- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
حرب الظل بين كوريا الشمالية وإسرائيل
لعبت الصدفة دوراً كبيراً عندما حققت إسرائيل أحد أهم إنجازاتها الاستخباراتية على الإطلاق في عام 2007. في تلك الفترة، قام "الموساد" بمراقبة المدير العام لـ "هيئة الطاقة الذرية السورية"، وهو موظف حكومي بدين يضع النظارت ويدعى إبراهيم عثمان. زار عثمان فيينا في شتاء ذلك العام لحضور اجتماعات "الوكالة الدولية للطاقة الذرية" التابعة للأمم المتحدة وسعى "الموساد" إلى معرفة المزيد عن أنشطته السرية، فاخترق الإسرائيليون حاسوبه الألكتروني الشخصي بعد أن غادر فندقه لحضور الاجتماعات في العاصمة النمساوية.
تفاجأت الحكومة الإسرائيلية بما عُثر عليه في جهاز حاسوب عثمان. فقد أظهرت مجموعة قيّمة من الصور المحمّلة تفاصيل مبنى صندوقي الشكل في طور البناء على نهر الفرات في شرق سوريا. وكانت أقمار التجسس الاصطناعية الإسرائيلية والأمريكية قد رصدت المبنى الغامض خلال عمليات مسح سابقة لسوريا ولكنها لم تدرك أهميته. إلّا أن الصور في جهاز حاسوب عثمان كشفت أن المبنى الواقع بالقرب من مدينة "الكبر" التجارية السورية، يشكل نسخة مطابقة للمفاعل النووي "يونغبيون" في كوريا الشمالية، وهو منشأة لإنتاج البلوتونيوم اعتبرتها الولايات المتحدة مصنع افتراضي لصنع القنابل. ولم تُستخدم هذه المنشأة لأي تطبيقات مدنية فعلية. ومما زاد من قلق الإسرائيليين من ارتباطها بكوريا الشمالية كانت صورة مخزونة في حاسوب عثمان. فقد ظهر فيها متشابك الذراعيْن مع رجل آسيوي عرّفه "الموساد" بأنه تشون تشيبو، عالم نووي من كوريا الشمالية كان يعمل في منشأة "يونغبيون". وسبق أن شارك تشون في محادثات نزع السلاح مع الولايات المتحدة وقوى عالمية أخرى.
وفي حين أن اكتشاف المفاعل النووي في مدينة "الكبر" أثار الذعر لدى المسؤولين الإسرائيليين والأمريكيين، إلا أنهم لم يتفاجأوا عندما تبيّن لهم أن كوريا الشمالية تلعب دوراً فعالاً في تزويد أحد أعداء إسرائيل بخبرة تصنيع الأسلحة الفتاكة. وفي الواقع، في حين أن كوريا الشمالية لا تُعدّ غالباً من أعداء إسرائيل أو، في هذا الصدد، جهة فاعلة في قضايا الشرق الأوسط، إلّا أن "مملكة الراهب" في بيونغ يانغ تعمل بنشاط على تعزيز الدول المعادية لإسرائيل وتسهّل الهجمات على الدولة اليهودية منذ ستينات القرن الماضي. وعلى الرغم من المحاولات التي تحصل أحياناً للتوصل إلى هدنة بين الدولتين، إلّا أن العداء الخفي والصراع بالوكالة - أي حرب الظل - يرسمان إطار العلاقة بين إسرائيل وكوريا الشمالية لعقود من الزمن. ويستمر هذا النمط حتى يومنا هذا في تحالف كوريا الشمالية مع إيران وسوريا.
وفي عام 2007، أوضح رئيس الوزراء الإسرائيلي، إيهود أولمرت، لواشنطن أن حكومته لن تقبل بأن يطّور الرئيس السوري، بشار الأسد، قدرته على صنع أسلحة نووية. فذلك يتعارض مع ما يُسمى بـ "مبدأ بيغن" Begin Doctrine الذي ينص على أنه لا يمكن للحكومة الإسرائيلية السماح لأعدائها في المنطقة بحيازة أسحلة دمار شامل. ودفع هذا المبدأ إسرائيل إلى شنّ هجوم على مفاعل "أوزيراك" Osirak في العراق عام 1981. ولكن قلق إسرائيل ازداد في عام 2007 عندما أظهرت أجهزتها الاستخباراتية أن منشأة "الكبر" أصبحت على وشك أن تصبح فعالة، مما يعني أن وقود اليورانيوم سيُضخّ إلى المفاعل. وفي تلك المرحلة، كان سيؤدي أي هجوم إسرائيلي إلى نشر التلوث المشع في أنحاء سوريا والعراق، ويتسبب بالتالي بإدانة الدولة اليهودية على نطاق واسع.
وفي غضون ذلك واجهت إدارة جورج بوش الابن مأزقها الخاص. فقد كانت الولايات المتحدة تحارب تمرداً متزايداً في العراق بعد الإطاحة بالرجل القوي صدام حسين بذريعة خاطئة بأن بغداد تطوّر أسحلة دمار شامل. وتساءل المسؤولون الأمريكيون حول إمكانية تنفيذ واشنطن عمليات عسكرية ضد دولة عربية أخرى، لا سيما تحت ستار الحدّ من انتشار أسلحة الدمار الشامل. وسعى المسؤولون في الاستخبارات الأمريكية أيضاً إلى معرفة كيف لم ينتبهوا لمفاعل الأسد الناشئ، بينما روّجت واشنطن وجود برنامج أسلحة غير موجود في العراق.
وفي ربيع وصيف عام 2007، ضاعفت إسرائيل والولايات المتحدة جهودهما للتأكد من صحة تقييمهما لمفاعل "الكبر". وأرسلت إسرائيل سراً قوات خاصة إلى شرق سوريا للحصول على عينات من التربة من محيط المنشأة على نهر الفرات. وأظهرت الاختبارات نتائج إيجابية لجزيئات اليورانيوم من صنع الإنسان اللازمة لبرنامج نووي. وفي الوقت نفسه، قامت إدارة بوش بتوظيف جهود أجهزتها الاستخباراتية لمراقبة تحركات دبلوماسيي كوريا الشمالية وشركاتها التجارية في سوريا في السنوات السابقة.
وفي النهاية، اكتشفت الولايات المتحدة تورط جهة فاعلة مثيرة للقلق على الصعيد الدولي، وهي "شركة نامتشونغانغ التجارية" Namchongang Trading Corp.، ترأسها مسؤول كبير من كوريا الشمالية يدعى يون هو جين. وفرضت الأمم المتحدة والولايات المتحدة عقوبات على يون باعتباره أحد أسوأ ناشري الأسلحة النووية لدى بيونغ يانغ. وكان يون دبلوماسي سابق من كوريا الشمالية في "الوكالة الدولية للطاقة الذرية" في فيينا واستخدم شركة "نامتشونغانغ" في أواخر تسعينات القرن الماضي لشراء أنابيب الألومنيوم سراً للبرنامج النووي لحكومته من شركات هندسية في ألمانيا. واعتُبر يون خبيراً في استخدام الشركات الوهمية وشبكات التهريب الدولية لخداع وكالات الاستخبارات المعادية. واعتقدت الولايات المتحدة أن يون ووالد زوجته، وهو مسؤول عسكري رفيع المستوى في كوريا الشمالية، لعبا دوراً في نقل القدرات العسكرية إلى باكستان وليبيا وميانمار، وشمل ذلك في بعض الحالات تقنيات أو مواد نووية.
