- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3851
بيانات القتلى في غزة أصبحت غير موثوقة على الإطلاق
نظراً للتناقضات في الإحصاءات الرسمية الفلسطينية في غزة واعتمادها المتزايد على بيانات مشكوك فيها من تقارير وسائل الإعلام، فقد أصبحت فجوات المصداقية التي كشفت عنها دراسة سابقة لمعهد واشنطن بمثابة هوة متسعة.
عادة ما تركز الجدالات المحتدمة حول عدد القتلى الفلسطينيين في الحرب بين "حماس" وإسرائيل على واقع أن أعداد القتلى التي يتم الاستشهاد بها على نطاق واسع لا تميز بين المقاتلين وغير المقاتلين. وعلى الرغم من صحة ذلك، إلا أن الأمر لا يأخذ في الاعتبار مشكلة أكثر جوهرية، وهي أن الأرقام بحد ذاتها فقدت مصداقيتها.
في الشهر الأول من الحرب، اعتمدت وزارة الصحة التي تسيطر عليها "حماس" في غزة على نظام جمع البيانات القائم لديها، والذي يتكون في المقام الأول من المستشفيات والمشارح، لتأكيد كل حالة وفاة. ولكن ابتداءً من أوائل تشرين الثاني/نوفمبر، بدأت المستشفيات في شمال غزة بإغلاق أبوابها أو إخلاء مبانيها خلال الغزو البري الإسرائيلي، مما دفع وزارة الصحة إلى اعتماد منهجية جديدة غير محددة لإحصاء الوفيات، وهي التقارير الإعلامية. وهذه المنهجية، التي نادراً ما تعترف بها وزارة الصحة علناً، مسؤولة عن التبليغ عن غالبية الوفيات التي تم تسجيلها خلال الأشهر الأربعة الماضية، بما يتجاوز نظام الجمع التقليدي.
إن المقارنة بين المنهجيتين، باستخدام تقارير وزارة الصحة والمزاعم التي ينشرها "المكتب الإعلامي الحكومي" الذي تسيطر عليه "حماس"، تؤدي إلى نتائج مختلفة تماماً ولا يمكن التوفيق بينها، مما يشير إلى أن منهجية التقارير الإعلامية تقلل بشكل كبير من الوفيات في صفوف الذكور البالغين، أي الفئة الديموغرافية المقاتلة على الأرجح. ويقوّض ذلك الادعاء المستمر بأن 72 في المائة من القتلى في غزة هم من النساء والأطفال - وهي مشكلة تفاقمت منذ أن أشار إليها تقرير "معهد واشنطن" للمرة الأولى في كانون الثاني/يناير.
والنتيجة هي أن إحصائيات وزارة الصحة لا تقدم على ما يبدو دليلاً موثوقاً للعدد الفعلي للقتلى الفلسطينيين حتى وفقاً للمعايير "الضبابية" للتقارير الصحفية الطبيعية في زمن الحرب. يجب على الصحفيين والمحللين والمسؤولين الحكوميين أن يدركوا أن العدد الإجمالي الفعلي للقتلى قد يكون أعلى بكثير (أو أدنى، وهو أقل احتمالاً) مما تبلغ عنه وزارة الصحة. ومن المؤكد أن التركيبة الديموغرافية لهذه الوفيات تختلف كثيراً عما تدعيه وزارة الصحة.
ولتقييم هذه المشكلة، قام المؤلف بتجميع مجموعة شاملة من بيانات القتلى في غزة المتاحة علناً والتي تشمل:
• تحديثات يومية تغطي الفترة من 7 تشرين الأول/أكتوبر وحتى 21 آذار/مارس، والتي حصل عليها من أربعة مصادر: وزارة الصحة التي تديرها "حماس" في غزة، و"المكتب الإعلامي الحكومي" الذي تديره "حماس"، ووزارة الصحة التابعة "للسلطة الفلسطينية" في رام الله، و"مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية" (الذي ينقل ببساطة ادعاءات وزارة الصحة/"المكتب الإعلامي الحكومي" في غزة، بشكل غير دقيق في بعض الأحيان).
• بيانات مجمعة من ثلاثة عشر تقريراً للطوارئ الخاصة بقطاع الصحة، نشرتها وزارة الصحة بين 11 كانون الأول/ديسمبر و18 آذار/مارس (يمكن الوصول إلى هذه الوثائق عبر قناة "تلغرام" التابعة لوزارة الصحة في غزة أو أرشيف الإنترنت).
