
- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4029
كبح تمدد النفوذ الصيني على الحكومة السورية الجديدة

في خضم المخاوف من تشدد الأويغور والآمال بتوسيع العلاقات التجارية مع سوريا، تتكيف بكين بسرعة مع الواقع الجديد في دمشق.
لم يفُض انهيار نظام بشار الأسد إلى قلب الأوضاع رأساً على عقب في سوريا وجيرانها فحسب، بل أعاد خلط أوراق عدد من القوى الخارجية التي تتنافس على النفوذ المحلي. وتشمل هذه القوى الصين، التي أقامت علاقة متينة مع النظام، ووفرت الغطاء الدبلوماسي له، وقدمت نفسها كمدافع عن السيادة الوطنية السورية في مواجهة التدخل الأجنبي. في المقابل، حصلت بكين على معلومات بالغة الأهمية حول المواطنين الصينيين الذين شاركوا في الانتفاضة المسلحة ضد الأسد منذ عام 2011، حيث كان العديد منهم ينتمي إلى أقلية الأويغور المسلمة، التي تعرضت لقمع شديد في موطنها.
لكن هذه العلاقة ذات المنفعة المتبادلة بين البلدين شهدت تحولاً جذرياً في كانون الأول/ ديسمبر، وتحاول بكين الآن إعادة تقييمها، كما هو حال باقي الأطراف. فبعد أسبوع من سقوط الأسد، أعرب وزير الخارجية الصيني وانغ يي عن "قلقه البالغ "إزاء الوضع، ودعا إلى بذل جهود عاجلة لمنع "القوى الإرهابية والمتطرفة من استغلال الفوضى". غير أنه بعد شهرين فقط، أوفد وانغ السفير الصيني شي هونغوي للقاء الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع. وفي الواقع، أبدى المسؤولون الصينيون مرونة لافتة في ظل هذا الوضع المتقلب، ما يعكس الأهمية الإقليمية لسوريا بالنسبة لبكين، والحاجة إلى متابعة أمريكية دقيقة لأي تدخل صيني محتمل قد يؤثر على المصالح الأمريكية في بلاد الشام.
تطور النهج الصيني تجاه سوريا
على مدى السنوات التي سبقت سقوط الأسد، أبدت بكين دعمها القوي لسوريا بطرق متعددة. فمن بين الأربعة عشر فيتو التي استخدمتها الصين في مجلس الأمن الدولي منذ عام 2011، كانت ثمانية منها بالشراكة مع روسيا لصالح الأسد. كما شمل الغطاء الدبلوماسي الروتيني الذي قدمته بكين استضافة الأسد وعائلته منذ عام 2023، حين وقع الرئيسان اتفاقية تعهدا فيها بـ"حماية الإنصاف والعدالة الدولية بشكل مشترك".
وقد شكل هذا النهج نوعاً من تصويب المسار في السياسة الصينية تجاه الشرق الأوسط. فعندما اندلعت موجة الربيع العربي لأول مرة في مختلف أنحاء المنطقة عام 2010، كانت بكين مترددة في اتخاذ أي موقف قد يُفهم على أنه دعم للاحتجاجات الشعبية. وبدلاً من ذلك، روجت علناً لمبادئ سياستها الخارجية التقليدية القائمة على "عدم التدخل" و"احترام السيادة"- وهو موقف كان مدفوعاً إلى حد كبير بمخاوفها من اندلاع انتفاضات مدعومة من الخارج داخل أراضيها.
لكن التطورات في ليبيا سرعان ما وضعت هذا النهج على المحك. ففي أذار/مارس 2011، اتخذت بكين قراراً غير معهود بالامتناع عن التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي رقم ( 1973)، الذي مهد الطريق لتدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) ضد نظام معمر القذافي. وفي خضم الفوضى التي أعقبت ذلك، تكبدت الشركات الصينية خسائر بملايين الدولارات، واضطر المسؤولون إلى إجلاء نحو 30 ألف مدني صيني، الأمر الذي دفع بعض المعلقين داخل البلاد إلى انتقاد التباين الواضح في سياسة الحكومة الصينية تجاه المنطقة. وعندما طرح مجلس الأمن بعد ستة أشهر، مشروع قرار يدعو النظام السوري إلى وقف الهجمات ضد المدنيين، استخدمت بكين حق النقض (الفيتو).
أما المصلحة الأخرى البارزة للصين في دعم الأسد، فكانت مرتبطة أكثر بالشأن الداخلي. ففي السنوات التي سبقت اندلاع الحرب الأهلية في سوريا، خلفت الاحتجاجات المناهضة للحكومة والاشتباكات العرقية في مقاطعة شينجيانغ الصينية مئات القتلى. وفي أعقاب حملة القمع التي تلت ذلك، فر الآلاف من مسلمي الأويغور - الذين يشكلون أغلبية سكان شينجيانغ - إلى أفغانستان وباكستان وتركيا ودول أخرى، حيث انضم العديد منهم إلى جماعات مسلحة ذات طابع قومي مثل "الحزب الإسلامي التركستاني" و"تنظيم الدولة الإسلامية". وعندما شاركت عناصر من هذه الجماعات لاحقاً في التمرد ضد الأسد، تبعهم مقاتلون أويغور أجانب. وتشير التقديرات إلى أن عددهم بلغ الآلاف في سوريا خلال سنوات قليلة من اندلاع الحرب.