ولكن الغموض كان لا يزال يكتنف "الكبر". وعجز الإسرائيليون والأمريكيون عن إيجاد المنشآت الداعمة داخل سوريا اللازمة لبرنامج أسلحة نووية. وشمل ذلك منشأة إعادة المعالجة لاستخراج البلوتونيوم المستخدم في صنع الأسلحة من المفاعل، والمواقع الهندسية الضرورية لتحويل المواد الإنشطارية إلى أجسام كروية لصنع قنبلة نووية. وتساءلت الولايات المتحدة وإسرائيل أيضاً عن الجهة التي كانت تمول البناء، نظراً للموارد المالية المستنفدة للأسد. وأشارت إحدى النظريات إلى أن إيران تسدد مصاريف مفاعل حليفها الوثيق كطريقة لامتلاك برنامج نووي مرافق بعيداً عن أعين المخابرات الغربية.
إن قصف "الكبر" في عام 2007 لم يردع كوريا الشمالية عن مواصلة نشر أنظمة الأسلحة المتطورة لأعداء إسرائيل، وحتى لأصدقائها في الشرق الأوسط في بعض الحالات. وبالفعل، لم تشعر إسرائيل بالقلق تجاه كوريا الشمالية إلا خلال السنوات الـ 12 منذ هجومها على سوريا. فقد زاد زعيم "بيونغ يانغ" الشاب، كيم جونغ أون، بشكل كبير من القدرات العسكرية لبلاده منذ أن تولى دونالد ترامب الرئاسة في عام 2017. ويعتقد مسؤولون في الاستخبارات الأمريكية أن كوريا الشمالية اختبرت صواريخ باليستية يمكنها الوصول إلى غرب الولايات المتحدة إذا تم اتقانها. وزادت كوريا الشمالية أيضاً من إنتاج أسلحتها النووية، متجهة نحو ما تقول حكومة كيم بأنها ستكون قنبلة ذرية هيدروجينية. ويقول مسؤولو الأمن في إسرائيل إن الأعمال السابقة لكوريا الشمالية تشير إلى أن كيم لن يتردد في نقل هذه القدرات إلى أعداء إسرائيل في الشرق الأوسط، لا سيما إذا دفع هؤلاء السعر المناسب.
ويتزايد القلق حالياً في القدس وتل أبيب من فشل المبادرات الدبلوماسية الراهنة التي تقوم بها إدارة ترامب تجاه كوريا الشمالية والتي تهدف إلى تفكيك ترسانة أسلحتها النووية، على غرار فشل الجهود الأمريكية السابقة. ويشير مسؤولون إسرائيليون حاليون وسابقون إلى أن إسرائيل قد تضطر عندئذ إلى النظر مجدداً في اتخاذ إجراءات عسكرية لمنع بيونغ يانغ من توزيع مخزونها من الأسلحة المتطورة على نحو متزايد في الشرق الأوسط.
وقال إيتان بينتسور Eytan Bentsur، نائب مدير سابق في وزارة الخارجية الإسرائيلية، الذي أجرى مفاوضات سرية مع كوريا الشمالية في بداية تسعينات القرن المنصرم: "أدلى الأمريكيون بتصريحات مفادها أن الولايات المتحدة ستتصدى لمسألة صواريخ كوريا الشمالية، وهو ما لم تفعله أبداً". وأضاف: "لا تتبع إسرائيل الجدول الزمني نفسه في التصدي لتهديدات كوريا الشمالية، فالأمر أكثر إلحاحاً".
* * *
وعلى الرغم من أن هناك محيطَيْن وأكثر من 8000 كلم يفصلان بين كوريا الشمالية وإسرائيل، إلّا أنهما خاضتا صراعاً منخفض الحدة وألاعيب تجسس عالية المخاطر منذ أكثر من خمسة عقود. فبالنسبة إلى الدولة اليهودية، شكلت بيونغ يانغ تهديداً بعيداً بل وجودياً بسبب نقلها المتكرر للتقنيات النووية والصاروخية إلى ألد أعداء إسرائيل في الشرق الأوسط. وبالنسبة لكوريا الشمالية، برزت مواجهة إسرائيل في الستينيات كبند رئيسي في حملتها لمحاربة الإمبريالية الغربية والحكومات التي تدعمها الولايات المتحدة. وكان مؤسس كوريا الشمالية، كيم إيل سونغ، قد دعم بشدة القضية الفلسطينية، وقدّم التمويل والتدريب للمقاتلين العرب الذين استهدفوا إسرائيل في الهجمات الإرهابية في سبعينيات القرن الماضي.
ولكن على الرغم من هذا العداء، إلّا أن كوريا الشمالية وإسرائيل انخرطتا سراً في مساعٍ دبلوماسية في العقود الأخيرة في محاولة لحماية أمنهما الوطني، من دون علم واشنطن في بعض الأحيان. وفي مناسبتين على الأقل، ناقشت إسرائيل مع دبلوماسيين من كوريا الشمالية سبل لوقف صادرات بيونغ يانغ من الصواريخ إلى الشرق الأوسط. ورأت كوريا الشمالية إسرائيل كشريك اقتصادي محتمل عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، وكقناة لتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة. ولكن في كلتا الحالتين، فشلت المساعي الدبلوماسية، وعاد ذلك جزئياً إلى عدم قدرة إسرائيل على التصرف بصورة مستقلة عن واشنطن. وتذمر بعض الدبلوماسيين الإسرائيليين من أن اعتماد بلادهم على الولايات المتحدة قد عجز عن حمايتهم من القدرات العسكرية المتنامية لكوريا الشمالية ومن صادرات بيونغ يانغ من التقنيات العسكرية المتطورة لأعدائهم.
ويعود تهديد كوريا الشمالية الاستراتيجي لإسرائيل إلى أواخر ستينات القرن الماضي عندما قرّر كيم إيل سونغ إدخال وحداته العسكرية والاستخباراتية بشكل مباشر في الصراع العربي الإسرائيلي. ودعَم كيم، الذي وصف إسرائيل بـ "الدولة الإمبرالية التابعة" في منطقة البحر المتوسط، الرئيس المصري جمال عبد الناصر والزعيم السوري القوي حافظ الأسد في حملتيهما لاستعادة الأراضي العربية التي فُقدت في حرب عام 1967 ومقاومة النفوذ الغربي في الشرق الأوسط. ودعمت بيونغ يانغ بشدة أيضاً الجماعات الإرهابية واليساريين المتطرفين الفلسطينيين الذين شنوا سلسلة من الهجمات على أهداف إسرائيلية في كل من الشرق الأوسط وأوروبا، خلال الستينيات والسبعينيات.
