- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
فيما يتعدّى القومية: كردستان كعامل تحول لشرق أوسط جديد
قبل مائة عام شهد الشرق الأوسط محاولة لصياغة نظام جديد. فكما كانت القارة الأوروپية قد شهدت إعادة اصطفاف على أساس قومي، سعى راسمو نظام الشرق الأوسط الجديد إلى مطابقة الدول بالأمم، سواءاً كانت هذه قد أعيد اكتشافها، أو أعيد تصورّها، أو حتى جرى ابتكارها. وبعض الأمم الموعودة لم تكن سعيدة الطالع. آشور الجديدة لم يكتب لها أن ترى النور. وأرمينيا كان عليها أن تنكفئ بفعل المجزرة إلى صقع نائٍ من ديارها المرجوة. بعض هذه الدول الأمم أطلّت لوهلة، مثل دولة للنصيريين في سوريا بعد أن أعيدت تسميتهم بالعلويين، ودولة للدروز، لتختفي مجدداً في غياهب تاريخ اتفق الجميع على نسيانه.
أما من الجانب العددي البحت، فإن أكبر إهمال لمسعى صياغة الدول الأمم في أعقاب الحرب العظمى فقد كان كردستان. فهذه الأرض الجبلية التي امتطت يومها مقاطعات تدعي السلطان عليها الحكومات التركية والفرنسية والبريطانية والإيرانية، ما كانت سهلة لإعادة التصور والإدارة كدولة أمة. وعليه، فلم يُمنح الناطقون باللغة الكردية دولة قومية، بل كان عليهم تحمّل المزاعم التذويبية التي جعلت منهم أتراك جبال، وأكراد عرب، وأشقاء آريين، فيما تشدّدت التوجيهات نحوهم بأن المحافظة على لسانهم الموروث أمسى فعل خيانة وطنية.
ليس مستغرباً بالتالي أن يجنح المثقفون والناشطون الأكراد الآن إلى التعويض، وإن إلى حد المبالغة، إزاء سجل تضافر الهجمات على ثقافتهم وهويتهم. ففي كردستان العراق اليوم، خارطة كردستان التي تزيّن جدران صفوف المدارس ليست خارطة إقليم كردستان العراق، بل خارطة كردستان الكبرى، الممتدة من الخليج إلى البحر المتوسط، والمتضمنة أجزاءاً شاسعة من البلدان التي سبق أن أنكرت وجود كردستان. وحيث خارطة الأمل القومي هذه اليوم، كان حزب البعث بالأمس قد نصب خارطة الوطن العربي الكبير.
وإزاء ما ارتكبه نظام صدام حسين من مجازر في عمليات الأنفال، في سعي صريح لاجتثاث القضية الكردية، كان من شأن كردستان العراق أن تتقوقع في انطوائية قومية رافضة للآخرين. ولكن ذلك لم يحدث. ففي حين تنتشر مظاهر الاعتزاز القومي والثقافي، فإن إقليم كردستان العراق قد اعتمد توجهاً تعددياً يقرّ بالهوية والاختلاف للآخر، سواء كان هذا الآخر من مواطني الأقليم أو من الوافدين إليه جراء أزمات المنطقة. وقد يكون الدرب طويل أمام كردستان العراق لتحقيق انفتاح صادق في ممارسته السياسية. أما من الجوانب الثقافية والاجتماعية، فهو قد سار خطوات واضحة باتجاه التسامح والقبول بالآخر، فيما العديد من مجتمعات المنطقة تهرول في الاتجاه المعاكس.
وبغضّ النظر عن الخطابيات، فإن كردستان العراق قد اختبر كذلك حدود السعي إلى الاستقلال وتداعياته. فبعد أن كان المزاج العام حاسماً بذا الشأن، دخلت عوامل جديدة في معادلة البحث عن الصيغة المستقبلية، بما في ذلك واقع الترابط الاقتصادي، ولا سيما مع تدحرج أسعار النفط، والحاجة إلى موازنة الميل إلى المركزية داخل الإقليم باستدعاء المركزية خارجه. فهنا، في كردستان العراق، تجد الطموحات التاريخية والقناعات العقائدية نفسها في حوار وسجال مع الواقعية.
