- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
هل تنظيم «الدولة الإسلامية» جيد في الحوكمة؟
لا تشكل محاولات الجهاديين السلفيين إنشاء ولايات أو فرض حكمهم على الأراضي ظاهرة جديدة. فحتى بالنسبة إلى تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)، هذه محاولته الثانية لتأسيس دولة وفرض حكمه على الأراضي التي يسيطر عليها. لكن ما يميزه هذه المرة هو مستوى التخطيط والتطور والقدرات التي يتمتع بها مقارنة بما كان يمتلكه قبل عشر سنوات.
الدولة الأولى
في تشرين الأول/ أكتوبر 2006، عندما تم الإعلان عن «الدولة الإسلامية في العراق»، بايع زعيم مقاتلي تنظيم «القاعدة في العراق» أبو أيوب المصري (المعروف أيضاً بأبو حمزة المهاجر) زعيم المؤمنين الجديد أبو عمر البغدادي الذي نصب نفسه زعيماً. وفي كتاب صدر في كانون الثاني/ يناير 2007، شرح الشيخ عثمان بن عبد الرحمن التميمي من «الدولة الإسلامية في العراق» الأساس المنطقي لإعلان الدولة، وحدد أيضاً مسؤوليات الدولة تجاه المناطق التي تسيطر عليها وهي: ملاحقة المجرمين والمذنبين، وتنفيذ الحدود، والتوسط وحل النزاعات، وتوفير الأمن، وتوزيع المواد الغذائية والإغاثة، وبيع النفط والغاز.
وعلى الرغم من أنها أطلقت على نفسها اسم دولة، لم تسيطر «الدولة الإسلامية في العراق» سوى على أراضٍ صغيرة ولفترات زمنية محدودة، ويعود ذلك في جزء كبير منه إلى الاحتلال العسكري الأمريكي، ولكن أيضاً بسبب التمرد والمنافسة بين العشائر على السلطة. فقد حاولت هذه «الدولة» أن تظهر غطاءً من الشرعية من خلال إنشاء مجلس وزارات في نيسان/ إبريل 2007 وأيلول/ سبتمبر 2009. ولكن بسبب القيود التي واجهت «الدولة الإسلامية في العراق»، كان من شبه المستحيل تسوية النزاعات وتوفير الأمن وتوزيع المواد الغذائية والإغاثة أو بيع النفط والغاز. وبدلاً من ذلك، تراجعت عن معظمها إلا عن إقامة أنشطة الحسبة واستهداف الأعداء كالمرتدين، وبالتالي تشريع الاستهداف والقتل.
وبالتالي، قبل عشر سنوات، لم ترقَ «الدولة الإسلامية في العراق» إلى المعايير الخاصة بها للتميز في الحوكمة. فقد قتلت وخطفت قادة من الحلفاء السابقين، مثل «الجيش الإسلامي في العراق» و«أنصار السنة» وغيرها من الفصائل المتمردة، لأنهم كانوا غير مستعدين لمبايعة البغدادي.
وفرضت «الدولة الإسلامية في العراق» ارتداء النقاب على الإناث، وأحرقت صالونات التجميل ومحلات بيع الأشرطة الموسيقية، وجلدت الأفراد الذين يشربون الكحول أو يدخنون السجائر، وحظرت استخدام الحلاقين لشفرات الحلاقة الكهربائية. كما حظرت وضع بعض أنواع الفاكهة بجانب بعضها البعض في الأسواق بسبب مخاوف بشأن التلميحات الجنسية، وكذلك حظرت الخبز المحلي (الصمون) واستخدام الثلج.
وفي بلدة تلو الأخرى عجّلت هذه الأمور قيام ما أصبح يُعرف في النهاية باسم الصحوة القبلية. وأدى ذلك، إلى جانب زيادة عدد القوات الأمريكية في العراق، إلى إلحاق الهزيمة التكتيكية بـ «الدولة الإسلامية في العراق» بحلول عام 2009.