وفي عام 1972، قامت كوريا الشمالية بتدريب وتمويل عناصر من "الجيش الأحمر الياباني"، وهي منظمة ماركسية متطرفة، هاجمت مطار اللد في إسرائيل، مما أسفر عن مقتل 26 شخصاً وإصابة 80 آخرين. وحُبكت المؤامرة كإحدى الروايات الجاسوسية. وتدرب المقاتلون اليابانيون مع أفراد من "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" في سهل البقاع في لبنان. وقبل ذلك بعامين، كان قائد "الجبهة"، جورج حبش، قد توجه إلى بيونغ يانغ لتلقي التوجيهات من مسؤولي الاستخبارات هناك. ووفقاً لوثائق المحكمة المرتبطة بقضية مطار اللد، جمع المسؤولون في كوريا الشمالية بين "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" وبين "الجيش الأحمر الياباني" لمساعدة الفلسطينيين على تجنب الاستخبارات الإسرائيلية التي تركزت على تعقب التهديدات الإرهابية العربية. وقدم الكوريون الشماليون أيضاً التمويل والتوجيه العام للمخطط.
في عام 1972، نجح الإرهابيون اليابانيون باختراق أمن المطار الإسرائيلي بطرق لم يتمكن الفلسطينيون العرب القيام بها. وتفاقم الهجوم بسرعة وتحول إلى حمام دم. وكان الإرهابيون اليابانيون الثلاثة قد أدخلوا خلسة أسلحة رشاشة تشيكية الصنع إلى المطار بتخبئتها في حقائب آلات الكمان. وأطلقوا النار بشكل عشوائي داخل قاعة الوصول وألقوا قنابل يدوية. وكان معظم القتلى حجاج مسيحيين من بورتوريكو جاؤوا لزيارة الأراضي المقدسة. وخلال تبادل إطلاق النار قُتل اثنان من المهاجمين اليابانيين، في حين نجا فرد ثالث من "الجيش الأحمر الياباني"، كوزو أوكاموتو. وأمضى هذا الأخير عقوداً في سجن إسرائيلي قبل إطلاق سراحه، حيث عاد إلى لبنان ضمن إطار عملية تبادل للأسرى.
واستمرت تداعيات الهجوم على مدى عقود من الزمن. وفي عام 2010، نجحت عائلات الضحايا من بورتوريكو في مقاضاة كوريا الشمالية في محكمة أمريكية بتهمة تخطيطها للهجوم، وفازت بتسوية بلغت 378 مليون دولار، إلّا أن كوريا الشمالية لم تدفع أبداً [هذه التعويضات].
وفي عام 1973، انتقلت القوات العسكرية لبيونغ يانغ إلى المشاركة مباشرةً في الحروب بين العرب وإسرائيل. ففي ذلك الوقت، كانت مصر تقطع علاقاتها العسكرية مع الاتحاد السوفيتي، حتى في الوقت الذي كانت فيه القاهرة تستعد لشن هجوم مفاجئ على إسرائيل. وتعرضت قدرة مصر على تشغيل الدفاعات الجوية المتطورة التي نشرتها موسكو للخطر عندما طرد الرئيس أنور السادات المستشارين العسكرين السوفييت. فقد تكوّن سلاح الجو المصري بكامله تقريباً من طائرات "ميكويان-غوريفيتش ميغ-21 MiG-21" الروسية.
وهنا تدخلت كوريا الشمالية للمساعدة في إغلاق هذه الفجوة. وأُعجب السادات وقائد جيشه، حسني مبارك، بالقدرات العسكرية لكوريا الشمالية التي كانت تُستعرض بشكل متكرر لمواجهة كوريا الجنوبية وداعميها الأمريكيين. وقبل ذلك بسنوات قليلة فقط، استولت بيونغ يانغ على سفينة "بويبلو" Pueblo، وهي سفينة استخبارات تابعة للبحرية الأمريكية، انحرفت عن مسارها ودخلت مياه كوريا الشمالية. وكّوْن كوريا الشمالية عضواً في المحور السوفيتي، فقد عرفت كيفية تشغيل جميع المعدات العسكرية المصرية من المصادر السوفيتية، بما في ذلك الدفاعات الجوية وطائرات "ميغ-21".
وفي حزيران/يونيو 1973، دعا السادات رسمياً المستشارين العسكريين من كوريا الشمالية إلى مصر. ووفقاً لتقارير صحفية صينية، أرسلت بيونغ يانغ ما يقرب من 1500 فرد لمساعدة المصريين في تشغيل منظومات الصواريخ أرض-جو السوفيتية الصنع لأن الحرب مع إسرائيل بدت وشيكة. وقامت بيونغ يانغ بتمويه جنودها كعمال يوميين لتفادي رصدهم من قبل عملاء الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية والكورية الجنوبية. وقام الباحث البريطاني أدريان تشان ويلز بترجمة هذه التقارير الصحفية الصينية. كما أرسلت بيونغ يانغ بعثة من سلاح الجو الكوري الشمالي ضمّت 20 طياراً مقاتلاً من ذوي الخبرة كانوا قد نفذوا طلعات جوية ضد القوات الأمريكية في شبه الجزيرة الكورية.
وعندما اندلعت "حرب أكتوبر"، وصف أفراد الجيش الإسرائيلي قيام اشتباكات مع طائرات حربية كورية شمالية فوق سيناء. وفي تشرين الأول/أكتوبر 1973، صرح قائد سلاح الجو الإسرائيلي، الجنرال بنيامين بيليد، في مؤتمر صحفي بأن الطائرات الإسرائيلية أسقطت أثناء القتال الجوي طائرتي "ميغ" يقودهما طياران من كوريا الشمالية.
كما رافق طيارون من كوريا الشمالية القوات الجوية السورية. وفي الأشهر التي أعقبت رسمياً انتهاء "حرب أكتوبر"، استمرت المخابرات العسكرية الإسرائيلية في رصد أحاديث بين الطائرات السورية التي كانت تقوم بين الحين والآخر بطلعات ضد الدولة اليهودية لحماية حدود دمشق. وأثارت الاتصالات حيرة المحللين الإسرائيليين، لأن بعض المقاتلين لم يتحدثوا بالعربية، بل تواصلوا بلغة يبدو بوضوح أنها ليست أصلية في الشرق الأوسط أو الجمهورية العربية السورية.
وبذل المسؤولون الإسرائيليون جهدهم لمعرفة أصل هؤلاء الطيارين المقاتلين الغامضين وأرسلوا المكالمات الملتقطة إلى البنتاغون لتحليلها. فأذهلهم الردّ الذي تلقوه من واشنطن. فقد أفاد الأمريكيون بأنهم كوريون شماليون ملحقون بالجيش السوري. وفي تل أبيب، قال لي العقيد (المتقاعد)، بيساخ مالوفاني، وهو ضابط استخبارات إسرائيلي سابق قام بتحليل المكالمات المرمزة التي تم اعتراضها منذ 45 عامأً: "انتابتني الدهشة في البداية لأن الكوريين الشماليين كانوا هناك". وأضاف:"من الواضح أن تداعيات صراعنا تجاوزت حدود المنطقة".