أما خارج العراق، فالأوضاع السياسية الكردستانية تتوزع وتختلف تحدياتها باختلاف الدول «المضيفة». ففي الشرق، جبروت الجمهورية الإسلامية الإيرانية يشكل عبئاً هائلاً أمام بروز خطاب سياسي ذاتي كردستاني، دون أن يمنع الهبّات التي حصلت وسوف تتكرر حتماً. أما في الشمال، فميزان القوى ليس بهذه القسوة، والوعي القومي يزداد ترسّخاً بفعل نشاط الساعين إلى تحقيقه، وكذلك بفعل الزلات والهفوات للحكومات التركية المتعاقبة. والحكومة الحالية لم تجد بعد المعادلة المناسبة للاستجابة للمطالب المدنية والثقافية والقادرة على مواجهة السعي العقائدي للانفصال في جنوحه في الكثير من الأحيان إلى العنف. وهذه مسألة وجودية لكل من تركيا وكردستان، دون أن يتوجب فهمها على أنها تقتضي حصرية ربح أو خسارة لأحد الطرفين. فالتوجهات الجديدة التي تعيد فهم كل من تركيا وكردستان بعيداً عن الاعتبارات الأحادية والهويات الاختزالية من شأنها أن تحافظ على كليهما. أما البديل الذي تجري ممارسته اليوم، فهو مواجهة بين نقيضين يمتنعان عن اللقاء والحل.
ويبدو أن الوضع الأكثر التباساً هو اليوم من نصيب كردستان سوريا. فإذ يشهد التعبير السياسي الكردي في سوريا درجة غير مسبوقة من الاستقلال، تتأرجح الممارسة السياسية بين المثالين العراقي والتركي. فالتعددية هي الموقف المعلن، في حين أن ما يحكم بعض المواقف الميدانية هو القومية التصادمية. فالتقارير عن حالات التهجير على أساس عرقي والتي تطال مواطنين من العرب السنة قد تنضوي على مبالغات، وهي دون شك لا تذكر سياق المواجهة القاسية مع تنظيم «الدولة الإسلامية». ولكنها تتواتر إلى حد لا يجوز معه إهمالها. فالاتهامات بالتمييز والعزل والتهجير بحقّ المواطنين من العرب السنة تشكل قضية تستوجب المتابعة.
وواقع الانتشار الكردي في سوريا يختلف عن الحالتين العراقية والتركية. ففي كل من العراق وتركيا، ثمة كتلة واضحة من المحافظات والأقضية والنواحي المتجاورة والتي يمكن الحديث عن أكثريات كردية فيها. أما في سوريا، فالانتشار اكثر توزعاً. وعلى طول الشريط الحدودي مع تركيا، تتعدد اللغات، وتتنوع المذاهب. والسوريون الأكراد جزء أصيل من هذا النسيج الذي يجمع المنطقة. فالخشية لدى أكثر من طرف أن يكون ثمة جنوح إلى الفرز السكاني لتحقيق كتلة أحادية من جملة المناطق المتنوعة التي ينتشر فيها السوريون الأكراد. وقد تشكل هذه الخطوة بالنسبة للبعض تصحيح لخطأ تاريخي هو إنكار قيام كردستان، ولكنه تبديل واهم يؤسس وحسب لمظلوميات جديدة من شأنها مضاعفة المواجهات لأجيال قادمة.
