- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
"حركة طالبان" لا تزال كما هي، لكن المجتمع تغيّر
Also published in "ذي إنسايدر"
من الواضح أن سنوات الانخراط الأمريكي في أفغانستان ساهمت في تعزيز كرامة النساء الأفغانيات وفتحت أمامهن آفاقاً جديدة، لكن التخلّي عنهن تماماً الآن يهدد بإبطال قسم كبير من هذا التقدّم.
في وقت سابق من هذا الشهر، أعلنت "حركة طالبان" عن قواعد جديدة تقيّد بشكل أكبر حقوق المرأة في أفغانستان. فلم يعد باستطاعتهن الظهور في الدراما التلفزيونية إلى جانب قيود أخرى تتعلق بالعمل في التلفزيون. كذلك، تحظر القواعد الجديدة على الفتيات والنساء الالتحاق بالمدارس الثانوية. وفي هذا الإطار، صرّحت إحدى طالبات الطب السابقات لـ"بي بي سي" بـ"أننا لم نعد نعيش الحياة ونستمتع بها بل أصبحنا نحاول البقاء على قيدها والتنفس من دون أي هدف".
ومنذ لحظة استيلاء "طالبان" على أفغانستان في آب/أغسطس، كان من الواضح أن الحركة لا تزال تتصرف بالوحشية والعنف اللذين عُرفت بهما تجاه النساء في تسعينيات القرن الماضي، عندما تحمّلت النساء بشكل غير متكافئ وزر الهجوم على أفغانستان. وبالفعل، كانت أولى قرارات الحركة الرسمية، هذه المرة أيضاً، استبدال وزارة شؤون المرأة بوزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تشتهر بتسلّطها.
لكن في حين لا تزال "حركة طالبان" على ما هي عليه، إلا أن شيئاً آخر قد تغيّر وهو المجتمع الأفغاني. فخلال العقدين الماضيين من الوجود الأمريكي في أفغانستان، حدث تغيير داخلي حقيقي تجاه الإقرار بحقوق المرأة بشكل أكبر. فما الذي يعنيه ذلك بالنسبة للنساء الأفغانيات الآن، والمجتمع الأفغاني بشكل عام، في وقت ترزح فيه البلاد تحت سيطرة "طالبان"؟ وما التبعات التي ستترتب على ذلك في المستقبل؟
للإجابة على هذين السؤالين، من الضروري أولاً فهم التغيير الذي حصل خلال السنوات العشرين الماضية، سواء من حيث أوجه التقدم أو أوجه القصور. ومن الإحصائيات التي يُستشهد بها كثيراً عن أفغانستان أنه قبل سيطرة "حركة طالبان" على البلاد في آب/أغسطس، تخطت نسبة المقاعد التي تشغلها نساء في البرلمان تلك المسجلة في الكونغرس الأمريكي. وحتماً، ثمة العديد من نقاط البيانات الأخرى. فقد كرّس دستور أفغانستان لعام 2004 المساواة في الحقوق بين الرجال والنساء، كما أن القانون الأفغاني في كانون الأول/ديسمبر 2009 جرّم العنف ضد المرأة للمرة الأولى في تاريخ البلاد. وخلال العقدين الماضيين، شغلت ملايين الأفغانيات وظائف في قطاعات الأمن والعدل وغيرها من المجتمع الأفغاني، وذهبت الفتيات إلى المدارس وبدأن المشاركة في الألعاب الرياضية وتمكّن من الحصول على رعاية صحية حيوية أكبر. كما أن معدل الوفيات بين الأطفال سجل تراجعاً ملحوظاً. ولا بدّ من الإشارة إلى أنه عند الإطاحة بـ "حركة طالبان" عام 2001 لم يكن هناك أي فتاة ترتاد المدرسة، وبعد عقدين من الزمن، فاق عدد الفتيات في المدارس 5.3 ملايين. وخلص تقرير نشرته مؤخراً منظمة "اليونسكو" إلى أنه رغم الشوائب الواضحة في مسار التعليم، "يمكننا أن نقول نسبياً إن وتيرة التقدم [في أفغانستان] كانت أسرع من معظم البلدان الأخرى في المنطقة الفرعية لجنوب آسيا".