* * *
وفي أعقاب الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 التي أطاحت بالشاه المدعوم من الولايات المتحدة وأرست نظام الخميني الديني، تحالفت كوريا الشمالية مع إيران التي ستصبح العدو الأول لإسرائيل في المنطقة. وانجذب كيم إيل سونغ إلى خط المعارضة القوي المناهض للولايات المتحدة والمعاد للإمبريالية الذي رسّخه الحكام الإسلاميون الجدد في طهران. وسرعان ما وطد العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع إيران وسعى إلى توسيع نطاق العمليات العسكرية لبيونغ يانغ في الشرق الأوسط.
وعندما غزا العراق إيران في عام 1980، استحال عملياً على حكومة طهران الجديدة تأمين [الحصول على] الأسلحة لردع قوات صدام حسين بسبب الحظر الذي فرضته الولايات المتحدة على [تصدير] الأسلحة. وأمر كيم إيل سونغ جيشه آنذاك بمساعدة الجمهورية الإسلامية. وأفاد المنشقون الكوريون الشماليون الذين قابلهم كاتب هذا المقال في سيئول خلال العقد الماضي بأنهم أُرسلوا إلى إيران طوال الثمانينيات لتحصين الدفاعات الإيرانية. وأشار أحد كبار المنشقين الذي عمل في صناعات الذخيرة في بيونغ يانغ إلى أن "اللجنة الاقتصادية الثانية" في كوريا الشمالية قد أرسلته إلى إيران مكلفاً ببناء بطاريات صواريخ في جزيرة كيش الإيرانية لمساعدة طهران على التحكم بشكل أفضل على حركة سفن العدو عبر مضيق هرمز.
وقال المنشق إنه تواصل بشكل أساسي مع وحدة النخبة في الجيش الإيراني، أي قوات "الحرس الثوري الإسلامي" الإيراني. ويفيد الخبير السابق في الأعمال الهيدروميكانية بأن صداقة حميمة نشأت بين أفراد فريقه الذي تألف من 100 عنصر والحرس على الرغم من اختلافاتهم الثقافية واللغوية. وسخر عندما ذكر مدى معاناة عناصر فريقه الكوريين الشماليين الذي يفرطون في الشرب لعجزهم عن الاسترخاء في بلد يحظر الكحول. وأضاف المنشق واصفاً سبب ازدهار العلاقات بين إيران وكوريا الشمالية واستمرارها قائلاً: "يتذكر الإيرانيون دائماً أننا نحن من جاء للدفاع عنهم عندما عزلهم بقية العالم".
* * *
واستمر التحالف العسكري بين كوريا الشمالية وإيران حتى بعد انتهاء الحرب بين إيران والعراق في عام 1988. وفي تلك الفترة بالذات، بدأ التعاون الوثيق بين البلدين لتطوير أنظمة الصواريخ الاستراتيجية. وسمحت هذه القدرة لإيران باستهداف خصومها العرب، بما في ذلك المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. ولكن هذه القدرة مكّنت طهران في النهاية أيضاً من استهداف إسرائيل التي يعتبرها القادة الإسلاميون في إيران "سرطاناً" في منطقتهم. ومع ذلك، كانت كوريا الشمالية تواجه في أوائل التسعينيات أزمات وجودية على جبهات متعددة. فقد أدى انهيار الاتحاد السوفيتي إلى توقف الدعم المالي من موسكو إلى بيونغ يانغ، وفي الوقت نفسه حرّم أيضاً كوريا الشمالية من أسواق التصدير الرئيسية في الكتلة الشيوعية العالمية. ومنذ نهاية الحرب الكورية في الخمسينيات، تفوقت كوريا الشمالية في بعض الأحيان على كوريا الجنوبية بإنتاج السلع الصناعية. ولكن تلك الديناميكية انعكست جذرياً عندما برزت سيئول كرائد عالمي في إنتاج الإلكترونيات والسفن والسيارات.
وفي ذلك الوقت، كان مؤسس كوريا الشمالية، كيم إيل سونغ، في الثمانينيات من عمره، وكان يعاني من مشاكل في القلب أدّت إلى وفاته في النهاية. وساد عدم اليقين في بيونغ يانغ بشأن خليفته المختار، وهو ابنه الأكبر كيم جونغ إيل، وقدرته على قيادة البلاد في تلك الأوقات الصعبة. واشتهر كيم الابن بأنه زير نساء وسكير يفضل إنتاج الأفلام على القدرة السياسية على إدارة الدولة.
وفي هذا السياق من عدم الاستقرار بالدرجة الأولى، قامت كوريا الشمالية بمبادرة سرية تجاه إسرائيل في عام 1992. وكانت بيونغ يانغ تبحث عن طرق لمعالجة ضائقتها الاقتصادية ورأت الدولة اليهودية كشريك محتمل لإنعاش صناعتها. وربما اعتقد قادة كوريا الشمالية أيضاً أن إسرائيل، وجماعة الضغط السياسية النافذة في الولايات المتحدة الخاصة بها، يمكن أن يكونا قناة لتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة في وقت أصبح فيه تحالف بيونغ يانغ مع موسكو موضع شك.
وجرت أول عملية تواصل بين كوريا الشمالية وإسرائيل في شهر أيلول/ سبتمبر 1992 عن طريق رجل أعمال أمريكي كوري. واتصل رجل الأعمال بالإسرائيليين عن طريق أحد أقارب إيتان بينتسور، نائب المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية، الذي كان يزور واشنطن في ذلك الوقت لإجراء مفاوضات مع الفلسطينيين. وعُقد اجتماع أولي في حي الماس في وسط مانهاتن. وكان الطلب الأولي لبيونغ يانغ بسيطاً: فقد سعت إلى استثمار إسرائيلي بقيمة 30 مليون دولار في منجم ذهب دمرته القوات الجوية الأمريكية خلال الحرب الكورية بالإضافة إلى مساعدة تقنية لإصلاحه. وأملت كوريا الشمالية في أن يؤدي التعاون الناجح في هذا المشروع في مقاطعة أونسان المركزية إلى فسح المجال أمام مسارات أخرى للتعاون الاقتصادي بين البلدين.
وفي مقابلات مع بينتسور، صرح الدبلوماسي الإسرائيلي بأن العرض أثار حيرته بسبب قلق إسرائيل المتزايد من نقل كوريا الشمالية تقنية الصواريخ الباليستية إلى خصومها في المنطقة. وقال إن العلاقة القوية يمكن أن تؤدي إلى وقف تدفق هذه الأسلحة وتُخفف من حدّة التهديد الوجودي الناشئ الذي تشكّله أنظمة الصواريخ في إيران وسوريا وليبيا على إسرائيل. وقال بينتسور إن قيام علاقة أفضل مع بيونغ يانغ قد يصب أيضاً في مصلحة واشنطن التي لا تزال تحتفظ بعشرات آلاف الجنود في شبه الجزيرة الكورية لمواجهة تهديد كوريا الشمالية. وأخبرني بينتسور في أحد المقاهي في تل أبيب: "كان الاتحاد السوفيتي يتفكّك وبدأ الجوع يستشري في كوريا الشمالية". وأضاف: "أرادوا النجدة".