نحو دولة ثانية
بما أنه تمت هزيمة «الدولة الإسلامية في العراق» من الناحية التكتيكية فقط وليس من الناحية الاستراتيجية، استخدمت هذه «الدولة» الانسحاب الأمريكي الذي انتهى في كانون الأول/ ديسمبر عام 2011، والشكاوى السنية من نظام نوري المالكي في بغداد، والأهم من ذلك ساحة المعركة المجاورة في سوريا، لإعادة بناء بنيتها التحتية وقدراتها. وكما أشرتُ في آذار/ مارس 2013، قبل شهر من قيام التنظيم بتغيير اسمه إلى «الدولة الإسلامية في العراق والشام»: "من خلال الخطاب الطائفي، ستستخدم «الدولة الإسلامية في العراق» الحرب السورية في محاولة لكسب المزيد من المجندين في العراق واسترجاع الفرصة التي أضاعتها في العقد الماضي". وهذا بالفعل ما قامت به. فهذه المرة أثبتت «الدولة الإسلامية في العراق» أنها تختلف كثيراً عن العقد الماضي. وكان لها أيضاً وثيقة موقف مؤقتة تحدد كيف تسعى إلى الاستيلاء على الأراضي وحكمها.
وقبل اندلاع النزاع الداخلي الذي بدأ في كانون الثاني/ يناير 2014 بين تنظيم «الدولة الإسلامية» والثوار والإسلاميين والفصائل الجهادية الأخرى في سوريا، كان ثمة تفاهم بين مختلف القوات الثائرة ضد نظام الأسد. ونتيجة لذلك، تمكن تنظيم «داعش» من ترسيخ موقعه داخل الائتلاف المناهض للأسد الأوسع نطاقاً حتى في ظل تحفظ الفصائل الأخرى تجاهه، على عكس الوقت الحالي، حيث يعتبر تنظيم «الدولة الإسلامية» منبوذاً.
منذ نيسان/إبريل 2013 وحتى كانون الثاني/ يناير 2014، انصب التركيز الرئيسي لـ تنظيم «داعش» على تقديم نفسه بصورة إيجابية للشعب السوري من خلال منتديات الدعوة وتوفير الخدمات. كما قام بحملات شرطة أخلاقية أكثر ليونة، مثل حرق السجائر أو مصادرة الكحول. ولكن على غرار ما حدث قبل عقد من الزمن، قتل التنظيم أيضاً قادة آخرين من الفصائل السورية الثائرة، مما دفع إلى قيام رد فعل عنيف. فقد تم إخراج تنظيم «الدولة الإسلامية» من محافظات اللاذقية وإدلب، وأجزاء من محافظة حلب بين كانون الثاني/ يناير وآذار/مارس 2014.
وأدى ذلك إلى توحيد تنظيم «الدولة الإسلامية» للأراضي بشكل مستقل نحو الشرق في محافظة الرقة وأجزاء من محافظة دير الزور. وفي ذلك الوقت بدأت العقوبات الأكثر قسوة في الظهور، مثل قطع الأيدي بسبب السرقة أو صلب المرتدين المزعومين. وفي هذه الفترة، سعى تنظيم «داعش» أيضاً إلى أن يبدو وكأنه كيان شبيه بالدولة، عبر الافتخار بأقسامه الإدارية المختلفة، بما في ذلك مكاتب الدعوة الخاصة به والمحاكم الشرعية والمدارس الدينية ومراكز الشرطة والبلديات المحلية وغيرها. وقد كانت تلك العملية غير متساوية ما بين كافة أنحاء ولايات التنظيم حتى إعلانه الخلافة في حزيران/ يونيو 2014، حين غيّر التنظيم اسمه مرة أخرى ليصبح «الدولة الإسلامية».
الدولة الثانية
منذ ذلك الحين، وبناءً على تقييمي للآلاف من أبرز النشرات الإعلامية الخاصة بـ تنظيم «الدولة الإسلامية»، ظهر نمط معين في المحاولات الرئيسية التي عمل عليها التنظيم للتوسع أو السيطرة على أراضٍ جديدة، وتعزيز سيطرته عليها. فالمنهجية التي يتبعها تنظيم «الدولة الإسلامية» في جعل هيكليته في الحكم تقوم على نظام محدد ووفق تدابير إدارية محددة تتسم بالطابع الرسمي وتسمح له بالعمل باستمرار وبشكل متوازٍ في جميع أنحاء ولاياته المختلفة. ويمكن تطبيق هذا النموذج من الحكم أيضاً في الإقليم الأساسي الخاص به في العراق وسوريا فضلاً عن مختلف المحافظات الأخرى. لا بد من الإشارة إلى أن هذا النموذج أكثر تقدماً بكثير من النموذج السابق، ناهيك عن فروع تنظيم «القاعدة» (أقرب مثال على ذلك «حركة الشباب» في الصومال).