وكانت القيادة السياسة الكردية السورية قد أبدت قدراً من الإبهام والتحفظ إزاء الثورة السورية منذ مطلعها، وذلك انطلاقاً من تخوفها من أن تنحدر هذه الثورة إلى حراك فئوي عربي سني. والاعتراض التلقائي على هذا التخوف من جانب الناشطين المدنيين في الثورة هو أنه يحقق خشيته بداته، إذ أن تمنّع القيادة الكردية السورية وغيرها من الأطراف من اعتناق الثورة قد ساهم بانزلاقها نحو الفئوية. أما اليوم، والثناء يُغدق على القيادة الكردية السورية من موسكو وواشنطن على حد سواء، فقد تعتبر هذه القيادة أن خياراتها كانت صائبة، وقد ترى في «قوات سوريا الديمقراطية» تحت قيادتها، التي تضم مقاتلين من العرب بالإضافة إلى الأكراد، ما يمكّنها من درء الاتهامات حول فئويتها، وإن إلى حين. غير أن الإفلات من الاتهام بالفئوية لن يطول ما لم تلتزم القيادة الكردية السورية الرؤية الوطنية المشتركة التي ترفض دولة النظام وتنظيم الدولة معاً.
وقد يكون من المبكر اليوم رسم معالم الشرق الأوسط الجديد والذي سوف يتشكل بعد خمود عواصف الدمار. إلا أن بعض مكوناته تتشكل للتوّ. والتأكيد يقترب من الحتمية بأن الشرق الأوسط الجديد هذا سوف يشهد حضوراً صريحاً لكردستان. والأسئلة التي سوف تتولى الإجابة عليها المرحلة المقبلة هي ما إذا كان هذا الحضور كردستان واحداً أو متعدداً، وما إذا كان معتنقاً للقومية التسطيحية والشعبوية الثورية، وهذه وتلك اختبرها الآخرون في المنطقة وكانت حصيلة اختباراتهم الفشل، أو ما إذا كان ملتزماً بتطوير تجربة كردستان العراق إلى ما يتجاوز العراق، في تطبيق التعددية الجامعة وفي ابتداع أنماط جديدة من التعاون داخل الحدود الوطنية وخارجها.
وكان السياسي العراقي الراحل أحمد الچلبي قد تقدم بطرح «الإقليم الرابع» في مسعى منه لتأطير التنسيق بين العراق وتركيا وسوريا وإيران من أجل تحقيق التقدم والحِكامة والرفاه. والواقع أن حكومات هذه الدول منشغلة إما بالسعي إلى تحقيق البقاء، أو بوهم الهيمنة على الآخرين، أو بالبحث عن الصيغة الناجعة للتماسك الداخلي، فهي دون استثناء غير قادرة على الالتزام برؤيا مستقبلية من هذا النمط. ولكن عند تلاقي هذه الدول الأربع، يقع كردستان، ومنه قد يتحقق مثال جديد قائم على حتمية التشارك بالأرض بدلاً من التقوقع في خلاءاتها. فمن كردستان إما أن يبرز عامل تحول جديد للترتيب الاجتماعي السياسي في المنطقة، أو أن تظهر ادعاءات رديفة للسيادة والسلطة على أرض مزدحمة لتوّها. والفاصل بين هذا وذاك هو قرارات موضعية آنية ذات أبعاد كبيرة على المدى البعيد.
تتوقع جماعة تمجيد الموت تنظيم «الدولة الإسلامية» أن تشهد بلدة دابق في ريف حلب من الملاحم والفتن ما يبدل وجه التاريخ. إلا أنه ثمة توقعات أقل انتفاخاً ولكن أكثر أهمية يمكن البناء عليها مع متابعة مجريات تقدم قوات سوريا الديمقراطية في القرى السورية حيث يتواجد المواطنون العرب السنة، إذ فيها الإرهاصات حول كردستان الغد وحول الشرق الأوسط الجديد.
حسن منيمنة هو مساهم في تحرير "منتدى فكرة". وقد تم نشر هذه المقالة في الأصل من على موقع "منتدى فكرة".
"منتدى فكرة"