وفي عامي 1992 و1993 باشر بينتسور بإجراء سلسلة من المفاوضات مع كوريا الشمالية في كل من بكين وبيونغ يانغ. وضم الدبلوماسي خبراء في حقل المناجم والمعادن من جامعات إسرائيلية لدراسة إمكانية إصلاح المنجم الكوري الشمالي. وخلال المناقشات، بدأ الإسرائيليون يطرحون فكرة صادرات الصواريخ من بيونغ يانغ [إلى بعض دول المنطقة]. وقال بينتسور إن فريقه وضّح لمحاوريه أن أي مساعدة اقتصادية من إسرائيل تشترط توقف بيونغ يانغ عن الاتجار بالأسلحة في الشرق الأوسط. وطلبت كوريا الشمالية مبلغاً مالياً أكبر بقيمة مليار دولار للاستثمارات في البلاد.
وفي الزيارة التي قام بها بينتسور في تشرين الثاني/نوفمبر 1992، استُضيف في دار ضيافة حكومي أقام فيه سابقاً رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات. وقال بينتسور عن إقامته في الغرفة نفسها التي أقام فيها الثائر العربي: "نزلنا في مكان باذخ ورائع". وبما أن المحادثات تحولت من التركيز فقط على المنجم إلى مشاركة اقتصادية أكبر حجماً، أفادت كوريا الشمالية على وجه التحديد بأنها تتوقع تعويضاً مالياً مقابل وقف مبيعاتها من الصواريخ إلى الشرق الأوسط. وقدرت بيونغ يانغ بأنها كسبت مئات ملايين الدولارات من هذه التجارة في السنة.
وفي النهاية، اعتقد بينتسور وفريقه أن معايير الاتفاق متوفرة مع كوريا الشمالية، حيث ستساعد إسرائيل في المنجم وتؤسس صندوق لاعتماد مالي بقيمة مليار دولار وتبحث عن طرق لمعالجة نقص الطاقة في كوريا الشمالية. أما بيونغ يانغ فستقوم بدورها بوقف صادراتها من الصواريخ إلى أعداء إسرائيل. وأخبرني بينتسور مشيراً إلى وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك، شمعون بيريز: "كانت كوريا الشمالية مستعدة للسماح لإسرائيل بفتح بعثة دبلوماسية وأراد الكوريون الشماليون من بيريز زيارة بيونغ يانغ. ووافقوا على السماح للإسرائيليين بمراقبة موانئهم".
ولكن الاتفاق لم يُعقد. فقد سلك الكوريون الشماليون مساراً آخر من المساعي الدبلوماسية مع إسرائيل من خلال "الموساد" - جهاز التجسس الإسرائيلي الشهير. فقد كان نائب مدير "الموساد" في ذلك الوقت، إفرايم هاليفي، يُجري في الوقت نفسه مفاوضات مع بيونغ يانغ تركّزت على خطة أمدها 10 سنوات للمساعدة في مجال الطاقة. وسافر الرجلان بشكل منفرد إلى بيونغ يانغ في تشرين الثاني/نوفمبر 1992 لإجراء مناقشات. وتفاجآ عندما التقيا ببعضهما البعض على نفس رحلة العودة من كوريا الشمالية إلى الصين على متن طائرة تابعة لشركة طيران كوريا الشمالية، "إير كوريو"، المتجهة من بيونغ يانغ إلى الصين. وتعمدت كوريا الشمالية على إخفاء القناتين الدبلوماسيتين عن الرجلين.
ولم يبدُ هاليفي متفائلاً مثل بينتسور بشأن التعامل مع كوريا الشمالية. وظن الجاسوس المولود في بريطانيا أن كوريا الشمالية تحاول استغلال إسرائيل عبر استخدام التجارة الاقتصادية كوسيلة لتقليل نفوذ الولايات المتحدة على عدوها التاريخي. وأبلغ هاليفي "وكالة الاستخبارات المركزية" بالمحادثات السرية وتلقى رداً من واشنطن بأن إدارة كلينتون لم تدعم المباردة. وتلقى وزير الخارجية، بيريز، الرسالة نفسها من نظيره الأمريكي، وارن كريتسوفر Warren Christopher، في أوائل عام 1993. وأخبرني هاليفي في تل أبيب: "لم نستطع دخول كوريا الشمالية بمفردنا من دون معرفة الأصدقاء في واشنطن". وأضاف: "لم نكن جهة فاعلة في آسيا".
وبعد بضعة أشهر فقط، اندلعت أزمة دولية عندما اكتشف المفتشون النوويون التابعون للأمم المتحدة أن كوريا الشمالية كانت تحوّل البلوتينيوم من مفاعلها "يونغبيون"، لاستخدامه في تصنيع الأسلحة كما يُحتمل. وبدأت إدارة كلينتون مفاوضات مع نظام كيم إيل سونغ، وتوصّل الجانبان في النهاية إلى اتفاق لا يختلف عن ذلك الذي سعى إليه بينتسور وهاليفي. ووافقت الولايات المتحدة على تقديم المساعدة لكوريا الشمالية في مجال الطاقة على شكل شحنات نفط ومفاعلات الماء الخفيف، وفي المقابل تُغلِق كوريا الشمالية منشأة "يونغبيون". ولكن الصفقة المعروفة باسم "الإطار المتفق عليه" لم تعالج قطّ مشكلة صادرات كوريا الشمالية من الصواريخ إلى الشرق الأوسط. وواصلت بيونغ يانغ أعمالها النووية السرية من دون علم الولايات المتحدة والأمم المتحدة. وبالفعل، أتّقنت كوريا الشمالية أخيراً تقنيتين لصنع القنابل النووية: تضمنت إحداهما استخراج البلوتونيوم الذي ينتجه مفاعل "يونغبيون"، واستخدَمت الثانية أجهزة طرد مركزي لإنتاج اليورانيوم الصالح لصنع أسلحة نووية.
وفي عام 1999، تلقى الدبلوماسيون الإسرائيليون سراً عرضاً آخر من كوريا الشمالية لوقف صادرتها الصاروخية. واتصلت كوريا الشمالية هذه المرة بالدولة اليهودية عن طريق دبلوماسيين مقرهم في ستوكهولم. وأشارت بيونغ يانغ إلى أنها ستطلب من إسرائيل مليار دولار لوقف تصدير منظوماتها الصاروخية الأكثر تطوراً إلى سوريا وإيران. وردّت إسرائيل بأنها لا تستطيع دفع هذه المبالغ النقدية الكبيرة لكوريا الشمالية وراء ظهر الأمريكيين.
