- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3668
دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ستخسر أكثر من غيرها إذا تعثرت مبادرة نقل الحبوب الأوكرانية
ستستمر روسيا في استخدام ممرات البحر الأسود كوسيلة ضغط، لذلك يجب على الدول الغربية وشركائها إعداد طرق بديلة ومساعدات أخرى كأسلوب للضغط المضاد.
في 29 تشرين الأول/أكتوبر، علّقت موسكو لفترة وجيزة مشاركتها في تنفيذ "مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب" بعد أن تعرضت السفن الحربية الروسية لهجوم في ميناء سيفاستوبول في القرم. وكان ذلك يعني عملياً إيقاف مشاركتها لفترة موقتة في جوانب رئيسية من الاتفاق، مثل إجراء عمليات تفتيش متعددة الجنسيات لسفن الحبوب وتحديد الجدول الزمني لوصول سفن جديدة إلى الموانئ الأوكرانية - وهي عوامل يمكن أن توقف المبادرة إذا علقت روسيا مشاركتها إلى أجل غير مسمى واستأنفت حصارها البحري. وزعمت موسكو عند إعلان قرارها أن الهجوم كان "عملاً إرهابياً نفذه نظام كييف بمشاركة خبراء بريطانيين ضد سفن من أسطول البحر الأسود وسفن مدنية ضالعة في أمن ممرات الحبوب" - رغم أن الحادث جرى فعلياً بعيداً عن أيٍ من الممرات الإنسانية التي توسطت فيها "الأمم المتحدة" وتركيا هذا الصيف.
ولحسن الحظ، تجاهلت سفن النقل قرار روسيا إلى حدٍ كبير واستمرت في تسليم الحبوب، وسرعان ما تراجع الكرملين عن تعليق مشاركته في هذه العملية. غير أن الحادثة لم تكن سوى واحدة من سلسلة الجهود التي تبذلها روسيا لاستخدام اتفاقية الحبوب كسلاح، ويمكن تَوقُّع المزيد من هذه الجهود عندما يحين موعد تجديد "مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب" في 19 تشرين الثاني/نوفمبر، على الرغم من واقع أن وزراء خارجية "مجموعة السبع" قد دعوا لتمديدها. وإذا نجحت موسكو في تقويض الاتفاق، فسوف تتأثر منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بشكل خاص.
أزمة الغذاء في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أزمة حادة
عندما غزت روسيا أوكرانيا وحاصرت موانئ البلاد المطلة على البحر الأسود، اتخذت موقفاً تمثّلَ في منع تسليم حوالي 25 مليون طن متري من الحبوب وغيرها من المواد الغذائية الأساسية إلى الأسواق الدولية، مما أدى إلى حدوث أزمة غذائية عالمية. وفي ظل عدم ضبط الوضع، شكّل ذلك إنذاراً بحدوث اضطرابات اجتماعية وضغوط أخرى في بعض المناطق مثل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي هي عرضة بشكل خاص للعلاقة الناتجة عن ارتفاع أسعار الوقود والغذاء والضروريات الأخرى.
ويدرك الرئيس فلاديمير بوتين جيداً نقطة الضعف هذه، وقد حاول مراراً وتكراراً استخدامها لممارسة الضغط على الغرب. وتؤمّن روسيا وأوكرانيا ثلث صادرات العالم من القمح والشعير، وخُمس صادراته من الذرة، ونصف صادراته من زيت عباد الشمس، وجزء كبير من الأسمدة. وتعتمد بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بشكل خاص على هذه الإمدادات وكانت تعاني بالفعل من ارتفاع أسعار الحبوب قبل الحرب، ويرجع ذلك أساساً إلى مزيج من الجفاف والصدمات الاقتصادية العالمية الناتجة عن جائحة فيروس كورونا. وأدّى غزو أوكرانيا إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية بشكل أكبر، مثيراً المخاوف بشأن إمكانية نفاد بعض المواد الغذائية الأساسية مثل القمح من بعض دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في نهاية المطاف. ومما يثير القلق بشكل خاص هو وضع الدول التي تعاني مسبقاً من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، وهي أفغانستان ومصر ولبنان وليبيا والصومال وسوريا وتونس واليمن.
"مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب" والعرقلة الروسية
في 22 تموز/يوليو، وقّعت روسيا وأوكرانيا "مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب" في اسطنبول، فيما اعتبرت "الأمم المتحدة" والدول الغربية المتحالفة أن ذلك يشكل جزءاً من جهدٍ أوسع نطاقاً يهدف إلى الحد من آثار الغزو على أسواق الغذاء العالمية. وأنشأت الأطراف "مركز تنسيق مشترك" في اسطنبول لتنفيذ الاتفاق وتفتيش سفن نقل الحبوب، ووعدت موسكو بفتح ثلاثة موانئ على البحر الأسود والسماح بمرور سفن الحبوب على طول الممرات البحرية المتفق عليها. وفي المقابل، وقعت "الأمم المتحدة" مذكرة تفاهم منفصلة مع موسكو بشأن صادرات الحبوب والأسمدة، تنص على أن الدول الأعضاء ستعمل على إعفاء هذه السلع من العقوبات. وكانت مواد الأسمدة ذات أهمية خاصة لروسيا لأنها أكبر مُصدِّر في العالم لتلك الضرورة الزراعية.