• إصداران شاملان لبيانات وزارة الصحة في 26 تشرين الأول/أكتوبر و7 كانون الثاني/يناير (يغطي الإصدار الأخير البيانات حتى 2 تشرين الثاني/نوفمبر في قطاع غزة بأكمله وحتى 5 كانون الثاني/يناير في جنوب القطاع).
يعتمد التحليل التالي بشكل أساسي على تقارير الطوارئ الخاصة بقطاع الصحة وتحديثات متفرقة من قبل "المكتب الإعلامي الحكومي".
قم بتنزيل نسخة مختصرة من قاعدة بيانات المؤلف (مايكروسوفت "إكسل").
(سيتم نشر قاعدة البيانات الكاملة مع المصادر والمنهجية والمعلومات الأخرى في تاريخ لاحق.)
حدود التقارير الإعلامية
تسجل المنهجية المعتادة التي تستخدمها وزارة الصحة (يشار إليها فيما يلي باسم "نظام جمع البيانات المركزي") القتلى في المستشفيات والمشارح، إلى جانب القتلى التي تبلغ عنها خدمة الإسعاف التابعة لـ "جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني" ومصادر أخرى غير محددة (للحصول على شرح أكثر تفصيلاً لهذه الممارسات، انظر دراسة المؤلف من شهر كانون الثاني/يناير). وهذه المنهجية مفهومة جيداً وكانت دقيقة نسبياً في الماضي.
ولكن خلافاً لما حدث في النزاعات السابقة، لا يقوم "مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية" ولا المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية بالتحقق حالياً من عدد القتلى في غزة في الوقت الفعلي ولا يحاولون التمييز بين المدنيين والمقاتلين. بالإضافة إلى ذلك، يعمل ثلث مستشفيات غزة بشكل جزئي فقط، وتعاني أجزاء كثيرة من القطاع من صعوبات كبيرة في الوصول إليها، مما يحد من استخدام هذه المنهجية لإحصاء القتلى خارج مدينتي رفح وخان يونس.
في 10 تشرين الثاني/نوفمبر، أعلنت وزارة الصحة أنها لم تعد قادرة على الإبلاغ عن القتلى في مدينتين شماليتين. وبعد شهر، اعترف المسؤولون بأنهم كانوا يعتمدون على ما أسموه "مصادر إعلامية موثوقة" للإبلاغ عن الوفيات في هاتَين المنطقتَين. وفي الواقع، كانوا قد بدأوا باستخدام هذه المنهجية منذ 3 تشرين الثاني/نوفمبر، وفقاً لمجموعة بيانات وزارة الصحة الصادرة في 7 كانون الثاني/يناير.
بطبيعة الحال، يُعتبر استخدام التقارير الإخبارية أمراً شائعاً عند محاولة إحصاء القتلى في ساحات المعارك الفوضوية التي يصعب الوصول إليها وتتضرر فيها المؤسسات. لكن هذه الممارسة معروفة بصعوبتها وتنظر عادةً إلى الوراء بدلاً من محاولة إجراء إحصاء في الوقت الفعلي. وتعتمد موثوقية أي جهد من هذا القبيل بدرجة كبيرة على تفاصيله المنهجية، لكن وزارة الصحة رفضت توضيح كيفية جمعها لهذه البيانات - وهي مشكلة كبيرة بالنظر إلى أن التقارير الإعلامية أصبحت المدخل المهيمن في عدد القتلى في غزة، وهو ما يمثل أكثر مما تم الإبلاغ عنه وهو 14000 حالة وفاة.
مقارنة المنهجيات
على الرغم من المشاكل المعروفة في "نظام جمع البيانات المركزي" التابع لوزارة الصحة (الموضحة بمزيد من التفصيل في دراسة المؤلف في كانون الثاني/يناير)، إلّا أن هذا النظام يشكل المنهجية الأكثر موثوقية بما أنه يتضمن التحقق من الهوية وإحصاء الجثث الفعلية. وفي المقابل، من الصعب جداً التحقق من التقارير الإعلامية، إذ تفتقر بانتظام للتفاصيل اللازمة لتحديد هويات القتلى أو مصيرهم، وقد تكرر إحصاء الكثير من القتلى أو تغفل عنهم. ولعل أفضل ما يظهر الفرق بين المنهجيتين هو مدى اختلافها في الإبلاغ عن التفاصيل الديموغرافية بشأن الوفيات في غزة.