* * *
وعلى الرغم من هذه اللقاءات مع كوريا الشمالية، يقول المسؤولون الإسرائيليون بأنهم لا يملكون معلومات استخبارية كبيرة بشأن أنشطة البلاد على الصعيد العالمي. وكان يُنظر إلى بيونغ يانغ إلى حد كبير على أنها مشكلة أمريكية، بصرف النظر عن التهديد الذي شكّله نظام كيم على المصالح الأمنية الإسرائيلية الأساسية. ومع ذلك، سرت شائعات في كوريا الجنوبية في بعض الأحيان بأن "الموساد" كان نشطاً في إدارة عمليات تخريب تستهدف كوريا الشمالية. وفي ربيع عام 2004، تعرّض قطار كوري شمالي يسير بالقرب من الحدود الصينية لانفجار هائل أسفر عن مقتل أكثر من 50 شخصاً. وزعمت بعض التقارير الصحفية في آسيا أن جنوداً سوريين كانوا من بين الضحايا. وأثار ذلك التكهنات بأن جواسيس إسرائيليين استهدفوا القطار لعرقلة صادرات الصواريخ لبيونغ يانغ. ولم أتمكن من تأكيد حدوث مثل هذه العملية، على الرغم من رحلات التقارير المكثفة التي قمت بها إلى سيئول وإسرائيل.
وشكل المفاعل النووي الذي بنته كوريا الشمالية في سوريا تهديداً لم تتمكن إسرائيل من تجاهله حتى بعد أن قرر الرئيس بوش في صيف عام 2007 عدم استخدام الجيش الأمريكي لتدمير المنشأة. وشكّل عدم قدرة المخابرات الأمريكية على الإجابة على الأسئلة العالقة بشأن قدرة سوريا النووية أحد الأسباب المهمة لبوش. ولكنه أخبر مساعديه أيضاً بأنه لا يستطيع المجازفة بحرب إقليمية أخرى في الشرق الأوسط في الأشهر الأخيرة من ولايته الثانية. واقترح على أولمرت أن تُبلّغ الولايات المتحدة "الوكالة الدولية للطاقة الذرية" عن انتهاك سوريا للقوانين الدولية لمنع الانتشار النووي وأن تحاول إزالة تهديد دمشق دبلوماسياً. وكانت إدارة بوش تتابع بشكل متزامن محادثات مع كوريا الشمالية تهدف إلى تفكيك ترسانتها النووية المتنامية. واعتقدت وزيرة الخارجية الأمريكية، كوندوليزا رايس، أن مهاجمة "الكبر" قد تعرقل تلك المحادثات.
* * *
وقَبِل أولمرت منطق بوش، ولكنه أوضح أن إسرائيل تستعد للتصرف بمفردها. واعتقد مساعدوه أن أي مسار دبلوماسي تشارك فيه "الوكالة الدولية للطاقة الذرية" سيؤدي إلى مفاوضات مطوّلة تنطوي على خطر إضفاء الشرعية على البرنامج النووي السوري. فقد شهدوا دينامية مماثلة بعد أن ضُبطت إيران تبني مواقع نووية سراً في عام 2002.
وفي مساء 5 أيلول/ سبتمبر 2007، أقلعت ثماني طائرات إسرائيلية سراً من قاعدتين تابعتين لسلاح الجو الإسرائيلي في صحراء النقب واتجهت شمالاً فوق البحر المتوسط ومن ثم شرقاً إلى المجال الجوي التركي قبل دخولها إلى سوريا. ودمرت الطائرات منشأة "الكبر" كلياً قبل أن تعود بأمان إلى إسرائيل. وفرض أولمرت تعتيماً على وسائل الإعلام الإسرائيلية [بمنعها] من تقديم تقارير بشأن الهجوم. والتزم الرئيس الأسد الصمت أيضاً، حيث كان محرجاً من التقاعس الذي أظهرته الدفاعات الجوية لبلاده أثناء الهجوم. وكانت كوريا الشمالية الدولة الوحيدة التي أدانت العملية علناً. وقال مسؤولون أمريكيون إن عدداً من العمال الكوريين الشماليين لقوا حتفهم أثناء قصف "الكبر".
ومع ذلك، بقي العديد من المسؤولين الإسرائيليين والأمريكيين قلقين بشأن الدروس المستفادة من تلك الحادثة. وشعر أولمرت بالارتياح لأن الأسد لم يردّ عسكرياً على الهجوم ويشعل حرباً أقليمية محتملة. إلّا أن سوريا وكوريا الشمالية لم تدفعا أي ثمن دبلوماسي أو مالي حقيقي مقابل تصرفاتهما السافرة المتعلقة بانتشار الأسلحة النووية. وواصلت إدارة بوش بالفعل سعيها للتوصل إلى اتفاق نووي مع بيونغ يانغ وشطبت كوريا الشمالية من قائمة الدول الراعية للإرهاب في عام 2008. ولكن حتى في ذلك الحين لم يحصل بوش على معاهدة نزع السلاح التي سعى إليها. وانسحبت كوريا الشمالية من المحادثات في الأشهر الأخيرة من رئاسته وشرعت في زيادة إنتاجها من القنابل الذرية والصواريخ البعيدة المدى بشكل كبير. وفي غضون ذلك، استمرت سوريا وكوريا الشمالية بنفي تعاونهما لبناء المفاعل على نهر الفرات.
لقد كان الدرس لكوريا الشمالية هو أن بإمكانها نشر الأسلحة النووية في الشرق الأوسط وأماكن أخرى والإفلات من المحاسبة. وقال إليوت أبرامز Elliott Abrams، كبير مستشاري بوش لشؤون الشرق الأوسط في البيت الأبيض الذي شارك في المحادثات بشأن "الكبر": "أعتقد أن النهج الذي اعتمدناه تجاه كوريا الشمالية في نهاية ولاية بوش شكّل سابقة خطيرة جداً". وأضاف: "إننا ندفع الآن ثمن ذلك [النهج]".
* * *
وفي سوريا، سارعت كوريا الشمالية لمساعدة الرئيس الأسد على الانتصار في حرب أهلية وحشية اندلعت منذ عام 2011. وفي حين تشكل روسيا وإيران وميليشيا "حزب الله" في لبنان أكبر حلفاء الأسد في الصراع الوحشي، إلّا أن كوريا الشمالية انخرطت أيضاً في حرب الحاكم السوري المستبد، وفقاً لمسؤولين أمريكيين وعرب ومن الأمم المتحدة.
