- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
"جامعة كولومبيا" التي دَرَستُ فيها، لا أعرفها اليوم
Also published in "ذي هيل"
على المسؤولين في الجامعات الأمريكية بذل المزيد من الجهود لمساعدة الطلاب على إجراء تقييم حاسم لوابل المعلومات المضللة الذي يتعرضون له خارج الفصل الدراسي - مع معاقبة أولئك الذين ينتهكون بوضوح سياسات المؤسسة الجامعية وقيمها الأساسية.
من يرى "جامعة كولومبيا" في هذه الأيام، لا يعرفها. ففي الصباح الباكر من يوم 30 نيسان/أبريل استولى متظاهرون مناهضون لحرب غزة على قاعة "هاملتون"، وهو مبنى دراسي بارز يقع في قلب الحرم الجامعي. وحدث ذلك بعد إقامة مخيم دام مدة أشهر، وقيام مشاغبين متطرفين بترديد شعارات جاهلة معادية للسامية خارج بوابات الجامعة استهدفت الطلاب اليهود. وقد تم تبديد أي اهتمام حقيقي بسكان غزة عندما تحدث أحد الطلاب خارج المبنى المحصن مطالباً "بمساعدات إنسانية أساسية" ليس لغزة بل للطلاب الذين استولوا بشكل عنيف وطوعي على قاعة "هاملتون". وبعد فترة وجيزة، وفي أعقاب مفاوضات فاشلة مع الطلاب، اتصَلَتْ رئيسة "جامعة كولومبيا" بـ "قسم الشرطة في نيويورك" لإخلاء الخيام من المتظاهرين واعتقال أولئك الذين استولوا على المبنى.
كان أحد الأسباب التي جذبتني إلى "جامعة كولومبيا" هو منهجها الدراسي "الأساسي"، الذي تم وضعه بعد الحرب العالمية الأولى كترياق للدمار الشامل الذي حلّ بالبشرية في أوروبا. وقام على فكرة أن الطلاب قد يستعيدون ثقتهم بالقيم الإنسانية إذا انخرطوا في شرائع الأدب والفلسفة التقليدية. وفي الواقع، إذا كان المتظاهرون قد نظروا من فوق خيامهم إلى المكتبة أعلاه، كانوا سيرون أفلاطون وأرسطو وآخرين منحوتين في الحجر.
لقد تعلمتُ ما المقصد من مصطلح "أساسي" من أستاذي الأول الذي كان معلماً بارعاً يحب النصوص والطلاب الذين يدرسهم. وأوضح لنا منذ اليوم الأول أنه سيجعل منا طلاباً جامعيين يتمتعون بمهارات التفكير النقدي. فشققنا طريقنا عبر الأساطير اليونانية وقام بإحياء الإلياذة قبل أن يؤدي براد بيت دور أخيل، وبعد ذلك شكسبير ودوستويفسكي.
كان والاس غراي أيضاً مؤرخاً في "جامعة كولومبيا" حيث بدأ عمله في الكلية في عام 1953. وقد أمْتَعنا بقصص من احتجاجات عام 1968 التي أغلقت الحرم الجامعي، بينما واصل التدريس في الحديقة خارج المباني المحصنة، ومن بينها قاعة "هاملتون" الشهيرة. وقد صوّر لنا أجواء هادفة وعادلة في الحرم الجامعي خلال عصر مناهضة الحرب والدفاع عن الحقوق المدنية. كان الطلاب يحتجون على قضية ما، وهي حقوق جميع الأمريكيين، بمن فيهم أولئك الذين أُجبروا على الخدمة (العسكرية في الجيش الأمريكي) في ما اعتُبر حرباً غير عادلة كان معاصروهم يقاتلون ويموتون فيها. ومن المفارقات أن احتجاجات اليوم تحتوي على عنصر قوي من العنصرية ومعاداة السامية، في حين ركزت احتجاجات عام 1968 على المساواة.
كما شهد صفّي الدراسي صراعاً مردّه الشرق الأوسط. فخلال فصل الخريف من سنتني الأولى في الجامعة، اصطدمت طائرتان بالبرجين التوأمين، مما شكل صدمة لجيل لم يكن يعرف سوى القليل عن الصراع الدولي الذي شهدته تسعينات القرن المنصرم. ما زلت أتذكر الرائحة اللاذعة التي فاحت مع هبوب الرياح شمالاً. ربما كنتُ جاهلاً في ذلك الوقت، إلا أن الحرم الجامعي لم يجسد مكاناً لكراهية الإسلام كما حصل في أجزاء أخرى من نيويورك حيث هوجمت المساجد، وتعرض المسلمون للمضايقة.