ولكن بغض النظر عن أهمية الأرقام، إلا أنها لا تنقل الواقع بكامله - وحتى أنها قد تجعله ضبابياً. وقد تبدو القوانين سليمة على الورق، لكن تنفيذها يكون صعباً إن لم نقل مستحيلاً. فعندما يتعلق الأمر بالتغيير المجتمعي الحقيقي، لا تكون الأرقام دائماً المؤشر الوحيد. على سبيل المثال، عندما كتب أندري ساخاروف عن معاناة المعارضين السوفييت قال: "إنها ليست مسألة حسابات بل عامل غير ملموس: اختراق الحاجز النفسي للصمت". وتنطبق نقطته الأوسع ذات الصلة بالحوار حول حقوق المرأة في أفغانستان على التغيير الثقافي.
وتُظهر العوامل غير القابلة للقياس، إلى جانب الأرقام، أن التغيير في أفغانستان كان حقيقياً. فبعد الإطاحة بـ"حركة طالبان"، كانت مشاركة النساء فعلية في إعادة بناء البلاد، ولم يكنّ مجرد وكيلات لإعداد إحصاءات إيجابية. فعلى سبيل المثال، أصبحت الدكتورة سيما سمر، الناشطة المعروفة في قضايا حقوق الإنسان، نائبة رئيس الإدارة المؤقتة ووزيرة لشؤون المرأة. وفي هذا الإطار، قال بهار جلالي، مؤرخ وضع أول برنامج لدراسات النوع الاجتماعي في الجامعة الأمريكية في أفغانستان، لصحيفة "واشنطن بوست" إنه بالرغم من وجود العديد من الصعوبات التي تعيق النهوض بحقوق المرأة، إلا أنه خلال العقد الأول بعد الإطاحة بالحركة "شهدنا حقاً على بروز نساء كفوءات. فئة من النساء اللواتي... كن يُجدن التوجه إلى المجتمع الدولي ويعرفن احتياجات أفغانستان".
عملتُ في أفغانستان كمحللة مع مقاول عسكري أمريكي في الفترة 2010 -2011، وأجريتُ محادثات مع الأفغان في السنوات اللاحقة. وخلال الوقت الذي أمضيته في البلاد، كانت إحدى أبرز التجارب التي طُبعت في ذاكرتي هي زيارة قمت بها إلى مدرسة للفتيات في كابل بنتها بالكامل "قوات المساعدة الدولية لارساء الأمن في أفغانستان" ("إيساف") بعد أن كانت "طالبان" قد سوتها بالأرض. وفي ذلك الوقت، قالت لي مديرة المدرسة إن الفتيات كن متحمسات للتعلّم واستمتعن بالعودة إلى المدرسة. ورغم أنه كان قد تمّ حشرهن في مقطورات صغيرة، إلا أن الابتسامة لم تفارق وجوههن التائقة إلى التعلم رغم الحر الشديد والاكتظاظ وأسراب الذباب التي تحوم حول المراحيض العامة. وحتماً لا يمكن للإحصاءات أن تنقل السعادة التي رأيتها على وجوه الفتيات.
وأثناء وجودي في أفغانستان، التقيت أيضاً عدداً من الشابات اللواتي شاركن في القوى العاملة وارتدن المدارس. وفي ذلك الوقت، لم يكن الالتحاق بالمدارس يزداد فحسب، بل الطلب على التعليم أيضاً. كما التقيت برجال أفغان أرادوا رؤية حقوق المرأة مصانة وكانوا يفتخرون بنجاحات زوجاتهم وشقيقاتهم. وعندما أنظر إلى التقارير الخاصة بالقيود التي فرضتها "حركة طالبان" على حقوق المرأة الآن، تعود إلى ذهني تلك التجارب، وأتذكر جيلاً جديداً عمل على توفير مستقبل أفضل، وهذا ما يجعل التقارير الحالية عن أفغانستان أكثر إيلاماً.
سيكون من قبيل التبسيط القول إن الطريق كان طويلاً أمام أفغانستان على صعيد حقوق المرأة. فرغم التحسينات، استمرّ التحرش بالنساء وسوء معاملتهن بما في ذلك العنف من دون عقاب. وكانت الإصلاحات بطيئة بشكل خاص في المناطق الريفية من البلاد؛ وبالفعل، كانت الهوة بين الأوضاع في المدن والأرياف عميقة. بالإضافة إلى ذلك، أدى الفساد العام في البلاد إلى تفاقم المشكلة.