ويعدّ إنتاج الأسلحة الكيماوية التي استخدمها الأسد لقتل آلاف السوريين من الأدوار الأساسية التي لعبتها كوريا الشمالية في الحرب الأهلية. وفي تقرير سري صدر العام الماضي، وصف مفتشو الأمم المتحدة بالتفصيل كيف تقوم شركات تجارية من كوريا الشمالية بتهريب أطنان من المعدات الصناعية إلى سوريا لبناء منشأة أسلحة كيماوية جديدة بالتعاون مع "مركز الدراسات والبحوث العلمية" في سوريا. ويشرف هذا "المركز" على إنتاج الأسد للأسلحة الكيماوية. وتم تعقب هذه الشحنات من قبل العديد من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وتضمنت بلاط مقاوم للأحماض، وأنابيب فولاذية مقاومة للصدأ، وغيرها من المواد المرتبطة بإنتاج الأسلحة الكيماوية. وحددت الأمم المتحدة في تقريرها 40 شحنة أرسلتها كوريا الشمالية إلى "مركز الدراسات والبحوث العلمية" في سوريا بين عامي 2012 و2017 لم يكشف عنها سابقاً.
وأوضحت الأمم المتحدة بالتفصيل أيضاً نشر كوريا الشمالية لمهندسيها في القواعد العسكرية السورية المنخرطة في الحرب الأهلية. ووفقاً للأمم المتحدة، ساعدت هذه المجموعة من الموظفين دمشق في إدارة أسلحتها الكيميائية ومصانع صواريخها في قواعد في حماة وعدرا وبرزة. ونشط أيضاً جنود من وحدة النخبة في الجيش الإيراني، أي "الحرس الثوري الإسلامي"، و"حزب الله" في هذه المناطق واستهدفتهم عشرات الغارات الجوية الإسرائيلية خلال الحرب. وتشعر إسرائيل بالقلق من أن "الحرس الثوري الإيراني" و"حزب الله" يسعيان لإنشاء قواعد دائمة داخل سوريا لشن هجمات عابرة للحدود على الدولة اليهودية. ويزيد ذلك من احتمال أن تهاجم إسرائيل مجدداً أفراد من كوريا الشمالية داخل سوريا، كما فعلت في "الكبر" في عام 2007 وفقاً لبعض التقارير.
وأشادت سوريا بكوريا الشمالية لتحالفها العسكري ودعمها الدبلوماسي. ففي عام 2015، افتتح نظام الأسد حديقة كيم إيل سونغ في إحدى ضواحي دمشق، والتي تقع بمحاذاة شارع يبلغ طوله 1 كيلومتر أطلق عليه أيضاً اسم مؤسس كوريا الشمالية. ونُظّم الحفل لإحياء الذكرى السنوية لتأسيس "حزب العمال" الحاكم في كوريا الشمالية. ووفقاً لوسائل إعلام سورية رسمية، قال نائب وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، في الحفل: "كان كيم إيل سونغ حاكماً وزعيماً تاريخياً، اشتهر بنضاله لتحرير بلاده وبنائها. ويستحق لهذا السبب تكريمه في سوريا".
واستمرت مصر أيضاً في شراء الأسلحة من كوريا الشمالية في السنوات الأخيرة على الرغم من تحالف القاهرة العسكري مع الولايات المتحدة وعلاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل. وأدّت عمليات شراء الأسلحة هذه إلى إثارة التوترات بين إدارة ترامب والحكومة المصرية. وكانت الولايات المتحدة تحاول حرمان بيونغ يانغ من عائدات مبيعاتها العسكرية في مسعى غير موفق حتى الآن لإرغام كيم جونغ أون على التخلي عن ترسانته النووية. واقتطعت إدارة ترامب ما يقرب من 300 مليون دولار من المساعدات العسكرية لمصر في عام 2017 من أجل إرغام حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي على وقف هذه العمليات التجارية.
* * *
ووفقاً لمسؤولين أمريكيين وعرب، يعكس شراء مصر للأسلحة من كوريا الشمالية عمق العلاقة التي أقامتها القاهرة وبيونغ يانغ منذ الخمسينيات. ويُظهر ذلك أيضاً كيف حولّت بيونغ يانغ نفسها إلى مورّد رئيسي للأسلحة والذخائر والصواريخ المنخفضة الكلفة إلى بلدان نامية في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط. واتّقنت بيونغ يانغ استخدام الشركات الوهمية، وطرق التهريب، والسفن التي تحمل أعلاماً مزيفة لتجنب العقوبات الأمريكية وتلك المفروضة من قبل الأمم المتحدة.
وفي صيف عام 2016، أعربت الولايات المتحدة عن قلقها عندما غادرت سفينة تجارية تحمل علم كمبوديا، هي "جي شان"، ميناء هيجو في كوريا الشمالية إلى قناة السويس. وتضمنت السفينة طاقماً مكوناً من 23 شخصاً من كوريا الشمالية وحمولة مغطاة بقماش كثيف. واستقلت السلطات المصرية السفينة في النهاية قبل عبورها القناة وبعد إنذار من وكالات الاستخبارات الأمريكية التي كانت تشعر بالقلق إزاء طبيعة الشحنات. ووجد المصريون تحت القماش كمية من الفحم وتحتها 30000 قذيفة صاروخية من كوريا الشمالية. وخلص تقرير للأمم المتحدة إلى أن "جي شان" شكّلت أكبر عملية مصادرة للذخائر الكورية الشمالية منذ فرض العقوبات الدولية على بيونغ يانغ في الخمسينيات. وقُدّرت قيمة الأسلحة بمبلغ 23 مليون دولار.
* * *
ووفقاً لمسؤولين أمريكيين وإسرائيليين، لم تتعاون أي دولة في الشرق الأوسط تعاوناً وثيقاً جداً مع بيونغ يانغ لتطوير الصواريخ أكثر من إيران. ويعدّ البرنامج النووي في طهران الأكثر تقدماً في المنطقة إلى حد بعيد، إلى جانب البرنامج النووي الإسرائيلي، كما أنه الأكثر قدرة على الاستفادة من تقدّم كوريا الشمالية في مجال التكنولوجيا.
وتقوم الاستخبارات الأمريكية والكورية الجنوبية بتعقب تحركات المسؤولين العسكريين والعلماء الإيرانيين والكوريين الشماليين بين بلديهما في السنوات الأخيرة. وأشار أحد المسؤولين في كوريا الجنوبية إلى أنهم وثّقوا سفر مئات الكوريين الشماليين إلى طهران مستخدمين مجموعة من جوازات السفر الحقيقية والمزورة. وسافر الكثيرون إلى طهران على متن رحلات جوية انطلقت من مطار قطر الدولي.
في عام 2016 أعلنت إدارة أوباما أن وكالات الاستخبارات الأمريكية اكتشفت أن فنيين إيرانيين من قطاع الدفاع في طهران أقاموا معسكرات في كوريا الشمالية للمشاركة في تطوير وحدة دفع صاروخية للصواريخ الباليستية يبلغ وزنها 80 طناً. وضُبطت أيضاً "الشركة الكورية لتطوير التعدين" في بيونغ يانغ وهي تشحن مكوّنات أساسية للصواريخ الباليستية التي تعمل بالوقود السائل ومركبات إطلاق فضائية إلى إيران. وتضمنت تلك العناصر صمامات وإلكترونيات وأجهزة قياس.
