- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3871
فك تشابك بيانات "الأمم المتحدة" المتعلقة بالوفيات في غزة
يشير التحوّل الكبير في عدد القتلى بين النساء والأطفال في غزة إلى مشاكل أعمق في الطريقة التي ينقل بها "مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية" البيانات ويتعامل مع المصادر المشكوك فيها.
في الآونة الأخيرة، لاحظ المحللون ووسائل الإعلام أن "مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية" قد غيّر بشكلٍ كبيرٍ عدد القتلى في غزة الذي ينقله من مصادر فلسطينية. ففي الفترة ما بين 6 و 8 أيار/مايو، خفّضت تقارير "مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية" العدد الإجمالي للنساء والأطفال الذين قُتلوا خلال الحرب بنسبة 47% تقريباً. كما أشارت المنظمة إلى أن الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 19 و 59 عاماً يشكلون 40% من القتلى، مما يتناقض مع الادعاءات السابقة التي أفادت بأن 70% منهم هم من النساء والأطفال.
وقد فسّر متحدث باسم "الأمم المتحدة" أن التغييرات هي مراجعات روتينية، ونَسبَ التناقض الكبير إلى "ضباب الحرب". كما خلص آخرون إلى أن "الأمم المتحدة" خفضت عدد القتلى من جانب واحد. ومع ذلك، يُسيء كلا التفسيرين فهم الكيفية التي يتم بموجبها جمع بيانات الوفيات والإبلاغ عنها أثناء الحرب، وكيف ينقل "مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية" هذه الادعاءات.
مشاكل في عملية نقل الإحصائيات من قبل الأمم المتحدة
على الرغم من أن "مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية" قد حاول التحقق من الوفيات والتمييز بين المقاتلين والمدنيين في الصراعات السابقة حول العالم، إلا أنه لم يفعل ذلك مع البيانات الحالية عن غزة التي يتلقاها من وزارة الصحة التي تديرها "حماس" ومن "المكتب الإعلامي الحكومي" (وهو وحدة فرعية من وزارة الإعلام تحت إدارة "حماس"). وبدلاً من ذلك، لا يقوم "مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية" سوى بنقل الإحصائيات المتعلقة بالوفيات من غزة، فهو لا يولّدها أو يتحقق منها. ومع أن المنظمة تعترف بهذه الحقيقة علناً، إلّا أن جهودها في نقل البيانات غير كاملة في أحسن الأحوال، ويُعتبَر عددٌ كبيرٌ من قراراتها بشأن البيانات التي تنشرها مثيراً للقلق.
وإحدى المشاكل هي أن "مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية" يتخلّف باستمرار عن الإقرار بأن وزارة الصحة في غزة تستخدم ثلاث منهجيات منفصلة لحساب الوفيات، وهي:
- نظام المستشفيات والمشارح، الذي يمكن فهمه جيداً والوثوق به نسبياً بناءً على تقاريره خلال الحروب السابقة
- نظام مخصص للإبلاغ الذاتي يقوم من خلاله أقارب القتلى بتقديم البيانات من خلال "نموذج غوغل"
- ما يُسمّى بـ"التقارير الإعلامية"، التي لا يُعرف عنها إلا القليل
وفي الفترة بين 7 تشرين الأول/أكتوبر و10 تشرين الثاني/نوفمبر، نقلت تقارير "مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية" ادعاءات وزارة الصحة في غزة حول عدد النساء والأطفال وكبار السن الذين قُتلوا، لكنها فشلت غالباً في تحديث فئات محددة أو معالجة البيانات المتعلقة بالنساء المسنات بشكلٍ متسق (لمزيد من المعلومات حول هذه المشاكل، راجع الدراسة التي أجراها المؤلف في كانون الثاني/يناير). وعندما توقفت وزارة الصحة في القطاع عن نشر البيانات لمدة ثلاثة أسابيع في ظل الاجتياح البري الإسرائيلي وانهيار نظام المستشفيات في شمال غزة، توقفت تقارير "مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية" عن الصدور لمدة أسبوعين. وبعد ذلك، بدأ "مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية" في نقل ادعاءات الوفيات من "المكتب الإعلامي الحكومي" في الفترة بين 22 تشرين الثاني/نوفمبر و11 كانون الأول/ديسمبر، واصفاً "المكتب الإعلامي الحكومي" بأنه "خاضع للسلطات المحلية في غزة"، لكنه أخطأ في ذِكر "توليه دور وزارة الصحة" في الإبلاغ عن أرقام الضحايا. واحتفظ "مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية" بأرقام 11 كانون الأول/ديسمبر في تقاريره حتى 2 كانون الثاني/يناير، لكنه نبّه ضمن التحديث الذي أجراه في 21 كانون الأول/ديسمبر بأن "منهجية «المكتب الإعلامي الحكومي» غير معروفة". ثم توقف عن استخدام "المكتب الإعلامي الحكومي" كمصدر.