لم يكن متظاهرو اليوم قد وُلدوا عندما أودت أحداث 11 أيلول/سبتمبر بحياة أكثر من 3000 شخص من سكان نيويورك الأبرياء على الطرف الآخر من مانهاتن، غير أنهم يطالبون بأن تسحب الجامعة استثماراتها من إسرائيل، وهو إجراء لن يؤثر بأي شكل في الحرب أو القضية الفلسطينية التي يزعمون أنهم يناصروها.
لقد شكّلت أحداث 11 أيلول/سبتمبر لحظة فريدة أثرت في حياة جيل كامل على الأقل. فقد حفزت الكثيرين على العمل في الخدمة العامة والبحث في قضايا الشرق الأوسط وأصول الإرهاب والتساؤل عن السبب الذي جعل "البالغين" يفسدون الأمور بشكل سيء للغاية. ونشأت فرص مهنية مع استجابة الحكومة للأمر فتابعتُ تلك المسيرة المهنية داخل الحكومة وخارجها، ومن بينها مجموعة القضايا الصعبة المتعلقة بإسرائيل وفلسطين، مؤيداً بشدة حلّ الدولتين، وعملتُ مع زملائي الذين جعلوا من هذا الحل مهمة حياتهم. لم يصرخ جميع المتظاهرين في وجه الطلاب اليهود "عودوا إلى بولندا"، لكن مجموعة كبيرة إلى حد مثير للقلق شبكوا أذرعهم لطرد "الصهاينة" (الطلاب اليهود) من المخيم، وهو مثال على السلوك الشائن.
والآن تثير احتجاجات "كولومبيا" سلسلة من التفاعلات حيث شهدت بعض الجامعات ردود فعل قاسية من الشرطة. وهذا يصرف الانتباه عن القضايا المتنازع عليها. فالأفكار مهمة، والمناقشات مهمة، والتفكير النقدي مهم، وليس المسيرات الفوضوية وخطاب الكراهية. ولذلك على الجامعة وإدارة شرطة مدينة نيويورك إجراء تحقيق لتحديد المحرضين على خطاب الكراهية والمضايقة، وخاصة أولئك الذين أخفوا وجوههم واحتشدوا خارج بوابات الجامعة.
وفي ما يخص الطلاب بحد ذاتهم، آمل أن تتمكن "جامعة كولومبيا" من استعادة حس التعلم والفضول والخطاب المدني الذي أحببته في الكلية. إلا أن الانتقال إلى إعطاء كافة الدروس عبر الإنترنت هو على النقيض تماماً من تيسير الحوار الصفي الذي كرّسه والاس غراي.
كما وتحتاج "كولومبيا" إلى التزام حقيقي يقضي بإعادة إشراك جيل جديد يستخدم وسائل التواصل الاجتماعي ويتعرض بالتالي لوابل من الصور الصادمة من حرب غزة من ناحية، أو جرائم القتل الوحشية والاغتصاب واحتجاز الرهائن التي أشعلت الحرب وكلاهما مسألتان خطيرتان للغاية. وعليه، أصبح فصل الحقيقة عن المعلومات المضللة والأكاذيب أمراً صعباً بشكل متزايد. وكخطوة على هذا الطريق، يمكن لـ "كولومبيا" أن تبدأ دورة أساسية حول القيم ووسائل التواصل الاجتماعي. وفي غضون ذلك، يجب معاقبة أي طالب يثبت انتهاكه لسياسات الجامعة. ومع أن تعافي "جامعة كولومبيا" من هذه الصدمة قد يستغرق بعض الوقت، إلّا أنها قادرة على فرض نفسها مجدداً كإحدى المؤسسات العالمية للتعليم العالي.
بين فيشمان هو زميل أقدم في برنامج الزمالة "ستيفن د. ليفي" في "برنامج «روبين فاميلي» حول السياسة العربية" في معهد واشنطن حيث يركز على شمال أفريقيا. وتم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع "ذي هيل".