وازداد قلق الغرب من التعاون العسكري بين إيران وكوريا الشمالية خلال "أسبوع الدفاع المقدس" السنوي لـ "الحرس الثوري"، في 22 أيلول/ سبتمبر 2017. وتضمن الحفل استعراضاً أحيى ذكرى الحرب الإيرانية -العراقية التي وقعت بين عامي 1980 و1988، والتي لقي فيها مئات آلاف الإيرانيين حتفهم أثناء صدهم قوات صدام حسين من بلادهم. وتضمنت الرايات المعلقة في الحفل شعاري "الموت لأمريكا" و"الموت لإسرائيل" اللذين كُتبا في ثلاث لغات.
وفي ذلك اليوم، وفي شارع رئيسي في طهران تم استعراض صاروخ باليستي إيراني جديد متوسط المدى يدعى "خرمشهر"، على اسم مدينة إيرانية وقعت فيها معركة حاسمة في الحرب بين إيران والعراق. ويقدَّر أن مدى الصاروخ يتراوح بين 2000 و3500 كلم، وفقاً لوزن شحنته المتفجرة. وتستطيع إيران بهذه المسافة استهداف إسرائيل والخليج العربي وعدداً من دول منظمة حلف شمال الأطلسي.
وسرعان ما لاحظ مسؤولو الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية الذين حللوا صور "خرمشهر" أوجه التشابه بينه وبين صاروخ كوري شمالي، يدعى "هواسونغ-10" أو "موسودان"، من ناحية الحجم والصنع وأبعاد الطيران. وطوّرت بيونغ يانغ "موسودان" من خلال إعادة هندسة تقنيات الصواريخ التي اكتسبتها من الاتحاد السوفيتي السابق في الستيعينيات. ويُعتقد أن كوريا الشمالية قد باعت لإيران التقنيات الصاوخية المستخدمة في "موسودان" في العقود الأخيرة. ولكن، وفقاً لمسؤولين أمريكيين وإسرائيليين، واجه كلا البلدين صعوبات في إتقان خصائصه الفيزيائية والهندسية.
وكتب عوزي روبين، خبير معروف في مجال الصواريخ في "مركز بيغن-السادات للدراسات الاستراتيجية" في تل أبيب، بأنه على الرغم من التقدم المتعثر في نشر صاروخ "موسودان"، "إلا أنه لا مجال للشك بأن صاروخ "خرمشهر" يشكل تهديداً محتملاً لأوروبا"،. وأضاف: "إذا طوّرت إيران سلاحاً نووياً وحين تقوم بذلك، لن يصعب عليها تركيب رأس حربي أخف وزناً في "خرمشهر" وبالتالي تهديد برلين وبروكسل وباريس وروما".
وتكمّل البرامج الصاروخية الكورية الشمالية والإيرانية بعضها البعض في عدد من المجالات المهمة، وفقاً لمحللي الاستخبارات الإسرائيليين الذين يقومون بمتابعتها. وتتقن بيونغ يانغ الإلكترونيات المستخدمة في أنظمة الملاحة في الصواريخ بشكل أفضل، بينما تبدو طهران أكثر معرفةً بالمواد الدافعة من الوقود الصلب المستخدم لإشعالها.
وفي الأشهر الأخيرة، افترض محللون إسرائيليون أن كوريا الشمالية وإيران تُرتبان اختباراتهما بالتسلسل. ويشيرون على سبيل المثال إلى أن كوريا الشمالية اختبرت في 4 تموز/ يوليو 2017 صاروخاً باليستياً عابراً للقارات، يدعى "هواسونغ - 10". ثم قام الإيرانيون باختبار مركبة إطلاق فضائية، تدعى "سيمورغ"، وذلك بعد بضعة أسابيع فقط في 27 تموز/ يوليو. وتتشارك الصواريخ عدداً من الخصائص المهمة. وقال محلل استخبارات إسرائيلي في القدس: "هل هذا من قبيل الصدفة؟ ربما. ولكن يبدو أنهم يتعلمون من بعضهم البعض". وأضاف: "يبدو أنه التزاماً متبادلاً".
وحتى يومنا هذا، يفيد مسؤولون إسرائيليون وأمريكيون وكذلك من "الوكالة الدولية للطاقة الذرية" بأنهم لم يجدوا أدلة قاطعة على أن كوريا الشمالية وإيران تتشاركان مباشرة التقنيات أو المواد النووية، بطرق شبيهة بكيفية نقل بيونغ يانغ لهذه المواد إلى سوريا وليبيا. ولكن يجري التدقيق بشدة في عمليات التبادل المنتظمة بين مسؤولي الدفاع والعلماء الإيرانيين والكوريين الشماليين.
وفي خريف عام 2012، وقّعت كوريا الشمالية وإيران اتفاقية تعاون علمي رسمية عندما قام الزعيم السياسي الثاني في بيونغ يانغ، كيم يونغ نام، بزيارة طهران. ولا يحدد الاتفاق تعاوناً نووياً، ولكن صيغته تشبه إلى حد بعيد الاتفاق الذي وقعته بيونغ يانغ مع سوريا في عام 2002، قبل أشهر فقط من بدء بناء مفاعل "الكبر". وحضر رئيس "منظمة الطاقة الذرية الإيرانية" آنذاك، فريدون عباسي دافاني، التوقيع على الاتفاقية التي دعت إلى إنشاء مختبرات مشتركة وتبادل العلماء بين كوريا الشمالية وإيران ونقل التقنيات في مجالي الطاقة وتقنية المعلومات.
ووفقاً لوكالة أنباء "فارس" الرسمية، قال المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي لكيم يونغ نام خلال زيارته: "لدى جمهورية إيران الإسلامية وكوريا الشمالية أعداء مشتركون لأن القوى المتكبرة لا تستطيع تحمل حكومتين مستقلتين".
ويقول مسؤولو استخبارت أمريكيون وإسرائيليون أنهم رأوا أدلة على أن ضباط عسكريين وفنيين إيرانيين حضروا بعضاً من التجارب النووية الستة التي أجرتها بيونغ يانغ منذ عام 2006. ويفيدون بأنهم رأوهم أيضاً يَحضرون استعراضات عسكرية وتجارب صاروخية تجريها كوريا الشمالية. وتم التركيز بشكل خاص على اختبار أجرته كوريا الشمالية في عام 2013 والذي يعتقد بأنه تضمن قنبلة يورانيوم. وقالت جماعات معارضة إيرانية إن المؤسس المفترض لبرنامج الأسلحة النووية في إيران، جنرال في "الحرس الثوري" يدعى محسن فخري زاده، كان حاضراً. ويقول مسؤولو استخبارت أمريكيون وإسرائيليون أنهم لم يستبعدوا هذا الاحتمال.
وخلُص محلل استخبارات إسرائيلي إلى القول: "هل يتعاونان في المجال النووي؟ هذا موضوع غير محسوم".
جاي سولومون هو زميل مساعد في معهد واشنطن وكبير المراسلين السابقين للشؤون الخارجية في "وول ستريت جورنال". وتم نشر هذا المقال في الأصل في مجلة "تابليت".
"تابليت"