- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
هذه هي المشكلة الحقيقية فيما يخص حصيلة القتلى في غزة التي أعادت الأمم المتحدة النظر فيها
Also published in "واشنطن بوست"
تعكس الأرقام المعدلة لعدد القتلى الفلسطينيين في حرب إسرائيل ضد "حماس" التحديات العديدة المتمثلة في إحصاء الوفيات في الصراع الحضري الفوضوي في غزة.
أثارت الأمم المتحدة مؤخراً مناقشات بشأن عدد القتلى في غزة عندما غيرت المنظمة طريقة استنادها إلى التقارير التي تتناول القتلى في الهجوم المضاد الذي شنّته إسرائيل على حركة "حماس". فقد انخفض فجأة عدد القتلى من النساء والأطفال في الإحصاء الذي قدمته الأمم المتحدة بمقدار النصف تقريباً، على الرغم من أن إجمالي عدد القتلى لم يتغير تقريباً. ومع ذلك، لم يشكل التعديل تراجعاً مدهشاً، كما ادّعى البعض، ولا تحولاً غير مهم كما أصرّ آخرون.
وبالأحرى، تشير الأرقام المعدّلة إلى تعثر الأمم المتحدة في تقييم المعلومات المتضاربة التي نقلتها السلطات التي تعمل بإدارة "حماس"، وانعدام الشفافية في تقنيات إحصاء الضحايا، وصعوبة إحصاء القتلى في صراع حضري فوضوي.
وكثيراً ما يتحوّل الجدل الدائر حول حصيلة القتلى في غزة إلى معركة أنصارية قاسية تحجب المشاكل الحقيقية المتعلقة بالإبلاغ عن عدد القتلى - وهي المشاكل التي تؤثر بشكل كبير على التصورات العامة وقرارات صنع السياسات. ولذلك يتطلب تقييم المزاعم حول عدد القتلى، سواء تلك التي تزعم وجود زيادة مفرطة أو نقص مفرط في العدد، دراسة دقيقة للفترة الزمنية المعنية، والمنهجيات المستخدمة والبيانات المتاحة.
وفي هذا السياق، عندما اندلعت الحرب في أعقاب ما ارتكبته "حماس" من فظائع جماعية في 7 تشرين الأول/أكتوبر، قامت وزارة الصحة في غزة التابعة لـ"حماس" في بداية الأمر بإحصاء القتلى من خلال نظام المستشفيات والمشارح التابع لها، حيث يجري التعرف على الجثث وإدخال المعلومات في قاعدة بيانات مركزية، وتُعتبر أحياناً دقة هذا النظام في الصراعات السابقة دليلاً على موثوقيته في الحرب الحالية. ولكن في السابق، كان إحصاء وزارة الصحة يخضع لتدقيق مستقل من جانب "مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية" بالتعاون مع وكالات أممية أخرى ومنظمات غير حكومية. غير أن هذا التحقق الضروري في الوقت الفعلي والذي يميز أيضاً بين الإصابات في صفوف المدنيين والمقاتلين غير موجود في الوقت الحالي.
وتبرز مشكلة إضافية في هذا الصدد وهي أن وزارة الصحة تستخدم ثلاث منهجيات منفصلة تختلف في درجة موثوقيتها. فبحلول أوائل تشرين الثاني/نوفمبر، عندما استلزمت العملية البرية التي قام بها الجيش الإسرائيلي إغلاق وإخلاء المستشفيات في شمال غزة، بدأت وزارة الصحة باستخدام منهجية جديدة ومبهمة في تلك المنطقة وهي "المصادر الإعلامية الموثوقة".
