ التكلفة لدرجة لا يمكن تحملها - والأهم من ذلك، إذا كان يعتقد أنه يأتي لزيادة العبء، في الوقت الذي لم يَغُد فيه من الممكن تحمّل المصاعب الاقتصادية الناجمة عن العقوبات الأمريكية وعوامل أخرى.
ويعتمد هذا الاحتمال جزئياً على عاملين سياسيين. أولاً، على الرغم من العروض السرية والعلنية التي قدمها الرئيس ترامب للتفاوض، من المرجح أن لا يرغب خامنئي في بدء محادثات مع زعيم انسحب من الاتفاق النووي، ودمّر الجهود الدبلوماسية الإيرانية، واستمر في فرض عقوبات جديدة، ويستخدم خطاباً مهيناً ضد النظام. ثانياً، لقد أضعف خامنئي الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى حد كبير، وألقى اللوم عليه لافتقار الحكومة للكفاءة الاقتصادية وفشلها الدبلوماسي. هذا، وستنتهي الولاية الثانية لروحاني في عام 2021 ولن يتمكن من الترشح لولاية ثالثة، مما يجعله يبدو بشكل متزايد وكأنه مجرّد رئيس انتقالي. لذلك لا يملك خامنئي الحوافز الكافية لإرسال مفاوضين غير موثوقين، مثل وزير الخارجية محمد جواد ظريف، إلى جولة جديدة من المحادثات؛ فالسيناريو الأمثل بالنسبة إليه هو أن يكون للبلدين رئيسان مختلفان بحلول عام 2021.
وإذا قرر خامنئي الدخول في مفاوضات قبل عام 2021، فسوف يتعين عليه على الأرجح تغيير تركيب فريق التفاوض واتخاذ خطوات أخرى لإعادة هيكلة مقاربة إيران. وقد يعني ذلك نقل المسؤولية عن المحادثات من وزارة الخارجية الإيرانية إلى "المجلس الأعلى للأمن القومي"، وكذلك تعيين مفاوضين جدد يمثلون «الحرس الثوري الإسلامي» أكثر من تمثيلهم للرئيس. ومن المرجح أن تحصل هذه التغييرات على وجه الخصوص إذا توسّع نطاق المفاوضات ليشمل برنامج إيران الصاروخي والسياسة الإقليمية، حيث لا يتمتع الرئيس ولا وزارة الخارجية بالسلطة الكافية لاتخاذ مثل هذه القرارات نيابة عن خامنئي والقيادة العسكرية العليا.
توصيات في مجال السياسة العامة
على الرغم من البراغماتية النسبية التي يعتمدها المرشد الأعلى ورغبته المعلنة في تجنب الحرب، يجب أن تكون الولايات المتحدة مستعدّة لأي سيناريو ممكن في الأسابيع المقبلة. فقد تخطط طهران لتخريب المزيد من أهداف الحلفاء والولايات المتحدة في المنطقة وتهديدها، بينما تسعى للتهرب من المسؤولية عن هذه العمليات. فمن المعروف أن النظام يقوم بمجازفات تبدو غير متناسبة إلى حد كبير مع الفوائد المحتملة؛ والدليل على ذلك سلسلة الهجمات الإرهابية في أوروبا هذا العام التي أدت إلى اعتقال العديد من العملاء الإيرانيين.
وفي الوقت نفسه، يجدر بواشنطن ألا تستبعد احتمال موافقة خامنئي على مضض على التفاوض في المدى القريب بسبب الضغوط الاقتصادية الهائلة والعزلة الدولية المفروضة على إيران. فإبداء رغبة عامة في التفاوض وتوفير "رقم هاتف" أمريكي غير كافيان - بل يجب على إدارة ترامب أن تبحث بشكل عاجل عن وسطاء دوليين يمكنهم مساعدتها على التواصل مع المسؤولين الإيرانيين بهدف فهم القضايا التي يمكن للنظام أن يساوم عليها مقابل تنازلات أمريكية واقعية بشكل أفضل. فمن دون وجود قنوات اتصال موثوقة، يتعاظم احتمال نشوب حرب، في حين يتضاءل احتمال التوصل إلى اتفاق.
وأخيراً، إذا كانت إدارة ترامب تفضل التفاوض على المواجهة، فسيتعين عليها تعديل خطابها العدائي والتحقيري وتحويله إلى لهجة أكثر دبلوماسيةً واحتراماً. فالخطاب الوحيد الذي يمكن أن يزيد من إمكانية عقد المفاوضات هو ذلك الذي يسمح لخامنئي بتصوير هذا التغيير الجذري في موقفه على أنه ليس هزيمةً مخزيةً للنظام، بل تسوية حكيمة تُتخذ لمصلحة بلاده. وخلاف ذلك، لن يكون لديه أي حافز للتخلي عن نهج "المقاومة".
مهدي خلجي هو زميل "ليبيتزكي فاميلي" في معهد واشنطن.