على سبيل المثال، توفر تقارير الطوارئ الخاصة بقطاع الصحة الصادرة عن وزارة الصحة بيانات منفصلة عن الرجال والنساء والأطفال عندما يتم تسجيل وفاتهم من خلال "نظام جمع البيانات المركزي"، ولكنها توفر رقماً مجمعاً واحداً فقط للوفيات المستندة إلى التقارير الإعلامية. وعندما تتزامن هذه التقارير مع التقارير الدورية الصادرة عن "المكتب الإعلامي الحكومي" (التي تقدم تفاصيل ديموغرافية)، يمكن مقارنة كيفية تعاملها مع القتلى بين المجموعات السكانية المختلفة.
وتكشف هذه المقارنة عن اختلافات حادة، أبرزها انخفاض عدد وفيات الذكور البالغين المسجل من التقارير الإعلامية بمقدار ستة أضعاف وزيادة عدد وفيات الأطفال بمقدار أربعة أضعاف (كمرجع، يشكل الأطفال ما يقرب من 50% من سكان غزة، بينما يشكل الرجال والنساء 25% لكل منهما). وتعزى بعض هذه الاختلافات إلى واقع أن التقارير الإعلامية لا تحدد على الأرجح عدد الوفيات في صفوف المقاتلين بدقة نظراً لصعوبة الوصول والخوف من الانتقام على خلفية كشف خسائر "حماس". لكن في معظم الحالات، تُعتبر الأرقام متباعدة جداً بحيث لا يمكن أن تتطابق، أو منفصلة للغاية عن الوقائع على الأرض بحيث لا يمكن تصديقها.
على سبيل المثال، وفقاً لمنهجية التقارير الإعلامية، قُتل 1192 رجلاً فقط في شمال ووسط غزة حتى 18 آذار/مارس، على الرغم من القتال البري العنيف على مدى أربعة أشهر ونصف (انظر قاعدة البيانات المكثفة للمؤلف). وبعد خمسة أيام، "انخفض" هذا العدد لسبب غير مفهوم إلى 1170 - وهو إنجاز كان يتطلب عودة 22 رجلاً إلى الحياة بطريقة أو بأخرى بحلول 23 آذار/مارس من أجل التوفيق بين بيانات "نظام جمع البيانات المركزي" والإدعاء الإجمالي. وفي المقابل، تشير تقديرات السلطات الإسرائيلية إلى مقتل 13000 مسلح، وهو رقم قد يشمل الكثير من المقاتلين الذين لم يتم تسجيل وفاتهم من خلال أي من منهجيتَي وزارة الصحة.
وبدون توضيح من وزارة الصحة، تشير هذه النتائج إلى إغفال أو تلاعب كبير يهدف إلى التقليل من عدد الرجال الذين قتلوا والمبالغة في عدد الأطفال الذين قتلوا. ووفقاً لأحد الاحتمالات، لا يتم على الأرجح الإبلاغ عن القتلى من المسلحين - معظمهم من الرجال - بما أنهم يُقتلون في الأنفاق أو في ساحات القتال، حيث يكون معظم المراسلين إما غير قادرين على الوصول إلى الجثث أو غير مستعدين للتعرض لانتقام "حماس" أو لمخاطر مناطق القتال. ويقوم احتمال آخر على التلاعب النشط، أي استخدام منهجية التقارير الإعلامية كغطاء بهدف تغيير البيانات دعماً للادعاء القائل بأن 72 في المائة من القتلى هم من النساء والأطفال.
وفي الوقت نفسه، تشير البيانات الصادرة عن "نظام جمع البيانات المركزي" إلى انخفاض حاد في إجمالي عدد القتلى منذ تشرين الثاني/نوفمبر وزيادة مستمرة في نسبة الرجال القتلى.
وبالإضافة إلى الاعتماد المتزايد لوزارة الصحة على منهجية التقارير الإعلامية، قد تعكس هذه الاتجاهات عوامل مختلفة على الأرض، مثل تحوّل إسرائيل من الحملة الجوية بشكل رئيسي إلى القتال البري، والإخلاء الجماعي للمدنيين من الشمال إلى محافظة رفح، وتراجع حدة القتال في المناطق التي لا يزال "نظام جمع البيانات المركزي" يعمل فيها. ومن المتوقع أن تؤدي هذه العوامل إلى تقليل إجمالي عدد الضحايا المدنيين وبالتالي زيادة نسبة القتلى من الرجال البالغين، لأن هذه هي الفئة الديموغرافية التي تشارك على الأرجح في القتال.