وسرعان ما أصبحت هذه المنهجية، التي لم يتم شرحها قط، مصدر المعلومات المهيمن في إحصاء عدد القتلى، وقدّمت نسبة 45 في المائة من إجمالي الوفيات التراكمية المبلغ عنها في أواخر آذار/مارس. وفي كانون الثاني/يناير، أضافت وزارة الصحة منهجية ثالثة، وهي التقارير الذاتية باستخدام أحد نماذج "غوغل" التي يعدّها أفراد عائلات القتلى، ونشرت وزارة الصحة الدفعة الأولى من تلك البيانات في أواخر آذار/مارس. واعتباراً من 3 أيار/مايو، بلغت نسبة القتلى المبلغ عنها من جانب المستشفيات والمشارح ما يقرب من 60 في المائة، ومن المصادر الإعلامية 29 في المائة، ومن التقارير الذاتية لأفراد العائلات 11 في المائة. وقدمت وزارة الصحة بيانات ديموغرافية لتقارير المستشفيات والمشارح والتقارير الذاتية في 41 نشرة على تطبيق "تليغرام" نُشرت بين 11 كانون الأول/ديسمبر و 3 أيار/مايو، بالإضافة إلى أربع قوائم تحتوي على أسماء القتلى، أحدثها صدر في 5 أيار/مايو.
ويشير التحليل الديموغرافي للأسماء المدرجة مع سن معينة والبالغ عددها 24682 اسماً إلى أن 45.6 في المائة من القتلى هم من الرجال و23.1 في المائة من النساء، و31.3 في المائة من الأطفال. وبما أن ما يقرب من نصف سكان غزة هم من الأطفال والربع تقريباً من الرجال والربع الآخر من النساء، فإن ذلك يدل على نقص كبير في تمثيل الأطفال وزيادة في تمثيل الرجال، لا سيّما أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و45 عاماً. (وهذه الأعداد الأخيرة ليست مفاجئة؛ فهؤلاء الغزيون هم الأكثر تعرضاً للخطر). ومن بين التقارير الذاتية الصادرة عن العائلات والتي تعكس على الأرجح القتلى في صفوف المقاتلين، يمثل الرجال نسبة تتجاوز 55 في المائة.
وعلى مدى عدة أشهر منذ بدء الحرب، أفادت وزارة الصحة أن 70 في المائة من القتلى في غزة هم من النساء والأطفال، لكن بياناتها الخاصة لم تدعم ادعائها منذ منتصف كانون الأول/ديسمبر. وقد توقف "مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية" عن نقل نسبة الـ 70 في المائة في كانون الثاني/يناير، وتراجعت وزارة الصحة نفسها عن هذا الادعاء بهدوء في أواخر آذار/مارس.
وعلى مدى أشهر، قدّم المكتب الإعلامي الحكومي التابع لـ"حماس" أعداد الضحايا مع إجمالي عدد النساء والأطفال الذين قُتلوا، ولكنها لا تتطابق مع بيانات وزارة الصحة المأخوذة من المستشفيات والمشارح والتقارير الذاتية. فالهوة كبيرة بين أرقام المكتب الإعلامي وأرقام وزارة الصحة، إذ يجب أن يكون عدد الرجال الذين تم الإبلاغ عن مقتلهم عبر منهجية التقارير الإعلامية إما ضئيلاً أو سلبياً.
وعلى الرغم من ذلك، ومع الاعتراف في كانون الأول/ديسمبر بأن "المنهجية" التي يعتمدها المكتب الإعلامي الحكومي التابع لـ «حماس» "غير معروفة"، استشهدت الأمم المتحدة بأرقامه على مدى أشهر وتجاهلت معلومات عالية الجودة صادرة عن وزارة الصحة. وأدى ذلك إلى ارتباك واسع النطاق - وتغطية إعلامية شاملة - في 8 أيار/مايو عندما عادت الأمم المتحدة إلى نقل بيانات وزارة الصحة وفرّقت بين القتلى "المحددين" (تقارير المشارح والمستشفيات والتقارير الذاتية) والقتلى "غير المحددين".
ومع ذلك، فإن هذا الإطار الجديد يحجب الواقع، إذ أصبحت البيانات "المحددة" غير مكتملة بشكل متزايد مع مرور الوقت، في حين أن نسبة 17.1 في المائة من الإدخالات "المحددة" في منشور وزارة الصحة الصادر في أوائل أيار/مايو تفتقر إلى الهوية أو العمر أو الاسم أو الجنس أو تتضمن تفاصيل غير صالحة في هذه المعلومات. وفي الوقت نفسه، تشكل في الواقع الإدخالات "غير المحددة" إعادة صياغة وتقديم للبيانات المستمدة من منهجية التقارير الإعلامية، وهذا تغيير تم إجراؤه في نيسان/أبريل مع تزايد التدقيق الخارجي.
