فهم كيفية استخدام "الحرس الثوري الإيراني" للميليشيات القبلية السورية في الماضي والحاضر والمستقبل
من المرجح أن تسارع إيران مجدداً تطوير الميليشيات القبلية العربية في شرق سوريا، وفقاً للنموذج الذي تم إنشاؤه في حلب وبدعم من "أجنحة" اجتماعية واقتصادية وإدارية جديدة يموّلها "الحرس الثوري الإيراني".
قد تكون فسيفساء الميليشيات العربية المدعومة من إيران في شمال سوريا وشرقها مربكة، ولكن بإمكان تمييز اتجاهات مهمة في كيفية تطورها والسبب وراء تكاثر أعدادها حالياً. ويوضح الشرح التالي سياق أنشطة ثمانٍ من هذه الميليشيات ضمن اللمحات العامة في مقالات سلسلة "الأضواء الكاشفة للميليشيات”.
البداية: الميليشيات الشيعية المستجلبة
في البداية، كان عمل إيران محصوراً إلى حد كبير بجلب الميليشيات التطوعية الشيعية الأجنبية مثل "لواء أبو الفضل العباس" و"لواء الإمام الحسين" لتأمين المواقع الدينية والسيطرة على العمليات العسكرية في المناطق الحيوية لعمقها الاستراتيجي. وعلى الرغم من أن هذه الجماعات هي شيعية في روحها التأسيسية، إلا أنها تعمل تحت مظلة استراتيجية أوسع نطاقاً تسترشد بـ"الحرس الثوري الإسلامي الإيراني"، مما يشير إلى أهداف طهران المزدوجة المتمثلة بالحماية الثقافية والتوسع العسكري. وقد شكّلت الجماعتان المذكورتان أعلاه نقطة جذب للمتطوعين الشيعة من العراق ولبنان وأفغانستان واليمن والعديد من البلدان الأخرى التي تتمتع بوجود شيعي قوي. وبمرور الوقت، توسع تركيزها الجغرافي لدعم نظام بشار الأسد و"الحرس الثوري الإيراني" على جبهات متعددة مثل حلب وحمص ودير الزور. لكن ضعف هذه الآلية يتمثل في غرابة هذه الجحافل الأجنبية عن الشعب السوري.
ميليشيات البقارة: جذور سنية، واصطفاف شيعي
يكشف "لواء الباقر" الذي هو أحد الأمثلة الأقدم، والأكثر قوة الآن، عن نفوذ إيران في سوريا. فهذه الميليشيا التي نشأت في منطقة حلب وتتكون في الغالب من قبيلة البقارة السنية، قد تأثرت بشكل كبير بالتحول إلى الإسلام الشيعي منذ عام 2013، مما أظهر قدرة إيران على دعم أجندتها من خلال طمس الخطوط الطائفية. فالجماعة ليست مجرد كيان عسكري ولكنها أيضاً جهة فاعلة سياسية، منخرطة بعمق في الحكم المحلي وتمارس السلطة في كل من حلب ودير الزور من خلال القوة العسكرية والمشاركة المجتمعية. ويسلط هذا الدور المزدوج الضوء على استراتيجية إيران لتعزيز التبعيات المحلية التي تؤمن مصالحها طويلة المدى في المنطقة.
والبقارة هي قبيلة عربية بارزة لها حضور واسع النطاق في سوريا والعراق. ففي سوريا، انشق الزعيم القبلي نواف راغب البشير في الأصل عن نظام الأسد في عام 2011 للانضمام إلى المعارضة، لكنه انضم لاحقاً من جديد إلى النظام في عام 2017 ويلعب حالياً دوراً مهماً. فـ "لواء الباقر" هو أكبر ميليشيا تابعة لقبيلة البقارة، لكن البشير لا يشرف عليها شخصياً، بل يمارس نفوذاً كبيراً على الجماعة بينما يقود مباشرةً ميليشيات البقارة التي تستخدم زخارف قبلية متميزة، مثل "أسود القبائل" و"فوج العشائر الهاشمية". وقد يعكس ذلك تبايناً بين الهوية الشيعية الجديدة لقادة "لواء الباقر" والهوية القبلية السنية لمعظم جنوده المشاة، على الأقل في الوقت الحالي.