وتوضح أبحاثي أن بناء الدولة من قبل تنظيم «الدولة الإسلامية» يتم على مرحلتين: مرحلة ما قبل السيطرة على الأرض، أو السيطرة الجزئية عليها، ومرحلة السيطرة الكاملة على الأرض. وتبرز ضمن هاتين الفئتين خمس مراحل لفرض السيطرة: الاستخبارات، والجيش، والدعوة، والحسبة، والحوكمة. على الرغم من أن الحسبة تُعتبر عادة جزءاً من جهاز حوكمة تنظيم «الدولة الإسلامية»، إلا أنني فصلتُ ما بين الإثنين حيث يساعد ذلك على تمييز مستوى التقدم والتطور المرتبط بنشر العدالة عن المستوى المرتبط بالخدمات الفعلية والإدارة والنشاط الاقتصادي، لأن تنفيذ المستوى الأول أسهل من الثاني.
وبالمقارنة مع دولتها الأولى، أي «الدولة الإسلامية في العراق»، وبنائها لدولة ثانية، أي «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، تُعتبر هيكلية «الدولة الإسلامية» وخطتها وتنفيذها ما بعد حزيران/ يونيو 2014 أعلى مستوى بكثير. وبالإضافة إلى ذلك، واعتماداً على تواريخ معينة في محافظات معينة، ارتقى تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى معايير الحوكمة الخاصة به. ولا يعني ذلك إضفاء الشرعية عليه، بل فهمه وفقاً لشروطه. وتوضح هذه الزيادة في الفعالية قدرة التنظيم على التعلم من تجاربه السابقة. وتشير أيضاً إلى أن تنظيم «الدولة الإسلامية» قد يطبق الدروس المستفادة فيما يتم تنفيذ حوكمته في مناطق خارج العراق وسوريا وخاصة في ليبيا، بل ربما أيضاً في اليمن أو أفغانستان في المستقبل. فالمعارف الجديدة ستشحذ فكر تنظيم «الدولة الإسلامية» وتؤدي إلى استمرار نموه وتطوره بالإضافة إلى تقصير منحنى تعلمه.
لذلك، قد تتغيّر جوانب نموذج تنظيم «الدولة الإسلامية» في المستقبل. بالإضافة إلى ذلك، فمنذ بدء الضربات الجوية بقيادة الولايات المتحدة، تناقصت قدراته تدريجياً. ونتيجة لذلك، يصعب حالياً تحديد ما إذا كان تنظيم «الدولة الإسلامية» سيرتقي ليلبّي معاييره بعد الآن.
راقب وتعلم
على غرار تنظيم «الدولة الإسلامية»، يخوض تنظيم «القاعدة» عملية استخلاص الدروس من تجربة الحوكمة من «الدولة الإسلامية في العراق» في منتصف العقد الأول من الألفية الحالية. كما أنه يدرس أولى محاولات الحوكمة الخاصة به التي قامت بها فروعه الخاصة في السنوات القليلة الماضية في الصومال واليمن ومالي وسوريا.
وعلى عكس تنظيم «الدولة الإسلامية»، يحاول مقاتلو «القاعدة» تأصيل أنفسهم في حركات التمرد المحلية في ليبيا وسوريا واليمن ومالي، وعدم لعب دور احتكاري (على الأقل حتى الآن). ولا تزال محاولة الحوكمة الثانية لـ تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب» في مراحلها الأولى، إلا أن أداءه سيوفر المزيد من الإجابات عن التطور في تفكير تنظيم «القاعدة» حول الحوكمة وكيف يختلف عن محاولة الحوكمة الثانية لـ تنظيم «الدولة الإسلامية».
لقد أصبح إنشاء مشاريع حوكمة جهادية عبارة عن واقع طبيعي جديد. ومن الواضح في الوقت الحالي أن تنظيم «الدولة الإسلامية» قد وضع معايير عالية بالمقارنة مع محاولته السابقة قبل عقد من الزمن ومع الحوكمة الحالية لمقاتلي تنظيم «القاعدة». ولكن السؤال المطروح هنا، هو ما إذا كان نموذج «الدولة الإسلامية» أو «القاعدة» (أو كليهما) سيكون قادراً على الإبقاء على نفسه على المدى البعيد فيما يستمر في إدراج الدروس المستفادة من التجارب.
هارون زيلين، هو زميل "ريتشارد بورو" في معهد واشنطن.
"معهد بروكينغز"