التحذيرات والتوصيات
يهدف هذا التحليل حصراً إلى مقارنة مختلف مزاعم "حماس" بشأن القتلى وطرح التساؤلات حول التناقضات الناتجة عن ذلك. وهو لا يدعي معرفة العدد الحقيقي للقتلى في غزة أو نسبة المدنيين إلى المقاتلين، ولا يهدف إلى صرف الانتباه عن الخسائر الحقيقية وواسعة النطاق في الأرواح في غزة والأزمة الإنسانية الشديدة التي لا يزال سكان القطاع يعانون منها.
وفيما يتعلق بتضخيم نسبة الرجال في إحصائيات القتلى، لا تهدف هذه النقطة إلى الإيحاء بأن جميع الرجال في غزة هم من المسلحين. فواقع الحال هو أن الرجال البالغين هم الأكثر احتمالاً لأن يكونوا مسلحين في أي مجموعة (على الرغم من أن "حماس" معروفة باستخدامها للأطفال في الأدوار القتالية والدعم). كما تم استخدام نسبهم المضخمة للمساعدة في تقدير عدد القتلى من المسلحين في الماضي.
وبغض النظر عن المحاذير، يُفترض بالنتائج المذكورة أعلاه أن تدفع المحللين ووسائل الإعلام والمسؤولين الحكوميين إلى مراعاة النقاط التالية عند تقييم إحصائيات القتلى في غزة:
• تستوجب التناقضات بين منهجيات إحصاء القتلى المزيد من التدقيق ولا بد من أن تقترن بالتحذيرات المناسبة في حال الاستشهاد بها. سواء من خلال الإغفال السلبي، أو التلاعب النشط، أو كليهما، فإن منهجية التقارير الإعلامية التي تتبعها وزارة الصحة في غزة تقلل بشكل كبير من عدد القتلى من الرجال، وربما تبالغ في عدد القتلى من الأطفال.
• المزاعم المتكررة بأن 72 في المائة من القتلى هم من النساء والأطفال هي على الأرجح غير صحيحة. تشير البيانات المستمدة من "نظام جمع البيانات المركزي" إلى أن 58 في المائة من القتلى منذ بداية الحرب هم من النساء والأطفال. وينخفض هذا الرقم إلى 48 في المائة بالنسبة للقتلى منذ 3 تشرين الثاني/نوفمبر. ولكي يكون ادعاء نسبة 72 في المائة دقيقاً، يجب أن يشكل النساء والأطفال حوالي 90 في المائة من الوفيات المستندة إلى التقارير الإعلامية. وهذه النسبة غير معقولة - حيث يشكل الرجال ربع السكان، وقد حدثت هذه الوفيات إلى حد كبير في المناطق التي يتواجد فيها عدد أقل من المدنيين وعدد أكبر من المقاتلين، معظمهم من الرجال البالغين.
• تشير البيانات المستمدة من المنهجيتين إلى تراجع حدة الحرب. انخفض عدد القتلى من متوسط 348 يومياً في الأسابيع الأولى من الحرب إلى حوالي 85 يومياً في آذار/مارس.
• البيانات المتاحة محدودة للغاية بحيث لا تسمح باستنتاجات نهائية حول العدد الحقيقي للقتلى أو نسبة المدنيين إلى المقاتلين. تستند نسبة عالية من القتلى المبلغ عنهم إلى منهجية غير معروفة قد تحرّف البيانات، في حين لا يزال هناك قدر كبير من عدم اليقين بشأن عدد القتلى من المقاتلين الذين لا يتم إحصاؤهم في الأنفاق وساحات القتال الأخرى. ويحيط غموض أكبر بالنسب الدقيقة للقتلى من الرجال والنساء والأطفال. ولا تسمح البيانات المتاحة بإجراء تقديرات موثوقة حول نسبة القتلى المدنيين إلى المقاتلين، سواء بصورة مستقلة أو بالمقارنة مع التقديرات الإسرائيلية.
غابرييل إبستاين هو مساعد باحث في "مشروع كوريت" حول العلاقات العربية الإسرائيلية التابع لمعهد واشنطن.