وبحلول منتصف كانون الأول/ديسمبر، اتضح أن ادعاءات "المكتب الإعلامي الحكومي" مختلفة جداً عن بيانات وزارة الصحة في غزة. وفي "تقرير الطوارئ لوزارة الصحة" الصادر في 11 كانون الأول/ديسمبر، كشفت الوزارة أنها بدأت بإدراج تقارير من "مصادر إعلامية موثوقة" لاحتساب الوفيات والإصابات. ثم أصبحت هذه المصادر الإعلامية مهيمنة في إدراج عدد الوفيات اليومي، إذ تم الاستناد إليها للإبلاغ عن نسبة وصلت إلى 46% من الوفيات المزعومة بحلول نهاية آذار/مارس. وسرعان ما ظهرت مشكلة كبرى في هذه المقاربة. ففي حين شكّل النساء والأطفال أقل من 60% من الوفيات التي أبلغت عنها المستشفيات والمشارح، إلّا أن وزارة الصحة في غزة ادعت علناً أنهم كانوا يشكلون أكثر من 70% من عدد القتلى. ومن أجل التوفيق بين هذه الادعاءات المتناقضة، كان لا بد من ألا تقلّ نسبة الوفيات المسجلة عبر "التقارير الإعلامية" من النساء والأطفال عن 90% - وهي نسبة غير معقولة تحت أي ظرف من الظروف (راجع مقالة المؤلف من آذار/مارس حول هذا التناقض). وفي 27 آذار/مارس، خفّضت وزارة الصحة في غزة النسبة المزعومة البالغة 70%، لكن "المكتب الإعلامي الحكومي" احتفط بها.
وفي غضون ذلك، عاد "مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية"، لسببٍ غير مفهوم، إلى استخدام أرقام "المكتب الإعلامي الحكومي" المتعلقة بالنساء والأطفال في 8 آذار/مارس، مع أنها لم تكن مرتبطة ببيانات وزارة الصحة وغير متسقة معها. كما دخل "مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية" لفترة وجيزة في حلقة دائرية من الاستشهادات، إذ كان يَنسب بيانات وفيات النساء إلى وكالة أخرى تابعة "للأمم المتحدة"، هي "هيئة الأمم المتحدة للمرأة"، التي استشهدت بدورها بـ "مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية"؛ وفي الواقع، كان كلاهما يستشهدان بـ"المكتب الإعلامي الحكومي".
واستمر نقل "الأمم المتحدة" لبيانات "المكتب الإعلامي الحكومي" - التي غالباً ما تم تحديدها بشكلٍ خاطئٍ على أنها بيانات وزارة الصحة - حتى 8 أيار/مايو، عندما نقل "مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية" بدقة ما تبنته وزارة الصحة للمرة الأولى منذ خمسة أشهر، مما أدى إلى انخفاض كبير في إجمالي عدد الوفيات المبلغ عنه من النساء والأطفال. وعلى الرغم من هذا التحسن، إلا أن المشاكل لا تزال قائمة.
