- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
بين المؤتمرات الصحفية والقصور
Also published in "المجلة"
لطالما شكّل فصل الدعاية عن الحقيقة، تحدياً في دول مثل سوريا، لكنه أصبح كذلك أكثر فأكثر في واشنطن نظراً لظهور أشكال لا تُعد ولا تحصى من المعلومات المضللة.
نظمتُ مؤخراً مؤتمراً حول أمن الطاقة في مدينتي الأصلية "أويل سيتي" في ولاية بنسلفانيا حيث أدى اكتشاف النفط فيها في عام 1859 إلى ولادة أكبر قطاع شهده العالم على الإطلاق وشكّل صلة وصل بين أمريكا والشرق الأوسط كما لم يفعل أي قطاع آخر. واقتربت إليّ حينذاك فتاة تحمل في يدها نسخة عن سيرتي الذاتية وسألتني: "مِنْ محرر مجلة دمشقية إلى مدير شؤون سوريا في البيت الأبيض. يا لهما من عالمَين مختلفَين تماماً! كيف عرفت ما عليك القيام به؟"
لم أعرف ما أجيب. كنت لأوافقها الرأي قبل فترة ليست ببعيدة. فدمشق في عهد الأسد تعني الفساد المستشري والفظائع الجماعية واستخدام الأسلحة الكيماوية وتهريب المخدرات، بينما تظل واشنطن عاصمة العالم الحر. والناس في دمشق يعبّرون عن آرائهم بتكتم، أما في واشنطن فتصدح أصواتهم الواعية على الملأ. عالمان مختلفان بالفعل!
الصحافة مقابل الكفاءة السياسية
تبدو الصحافة وفنون السياسة شبيهة بالنفط والماء. فالصحافة بطبيعتها تتقصى الأمور من الجذور حيث يواظب الكتّاب الفضوليين والمتعددي اللغات على مشاهدة المستوى المادي للواقع لتحديد شكل الأشياء القادمة.
ومن جهة أخرى، تشكّل الأخبار العاجلة مفتاح الشهرة والثروة مهما كانت فجّة. ويصبح الصحفيون الناجحون محررين، أي مهندسي مفاهيم نوعاً ما يساعدون فيها زملاءهم المبتدئين في الحصول على المعلومات التي تتيح للناس فهم آخر التطورات. ومن هنا تَستخدم أقطاب الإعلام الناجحة مهندسي تحرير لبناء هيكل معلومات يبقى صامداً مع الوقت، وعلى الأقل يتعادل في الميزانية العمومية (أي يناسب بيان الموازنة دون ربح أو خسارة).
ويتبع فن الحكم السياسي نهجاً تنازلياً، سواء كان في الأنظمة المستبدة أو الديمقراطية. وبذلك يحاول الأشخاص النافذون، بدعم من المصالح المالية، وضع جداول أعمال للدول القومية من شأنها إدارة دفة عالم مترابط أكثر فأكثر ولكن يبدو فوضوي بما يصب في مصلحة رجال بلادهم ونسائها.
إلا أن فن الحكم لا يخضع لهيمنة المهندسين بل لمصممي السياسات الذين يقضون سنوات في العمل على "قضيتهم" في انتظار فرصة المشاركة في الحكومة وترك بصماتهم على شؤون الدولة. ويقوم هؤلاء الموهوبين في فن الحكم بتصميم سياساتهم وفقاً للتغييرات التي تحصل في العالم مع التطلع نحو ما قد يحمله المستقبل. غير أن أولئك الأقل موهبة "ينتقون" حقائق مستمدة من الواقع تتناسب مع مفاهيمهم المسبقة وشعاراتهم الانتخابية، الأمر الذي أدى إلى بعض الأخطاء الأكثر دموية والأكثر تكلفة في السياسة الخارجية الأمريكية بدءاً من غزو العراق قبل 20 عاماً.
ومع ذلك يواجه ممارسو كلتا المهنتين التحدي نفسه، وهو: تحديد المعلومات الوثيقة والقابلة للتحقق. ولطالما شكّل فصل الدعاية عن الحقيقة تحدياً في دول مثل سوريا نظراً لانغماسها في الأيديولوجيا والسلطوية. إلّا أن واشنطن تشهد تزايداً في ظهور "الأخبار الكاذبة" وعدداً لا يُحصى من أشكال المعلومات المضللة.
أهمية الذكاء العاطفي
للإجابة على السؤال الرائع لهذه الفتاة في صفحات هذه المجلة قبل رحلتي القادمة إلى وطني، فإن أفضل طريقة لإزاحة هذا الارتباك تتلخص بتعبير يتعلّمه جميع الأطفال في مدينتي الأصلية، "إستمع دائماً إلى حدسك" - سواء كان ذلك في مؤتمر صحفي في دمشق حول "حزب الله" أو في اجتماع في البيت الأبيض عندما يفكر رئيس الولايات المتحدة في سحب القوات من سوريا.
بعبارة أخرى، بينما يركز تفكيرنا العقلاني على جمع التفاصيل، يبقى الاستماع إلى ذكائك العاطفي (والذي نقول في أمريكا أنه يمكننا الشعور به في الأجزاء الوسطى من أجسادنا)، و"الشعور" بالحقائق ثم اتخاذ القرارات، أهم مهارة يتمتع بها الصحفيون الناجحون وخبراء السياسة. والسؤال الذي ما زلت أعجز عن الإجابة عنه فهو ما الذي يجعل والديهم وقادتهم إلى التناسي أكثر فأكثر.
أندرو تابلر هو "زميل مارتن جروس" في معهد واشنطن والمدير السابق لشؤون سوريا في "مجلس الأمن القومي" الأمريكي. وتم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع "المجلة".