الأهمية الإستراتيجية لحلب
في شمال غرب سوريا، تم استخدام "فيلق المدافعين عن حلب" لتعميق نفوذ إيران في حلب، المدينة التي يبلغ عدد سكانها 1.85 مليون نسمة وتتمتع بأهمية استراتيجية ورمزية هائلة في الحرب السورية. فمنذ انتهاء أعنف أعمال القتال في تلك المنطقة في الفترة 2015-2016، سيطر "فيلق المدافعين عن حلب"، الذي يبلغ قوامه 5000 مقاتل ويضم فصائل عربية محلية مختلفة مدعومة من "الحرس الثوري الإيراني"، على مساحات كبيرة من المدينة والمناطق المحيطة بها، حيث تولى إدارة مختلف المجالات، من إنفاذ القانون إلى الحكم المحلي. ومنذ عام 2017، كان دوره حاسماً في تعزيز النفوذ الإيراني في المشهد السياسي والعسكري في المنطقة، حيث شكّل نموذجاً لكيفية دمج طهران للبراعة العسكرية مع الحنكة الاجتماعية والسياسية. وفي غضون سنوات قليلة، من الممكن أن يتساوى تشيع الكادر القيادي لجماعات حلب مع التشيع في قيادة ميليشيا البقارة.
شرق سوريا: مركز للمقاومة القبلية
تشير تقديرات سلسلة "الأضواء الكاشفة للميليشيات" إلى أن الميليشيات القبلية التي تقوم بعملياتها في الأجزاء الجنوبية من وادي نهر الفرات أصبحت الآن نقطة محورية للمصالح الاستراتيجية لإيران. فبالنسبة لهذه الميليشيات، لا سيما في منطقة دير الزور، يبدو أن هدف "الحرس الثوري الإيراني" هو محاكاة قدرات الانخراط الإدارية والمجتمعية التي ظهرت في حلب. ومن شأن تكرار نموذج الحكم القوي لـ "فيلق المدافعين عن حلب" أن يمكّن طهران من توسيع نطاقها الإداري وتعزيز نفوذها عبر المناطق السورية الحيوية استراتيجياً.
وتشمل هذه الميليشيات العربية الموسعة في وادي نهر الفرات "حركة أبناء الجزيرة والفرات"، و"قوات القبائل والعشائر العربية"، و"لواء أسود العقيدات". ويقود جماعات الفرات الثلاث، التي تشكلت في آب/أغسطس وأيلول/سبتمبر 2023 إلى جانب "فوج العشائر الهاشمية"، شيخ قبيلة العقيدات إبراهيم الهفل. وقد استغل "الحرس الثوري الإيراني" رغبتها في تحدي "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا" بقيادة الأكراد و"قوات سوريا الديمقراطية". وبالإضافة إلى المواجهات العسكرية المتكررة، سهّلت هذه الجماعات طموحات إيران في ترسيخ سيطرتها على دير الزور وغيرها من المناطق المهمة لتأمين ممر بري نحو حلب. ويعكس موقفها العدائي ضد "قوات سوريا الديمقراطية" والقوات الأمريكية، بدعم من الأسلحة الثقيلة والتوجيه الاستراتيجي من طهران، عمق الاستثمار الإيراني في الديناميكيات القبلية السورية.
ماذا بَعْدْ بالنسبة للميليشيات العربية السورية التابعة لإيران؟
من المرجح أن يواصل "الحرس الثوري الإيراني" توسيع جهوده لتحويل سكان دير الزور إلى الإسلام الشيعي، معتمداً ببطء على الحالة الناجحة للزعماء الرئيسيين لقبائل البقارة. وستركز أنشطة التحول هذه بشكل غير متناسب على تجنيد الشباب السنة الفقراء واليائسين في سوريا ضمن الميليشيات، وتتضمن هذه المقاربة إعادة توطين المقاتلين الشيعة الأجانب وعائلاتهم في سوريا وتقديمهم كأمثلة على الفوائد المتاحة لأولئك الذين يتحالفون مع إيران (على سبيل المثال، الرعاية الصحية المجانية، والامتيازات الاجتماعية، والأولوية في الإسكان والعقارات، والمساعدة المالية). وقد يدفع توسيع مهام "فيلق المدافعين عن حلب" ميليشيات عربية أخرى مدعومة من إيران إلى تأسيس "أجنحة" اجتماعية واقتصادية وإدارية مدعومة بسخاء من طهران ونظام الأسد. ومع ذلك، يمكن لهذه الاستراتيجية أيضاً أن تعزز الدعم المحلي للعناصر الجهادية السنية مثل تنظيم "الدولة الإسلامية"، مما يعكس الطريقة التي أدى بها نمو الميليشيات الشيعية في العراق إلى تنشيط صعود تنظيم "الدولة الإسلامية".