على سبيل المثال، يبدو أن "مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية" قد قَبِل مصطلحين جديدين تستخدمهما وزارة الصحة واللذين يشيران إلى الوفيات "المحددة" و"غير المحددة" من دون تعليق. ففي الفترة ما بين 11 كانون الأول/ديسمبر و31 آذار/مارس، أشارت وزارة الصحة مراراً وتكراراً إلى "التقارير الإعلامية" في جميع "تقارير الطوارئ لوزارة الصحة" (انظر هنا للحصول على أرشيف "تقارير الطوارئ السابقة لوزارة الصحة"). ومع ذلك، فقد غَيّرت الوزارة هذه العبارة في الأول من نيسان/أبريل مع تزايد الأسئلة حول ادعاءاتها المتعلقة بالوفيات، فاستبدلت تسميتها بـ"التقارير غير المحددة" في ملخصاتها اليومية حول قضايا الصحة العامة في غزة. لكن من المثير للاهتمام أنها احتفظت بعبارة "التقارير الإعلامية" في جداول البيانات التي رافقت "تقارير الطوارئ لوزارة الصحة"، مما يشير إلى أن هذا التغيير كان في الإسم فقط.
ويكمن جوهر المشكلة في استبدال تسمية "التقارير الإعلامية" بالتقارير "غير المحددة" بعدم وجود جثة يمكن تحديدها في كثير من الحالات. فعند الإشارة إلى الوفيات المزعومة بهذه التسمية، فإن التقارير الفلسطينية وما ينقله عنها "مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية" تعطي الانطباع بأن وزارة الصحة تعمل على احتساب بعض الجثث المتراكمة المجهولة التي تتواجد في المشارح. إلا أن منهجية "التقارير الإعلامية" أُنشئت في الأصل لتسجيل الوفيات في الأماكن التي يغيب فيها نظام المستشفيات/المشارح - أي أن هذه الوفيات المزعومة لم تذهب أبداً إلى المشارح، سواء لأن الجثث الخاصة بها دُفنت على انفراد، أم يُفترض أنها قابعة تحت الأنقاض، أم لم يتم أبداً تحديد مكانها. والنتيجة هي حدوث تداخل كبير بين آليات الاحتساب المنفصلة والافتراضات الخاطئة حول إجمالي عدد القتلى.
كما أن التحاليل الدقيقة لبيانات وزارة الصحة تثير الشكوك حول تمييز الوفيات "المحددة" أيضاً. ومع أن "مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية" لم يذكر على وجه التحديد مصدر توزيعه الديموغرافي الجديد في 8 أيار/مايو، إلا أن هذا التوزيع يتطابق بشكل وثيق مع بيان وزارة الصحة الصادر في 2 أيار/مايو الذي يغطي الفترة الممتدة من 7 تشرين الأول/أكتوبر إلى 30 نيسان/أبريل. ومع ذلك، فإن عدداً كبيراً من الوفيات التي سجلتها وزارة الصحة من المستشفيات والمشارح والتقارير الذاتية تم التعرف عليها جزئياً فقط - وعلى وجه التحديد، فإن نسبة 17.1% من هذه الوفيات ينقصها نقطة واحدة أو أكثر من نقاط البيانات الرئيسية مثل العمر أو الاسم أو الجنس أو رقم الهوية (أو لديها أرقام هوية غير صالحة). كما تتفاقم هذه المشكلة، إذ كشف التحليل في تقرير صادر عن وزارة الصحة بتاريخ 31 آذار/مارس أن نسبة 15.7% من سجلات الوفيات لدى هذه الوزارة تحتوي على بيانات غير كاملة.