لكن بعد مضي أقل من أربعٍ وعشرين ساعة على توقيع الاتفاق، قوضته روسيا بإطلاقها أربعة صواريخ بعيدة المدى على ميناء أوديسا الرئيسي للحبوب. وعلى الرغم من أن الضربات لم تلحق الضرر بصوامع الحبوب في المدينة أو تُغلق شحناتها، إلا أن الرسالة كانت واضحة: الكرملين كان قادراً على عرقلة "مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب" وراغباً في القيام بذلك في أي وقت يشاء. وفي الواقع، استمر في التهديد بالانسحاب من الاتفاق في الأشهر اللاحقة.
وفي أيلول/سبتمبر، وضعت موسكو الاتفاقية قيد المراجعة، مدّعية أن الحبوب كان يتم شحنها إلى أوروبا وليس إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. والأهم من ذلك هو أن هذه المناورة حدثت في سياق نجاح الهجوم المضاد الذي شنته أوكرانيا في خاركيف.
وفي تشرين الأول/أكتوبر، زعمت موسكو، دون أي دليل، أن الغرب لم يلتزم بتعهداته فيما يتعلق بإعفاءات الأسمدة. ثم حذر المسؤولون الروس من أن تمديد الاتفاق في تشرين الثاني/نوفمبر سيعتمد على الغرب "لضمان التنفيذ الكامل لجميع الاتفاقات التي تم التوصل إليها سابقاً".
من هي الدول المستفيدة؟
حتى وسط العرقلة الروسية، تم تنفيذ "مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب" بنجاح، وساعدت هذه المبادرة في خفض أسعار المواد الغذائية. ومنذ أوائل آب/أغسطس، تم شحن ما يقرب من 10.1 مليون طن متري من المواد الغذائية من موانئ أوديسا وتشورنومورسك ويوجني/بيفديني. واستفادت 70 في المائة من البلدان غير الغربية من هذا الكمية، وذهب ثلثها تقريباً إلى بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وحصلت تركيا ومصر وليبيا وإسرائيل وتونس والجزائر وإيران على أهم الكميات في المنطقة وفقاً لهذا الترتيب. وكانت أفغانستان واليمن، وهما دولتان تعانيان من أزمات إنسانية حادة، من بين الدول المستفيدة أيضاً، وكذلك العراق ولبنان والمغرب وعمان والسودان.
وتم تسليم شحنات غذائية إضافية إلى دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عبر "ممرات التضامن" التابعة لـ"الاتحاد الأوروبي"، وهي مجموعة من الممرات الإنسانية البرية التي تم إطلاقها في أيار/مايو. ولا يُظهر هذا التفصيل سوى جزء من الواقع، لأنه لا يأخذ في الاعتبار الحبوب المرسلة أولاً إلى موانئ بلدان ثالثة ثم يُعاد تصديرها إلى المنطقة. واعتباراً من تشرين الأول/أكتوبر، بلغ إجمالي كمية الحبوب المنقولة عن طريق البر والبحر 22 مليون طن متري - منها ما يقرب من 12.5 مليون عبر "ممرات التضامن في "الاتحاد الأوروبي" و 10 ملايين عبر "مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب". ووفقاً للأرقام الصادرة عن "مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية"، فقد أدت هذه الجهود فعلياً إلى سد الفجوة بين شحنات الحبوب الأسبوعية في فترة ما بعد الحرب وما قبلها، وساعدت على انخفاض مؤشر أسعار الغذاء لـ "منظمة الأغذية والزراعة" لمدة ستة أشهر متتالية، وقللت أيضاً من تقلبات الأسعار.
منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تظل عرضة للخطر
على الرغم من أن "مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب" تمثّل 40 في المائة فقط من الحبوب الأوكرانية المنقولة، فإن تعليقها مجدداً سيؤدي إلى حدوث آثار متلاحقة في جميع أنحاء الأسواق العالمية، مما يؤدي على الأرجح إلى تفاقم أزمات الغذاء المختلفة. على سبيل المثال، ازدادت أسعار القمح بموجب عقود الحبوب الآجلة الأكثر تداولاً في بورصة شيكاغو بنسبة 6 في المائة في اليوم التالي بعد انسحاب روسيا لفترة وجيزة من المبادرة. ويمكن أن تتأثر دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بمثل هذه الاضطرابات أكثر من المناطق الأخرى، ويرجع ذلك جزئياً إلى نقاط ضعفها الداخلية المذكورة أعلاه، وأيضاً لأنها تعتمد كثيراً على محاصيل الحبوب الأوكرانية التي من المتوقع أن تنخفض في 2023-2024 بسبب الحرب.