ويمكن أن يقال الكثير عن الأسباب الكامنة وراء استمرار استفحال هذه المشاكل في أفغانستان، لكن خلال الفترة التي أمضيتها في البلاد، كانت النساء اللواتي التقيت بهن قلقات من النقاش الذي كان جارياً آنذاك حول إبرام اتفاق سلام مع "حركة طالبان"، وهو اتفاق كن يخشين أن يهدد حقوقهن. وهنا ربما تكمن المشكلة الأساسية. فبعد ما يقرب من مرور العقد الأول من التحسينات السريعة التي طرأت على أوضاع النساء، برزت "حركة طالبان" مجدداً كقوة متمردة عنيفة. وأدى انعدام الأمن الناتج ومحاولات بذل جهود السلام إلى تعقيد التقدّم. وكما أوضحت مريم صافي، المديرة التنفيذية لـ"منظمة الأبحاث السياسية ودراسات التنمية"، فإن "عملية تحقيق الديمقراطية وإعادة الإعمار - التي كان تمكين النساء من خلالها موضوعاً أساسياً وشاملاً - قد تم تقويضها باستمرار من خلال عاملين أساسيين: تمرد "حركة طالبان"، والأساليب المتبعة لمحاربته". ويُعد استبعاد النساء من المشاركة في عملية السلام بطريقة هادفة إحدى المشكلات الرئيسية التي حددتها صافي.
ومع ذلك، على الرغم من هذه الانتكاسات، ومن خلال النظر إلى المجال الكبير الذي كان متاحاً خلال العقدين الماضيين، يتضح أن الوضع في أفغانستان كان أفضل بالمقارنة مع الفترة التي بسطت خلالها "حركة طالبان" سيطرتها، وتتجلى المكاسب بأفضل حللها على صعيد حقوق المرأة. فالأفغان أنفسهم يتحدثون عن هذا الموضوع باستمرار. وقد خلصت دراسة حالة أجريت مؤخراً حول الأنشطة الاقتصادية التي تزاولها سيدات أعمال أفغانيات إلى أن بعض شرائح المجتمع الأفغاني أكثر انفتاحاً على التعامل مع سيدات أعمال. وفي هذا الخصوص، أشارت المؤلفة بتول هاشمي، مؤسسة "منظمة إعادة التأهيل والتنمية الأمثل" ومديرتها التنفيذية إلى أن "الأُسر تصبح تدريجياً أكثر دعماً؛ فهي توجد الفرص لأفرادها من النساء، وقد بدأ الناس يثقون بمشاركة المرأة الفعالة في الأنشطة الاقتصادية بالمقارنة مع الفترة الممتدة بين عاميْ 2010 و 2015".
وربما تنعكس التغييرات التي شهدها المجتمع الأفغاني بشكل خاص في واقع أن العديد من الأفغان يرفضون الإذغان لقيود "طالبان". ومنذ استلام الحركة لزمام الأمور، خرجت احتجاجات نسائية ضدها في جميع أنحاء أفغانستان. وقد كُتب على إحدى اللافتات التي حملتها ناشطات خلال إحدى هذه الاحتجاجات عبارة: "لماذا يتفرج علينا العالم نموت بصمت"؟ وفي تظاهرة أخرى، وقفت إحدى النساء بكل جرأة أمام أحد عناصر الحركة المسلحين بينما كان يصوّب مسدساً نحو صدرها. وفي فيديو منفصل تمّ تداوله على نطاق واسع، تهجمت فتاة أفغانية على عناصر من "طالبان" متساءلةً من هم لكي ينتزعوا حقوق المرأة، وتابعت: "أنا من جيل جديد، أريد الذهاب إلى المدرسة".
علاوة على ذلك، يبدو أن الضغط المحلي كان له بعض التأثير. ففي مدينة هراة، أعادت مدارس التعليم المتوسط والثانوي (من الصف السابع إلى الثاني عشر) فتح أبوابها بعد أن منعت "حركة طالبان" الفتيات في ذلك السن من الذهاب إلى المدرسة. وقال أحد السكان المحليين إنه كان مسروراً لعودة ابنتيه إلى المدرسة بقدر سعادتهما الغامرة، موضحاً "لقد عانيت أكثر من بناتي بعشرة أضعاف عندما لم تتمكنا من الذهاب إلى المدرسة". بدوره، ذكر مقيم آخر "أتمنى أن تتمكن جميع الفتيات من التعلّم وإتمام تحصيلهن العلمي لخدمة هذا البلد بالتعاون مع الرجال". ولا يزال الطلب على التعليم في مسار تصاعدي، في حين أن العديد من النساء يعتبرن أنفسهن الآن جزءاً من جيل "جديد" يتمتع بالحق في رسم مصيره.