التوصيات
يُحسب لـ"مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية" أنه كان واضحاً في واقع نقلِه أرقام الوفيات فقط وعدم محاولته التحقق منها. كما عزز أيضاً نص إخلاء المسؤولية في تقاريره، ونقله من أسفل صفحة ملخصات البيانات الكثيفة - حيث من المحتمل أن العديد من المتابعين قد تجاهلوه - إلى أعلى الصفحة. وجاء في الفقرة الجديدة المتعلقة بإخلاء المسؤولية عن "تقرير موجز بالمستجدّات" الذي ينشره "مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية" ما يلي: "يتم نسب الأرقام التي لم تتحقق منها «الأمم المتحدة» بعد إلى مصدرها الخاص. وقد تم الحصول على أرقام الضحايا من وزارة الصحة أو «المكتب الإعلامي الحكومي» في غزة ومن السلطات الإسرائيلية. وتُعزى تفاصيل البيانات السابقة المقدَّمة في هذه اللقطة عن النساء والأطفال الذين قُتلوا إلى «المكتب الإعلامي الحكومي» بناءً على الوفيات المبلغ عنها. أما توزيعات الوفيات المذكورة حالياً، فهي تلك التي حددتها بالكامل وزارة الصحة في غزة مؤخراً من بين العدد الكبير من الضحايا الذين تبلغ عنهم".
ومع ذلك، لم يتم تنفيذ هذه المراجعة حتى 13 أيار/مايو - أي بعد أيامٍ من ظهور تغيير كبير في عدد القتلى من النساء والأطفال، وبعد أشهرٍ من طرح الأسئلة للمرة الأولى حول البيانات الواردة من المؤسسات التي تديرها "حماس"، وبعد مرور أكثر من نصف عامٍ على الحرب في غزة، التي افترض العديد من مراقبيها على الأرجح أن أرقام "الأمم المتحدة" المرتبطة بضحاياها قد تم التحقق من صحتها قبل نشرها. علاوةً على ذلك، فإن اعتماد "مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية" بشكلٍ متقطعٍ على ادعاءات "المكتب الإعلامي الحكومي" يثير الكثير من الشكوك، نظراً لمنهجيتها الغامضة واختلافها الكبير عن ادعاءات وزارة الصحة.
ومن شأن زيادة الشفافية في عملية نقل البيانات التي ينفّذها "مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية"، أن تشمل الممارسات التالية:
- تجنب الاستشهاد بـ"المكتب الإعلامي الحكومي" تجنباً تاماً
- استخدام بيانات وزارة الصحة باستمرار
- شرح المنهجيات التي تتبعها وزارة الصحة للحصول على هذه البيانات بوضوح والتمييز بينها
- حل مسألة تحويل عبارة "التقارير الإعلامية" إلى عبارة "التقارير غير المحددة" في وزارة الصحة - وهي عملية لا تبدو على الإطلاق بمثابة تحويل، وتضفي صحة غير مبررة على الوفيات المصنفة على أنها "محددة"
وفي كثيرٍ من الأحيان، يستشهد الصحفيون والمعلّقون خطأً بمسؤولي "المكتب الإعلامي الحكومي" على أنهم "السلطات الصحية في غزة"، ويطلقون ادعاءات غير صادرة عن السلطة الصحية الفعلية في غزة - أي وزارة الصحة التي تديرها "حماس". فمن خلال نقل ادعاءات "المكتب الإعلامي الحكومي"، يساهم "مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية" في حدوث هذا الخلط وانتشار الادعاءات غير المدعومة.
ولا شك أن إحصاء عدد القتلى بدقة في صراعٍ فوضويٍ يشكل تحدّياً شديداً، لذا يتعين على كافة الأطراف توخّي الحذر الشديد عند تقديمها ادعاءات بشأن عدد القتلى. ونظراً لمكانة "مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية" وغيره من هيئات "الأمم المتحدة"، فإنها تتحمل مسؤولية كبيرة بشكل خاص لضمان الاحترافية والشفافية - وهو الواجب الذي لم يتم الوفاء به حتى الآن.
غابرييل إبستين هو مساعد باحث في "مشروع كوريت حول العلاقات العربية الإسرائيلية" في لمعهد واشنطن.