ويُعد الحفاظ على "مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب" أمراً مهماً أيضاً لموازنة عوامل مثل تغير المناخ، وسوء الإدارة، وزيادة الطلب العالمي، وحظر تصدير المواد الغذائية؛ وستواصل جميع هذه العوامل الضغط التصاعدي على أسعار السلع الغذائية بغض النظر عما يحدث في أوكرانيا. وبالإضافة إلى تفاقم الأزمات الإنسانية في لبنان وسوريا واليمن، فإن أي زيادات أخرى في الأسعار ستضر ببلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا التي تعاني حالياً من الجفاف (مثل المغرب وتونس) أو من ارتفاع الأسعار القائم مسبقاً (على سبيل المثال، إيران والصومال والسودان). وعكَسَ بيان المجموعة الذي صدر في أعقاب القمة الأخيرة لـ "الجامعة العربية" في الجزائر العاصمة، خطورة الوضع، داعياً إلى العمل الجماعي لمواجهة أزمتي الغذاء والطاقة.
توصيات في مجال السياسة العامة
يكاد يكون من المؤكد أن روسيا ستستخدم الموعد النهائي لتجديد "مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب" في 19 تشرين الثاني/نوفمبر لزيادة الضغط على الغرب و "الأمم المتحدة" وتركيا، خاصة فيما يتعلق بالاتفاقية المنفصلة بشأن صادرات الأسمدة. وقد وجدت موسكو نفسها خاسرة عندما حاولت الاستفادة من تعليق مؤقت في تشرين الأول/أكتوبر، لكن يجب اعتبار هذه المناورة مجرد تكتيك آخر في لعبة أكبر. وفي المرحلة القادمة، يجب على الولايات المتحدة و"الاتحاد الأوروبي" والشركاء الآخرين التركيز على رفع التكلفة السياسية لموسكو إذا انسحبت مجدداً من "مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب".
أولاً، على هذه الأطراف تصعيد الجهود المرتبطة بحرب المعلومات من خلال تسليط الضوء على فوائد "مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب"، لا سيما على واقع أنها تعود بالمنفعة على الدول غير الغربية بشكل غير متناسب. يجب استخراج البيانات ونشرها حول حجم المواد الغذائية الأساسية التي يُعاد تصديرها من تركيا و[دول] "الاتحاد الأوروبي" (من بين حكومات أخرى) إلى البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط. إن التذكير بأن "مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب" هي مبادرة لاستقرار السوق من شأنه أن يساعد أيضاً في تحديد فوائدها العالمية.
ثانياً، يجب ألا يفترض الغرب أن روسيا ستوافق تلقائياً على تجديد الاتفاق. فالكرملين يحرص دائماً على استخدام الاتفاقيات متعددة الأطراف لتحسين موقفه التفاوضي في مجالات أخرى. ولكي يضع الغرب نفسه في موقع قوة، عليه أن يبدأ فوراً بتعزيز السبل البديلة لتسليم الحبوب، بما فيها مشروع "طريق الدانوب للحبوب". وعلى الرغم من أن هذا البديل أقل كفاءة، إلا أنه يوفر "خطة ب" قابلة للتطبيق إذا حاولت روسيا الاستفادة من تعليق آخر لـ "مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب". يجب أن تستمر الجهود أيضاً لزيادة حجم الحبوب التي تمر عبر الممرات الأرضية مثل "ممرات التضامن" في "الاتحاد الأوروبي".
وعلى نطاقٍ أوسع، على الغرب أن يبحث عن طرق أخرى لتحسين الأمن الغذائي ومعالجة المخاطر المتزايدة للركود العالمي. لقد وجد العالم نفسه غير مستعد إثر الغزو الروسي، ولكن بعد مرور عام تقريباً، أصبح من الواضح أن آثار الحرب ستكون عالمية وطويلة الأمد. وبناءً على ذلك، يجب وضع الخطط اللازمة لمعالجة هذه الآثار عاجلاً وليس آجلاً.
آنا بورشيفسكايا هي زميلة أقدم في "برنامج مؤسسة دايين وغيلفورد غليزر" حول "منافسة القوى العظمى والشرق الأوسط". لويس دوجيت-جروس هو زميل زائر في المعهد ودبلوماسي في "الوزارة الفرنسية لأوروبا والشؤون الخارجية"؛ الآراء الواردة هنا شخصية بحتة. سابينا هينبرج هي "زميلة سوريف" في المعهد.