ومن غير المعتاد أن تقوم الأمم المتحدة، التي تستخدم عادةً معياراً صارماً للتحقق من الخسائر في الأرواح، بالإبلاغ عن أرقام الضحايا التي لم يتم التحقق منها من الأطراف المعنية. وقد توقفت المنظمة عن الإبلاغ عن عدد القتلى في سوريا بين عامي 2014 و 2021 وسط صعوبات في التحقق من الأرقام، وحتى أنها لم تحاول الإبلاغ بشكل شامل عن الضحايا في الحرب الأهلية الإثيوبية. وفي السودان، فإن عدد القتلى الذي تحققت منه الأمم المتحدة قد تم تجاوزه تقريباً من قبل عدد القتلى المقدر من مدينة واحدة.
إن النهج الأفضل الذي يعتمده "مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية" هو التوقف عن الاستشهاد بالإحصاءات الصادرة عن المكتب الإعلامي الحكومي التابع لـ"حماس"، الذي يفتقر إلى القدرة أو السلطة لإحصاء الضحايا، والتمييز بين المنهجيات الثلاث لوزارة الصحة، مع إجراء تدقيق أساسي في مزاعم جميع الأطراف.
ما الذي يمكن أن تخبرنا به صورة جزئية ومشكوك فيها لعدد القتلى، والتي تم تجميعها معاً من خلال ثلاث منهجيات متفاوتة الموثوقية؟ لا يمكنها أن تعطي نسبة القتلى من المدنيين إلى المقاتلين، نظراً لرفض وزارة الصحة التمييز بين الأمرين ولاحتمال تقليل عدد المسلحين الذين قتلوا في ساحة المعركة. كما لا يمكنها أن تساعد في تقييم شرعية الضربات أو العمليات الإسرائيلية الفردية. كما أن عدد القتلى المزعوم لا يشير بوضوح إلى إنه أقل من العدد الفعلي، إذ أن نسبة 40 في المائة من القتلى المبلغ عنهم مستمدة من منهجيات لا تنطوي على التعرّف المادي على الجثث، مما قد يؤدي إلى تداخل محتمل مع أولئك الذين تم الإبلاغ عن فقدانهم أو مَن هم تحت الأنقاض. ولا يمكن لهذا النهج أيضاً أن ينقل الخسائر الفادحة في الأرواح التي يعاني منها سكان غزة. ولا يمكن للبيانات أن تعطي سوى مؤشرات عامة: وعلى وجه التحديد، زيادة تمثيل الرجال في سن القتال بين القتلى، والانخفاض المستمر في عدد القتلى اليومي، من متوسط 341 في تشرين الأول/أكتوبر إلى 56 في نيسان/أبريل.
إن أحد الانتقادات الأساسية للسلوك الإسرائيلي هو أنه أوقع عدداً كبيراً من القتلى في صفوف المدنيين، وقد ظهرت هذه الأرقام بشكل بارز في وسائل الإعلام، وفي تصريحات القادة الدوليين، وفي المرافعات أمام "محكمة العدل الدولية"، وفي انتقادات الحكومة الأمريكية. ومع ذلك، فإن المنهجيات التي تستخدمها المنظمات التي تديرها "حماس" في جمع المعلومات لم تخضع لدرجة تُذكر من التدقيق.
من الضروري توخي الحذر عند التعامل مع مزاعم عدد القتلى في أي صراع، وخاصة الادعاءات التي تقدمها الأطراف المتحاربة. ويعني ذلك توخي الشفافية في الاعتراف بشوائب البيانات والمنهجيات المتاحة، وإلا ستسود حتماً شكوك بشأن استخدام البيانات لتحقيق هدف سياسي. ولذلك من واجب الأمم المتحدة والمسؤولين الحكوميين ووسائل الإعلام ومحللي السياسات التحلي بنفس القدر من المهنية والاحتراز فيما يتعلق بالحرب في غزة تماماً كما فعلوا في صراعات أخرى.
غابرييل إبستاين هو مساعد باحث في "مشروع كوريت حول "العلاقات العربية الإسرائيلية" في معهد واشنطن. وتم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع "واشنطن بوست".