ولطالما أشار المعلقون والمسؤولون الحكوميون في الغرب إلى ما يصفونه بالفشل الأمريكي في أفغانستان، ولكن من الصعب إنكار أن عملية "الحرية الدائمة" بقيادة الولايات المتحدة والتدخل الأمريكي اللاحق ساهما على الأقل جزئياً في تحقيق هدف الارتقاء بكرامة النساء الأفغانيات. علاوةً على ذلك، يأتي هذا النجاح في أعقاب فشل سابق للمساعي التنازلية للنهوض بحقوق المرأة في أفغانستان، أولاً من قبل الملك أمان الله خان وبعد سنوات من قبل الاتحاد السوفيتي. وفي حين قد يكون من السهل الاستناد إلى الوصف المبتذل لأفغانستان على أنها "مقبرة الإمبراطوريات" التي تقاوم جميع الدخلاء، إلّا أن الأفغان يستنكرون اليوم تخلي أمريكا عنهم وليس عدم وجودها. وفي هذا السياق، قالت إحدى المتظاهرات في كابول "لقد تعرّفت في بادئ الأمر على حقوق المرأة من القرآن، ولكن عندما كان الأمريكيون هنا، تعلمت أكثر عن حقوقنا في المجتمع وعن الاحتجاجات وقوة رفع أصواتنا".
وحقيقة الأمر هي أن الولايات المتحدة جاءت إلى أفغانستان واعدةً بعالم أفضل، وقد تردد صدى هذا الوعد في أوساط العامة. ففي النهاية، قاوم الأفغان "طالبان" في تسعينيات القرن الماضي؛ وبالنسبة للكثيرين كانت الحركة بمثابة قوة احتلال وحشية وأجنبية ظهرت على ما يبدو من العدم (في الواقع كان دعم "وكالة الاستخبارات الباكستانية" هو الذي مكّن هذه الحركة). فضلاً عن ذلك، وفي ذلك الحين، لم تنجح "طالبان" قط في الاستيلاء على وادي بنجشير، معقل التحالف الشمالي.
لكن في ذلك الوقت، لم تكن أفغانستان مرتبطة بالعالم الغربي كما كانت عليه الحال خلال السنوات العشرين الماضية، وهذه المرة، تمّ إحراز المزيد من التقدم على صعيد حقوق المرأة. والآن، وبعد فتح هذا الباب، تبرأت الولايات المتحدة بشكل مخجل من مسؤوليتها. ومن المفارقات أنه في تسعينيات القرن الماضي، صمد وادي بنجشير جزئياً بفضل الدعم الخارجي، وبشكل رئيسي من آسيا الوسطى والهند. وربما تتوجه أنظار العالم إلى أفغانستان، لكن من غير الواضح ما هو نوع الدعم الذي ستتلقاه أفغانستان اليوم من الغرب على الرغم من مناشدات المساعدة. وفي موازاة ذلك، حرصت "حركة طالبان" هذه المرة على السيطرة على وادي بنجشير على وجه التحديد، وعلى الأرجح لمنع بروز التحالف الشمالي كقوة معارضة منظمة وقوية كما كانت في تسعينيات القرن الماضي.
وإذا كان هناك بصيص أمل، فهو أن يواصل المجتمع الأفغاني تصديه لطالبان. فبعد أن اختبر الأفغان درجة من الحرية في السنوات العشرين الماضية، لا يريدون التخلي عنها. ومن السابق لأوانه معرفة النتيجة، ولكن من الممكن أن تأتي جهود "طالبان" لتنفيذ إجراءات قاسية كما في الماضي بنتائج عكسية على الحركة ويُعزى ذلك بشكل خاص إلى أن المجتمع الأفغاني يشعر بالقدرة على التصدي لتطرف "طالبان". ومع ذلك، تواجه أفغانستان، ونساؤها على وجه التحديد، مستقبلاً خطيراً وعنيفاً على أقلّ تقدير.
وقد تغرق أفغانستان مجدداً في مستنقع حرب أهلية وتتحول إلى ملاذ للإرهابيين، الأمر الذي سيؤثر بشكل مباشر على الغرب ومصالحه - على سبيل المثال، على شكل هجمات إرهابية، إن لم يكن محلياً ففي الشرق الأوسط أو القرن الأفريقي. ولكن وللمفارقة، في الوقت الذي اختارت فيه الولايات المتحدة التراجع، يشعر الأفغان بأنهم مدينون لأنفسهم بمحاولة الفوز.
آنا بورشفسكايا هي زميلة أقدم في معهد واشنطن ومؤلفة الكتاب الجديد "حرب بوتين في سوريا: سياسة روسيا الخارجية وثمن غياب أمريكا". وقد نُشر هذا المقال أساساً على موقع "ذي إنسايدر" الإلكتروني.