وفي عام 2015، حذرت بكين من أن هؤلاء المقاتلين يتم "تجنيدهم للخروج من الصين بشكل غير قانوني والخضوع لـ"تدريبات إرهابية" في دول مثل سوريا والعراق. وبحلول عام 2016، كان المسؤولون الصينيون والسوريون يعقدون اجتماعات شهرية لتبادل المعلومات الاستخباراتية بهدف تعقب هؤلاء المقاتلين. ومن وجهة نظر بكين، كان المجندون الأويغور "يتحينون الوقت" للعودة إلى بلادهم وتشكيل تهديد محلي، بل إن العديد من المقاتلين أعربوا عن رغبتهم في استخدام خبرتهم القتالية المكتسبة حديثاً ضد الحكومة الصينية.
مصالح بكين في دمشق الجديدة
في البداية، أدى سقوط الأسد إلى زيادة مخاوف بكين، ليس فقط لأن المعارضة أطاحت بالنظام أخيراً، بل لأنها فعلت ذلك بمشاركة مقاتلين أويغور في صفوفها.
ويشغل بعض هؤلاء المقاتلين الآن مناصب في الحكومة الجديدة، بما في ذلك بعض قادة "الحزب الإسلامي التركستاني" الذين تمت ترقيتهم ليصبحوا ضباطاً في وزارة الدفاع الجديدة. ويُشاع أيضاً أن الأويغور يشكلون جزءاً رئيسياً من الحرس الخاص للرئيس الشرع، إلى جانب المقاتلين الأجانب من آسيا الوسطى والقوقاز.
ولمعالجة هذه المخاوف، اتخذت الصين نهجاً مزدوجاً تجاه الحكومة الجديدة. فمن ناحية، أدانت ظهور المقاتلين الأويغور. وفي كانون الأول/ ديسمبر، تعهد المسؤولون الصينيون "بتكثيف التعاون الدولي في مجال مكافحة الإرهاب مع أعضاء المجتمع الدولي من خلال ضرب هؤلاء المقاتلين "بحزم". وفي /آذار/ مارس ، طالبت بكين قادة سوريا الجدد "بالوفاء بالتزاماتهم في مكافحة الإرهاب" و"اتخاذ تدابير حاسمة" لمكافحة "الحزب الإسلامي التركستاني".
ومن ناحية أخرى، كررت الصين دعمها لقرار مجلس الأمن الدولي رقم (2254)، الذي يدعو إلى عملية انتقال سياسي بقيادة سورية. لكن اللافت للنظر هو أن دعمها السابق للقرار )2254) كان قد دعا الدول إلى الحفاظ على "التعاون" مع الحكومة السورية (أي نظام الأسد)، في حين أن بيانها الأخير في كانون الثاني/يناير، حث ببساطة على عملية انتقالية "وفقاً لروح" القرار(2254. (
الشرع يوازن سياسته
منذ الاستيلاء على دمشق، شن القادة الجدد في سوريا هجوماً دبلوماسياً لحشد الدعم الدولي، حيث تم إجراء أكثر من 600 اتصال خارجي حتى كتابة هذه السطور. وحتى الآن، كانت أربعة فقط من هذه الاتصالات مع الصين:
1. اجتماع في أوائل فبراير/شباط مع وفد تجاري صيني لمناقشة سبل تعزيز التعاون التجاري الثنائي.
2. اجتماع أواخر فبراير/شباط بين السفير شي والرئيس الشرع ووزير الخارجية أسعد الشيباني.
3. اجتماع في أواخر مارس/آذار بين شي والشيباني، وأكد خلاله السفير "احترام بلاده لسيادة سوريا ووحدة أراضيها واستقلالها"، وتعهد "بعدم التدخل في شؤونها الداخلية"، وأكد دعمه لسوريا خلال الفترة الانتقالية لتجاوز الوضع الحالي بنجاح".
4. وفي منتصف مارس/آذار، عقد اجتماع بين وزير الزراعة السوري ووفد من جمعية التعاون السوري الصيني لمناقشة فرص الاستثمار في القطاع الزراعي واستراتيجيات البنية التحتية لتحسين الإنتاج الزراعي.
تشير هذه المساعي الأولية لإعادة بناء العلاقات السياسية وتعزيز المصالح التجارية إلى أن بكين ربما تعتمد النهج البراغماتي نفسه الذي اتبعته بعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان عام 2021 وعودة طالبان إلى السلطة. منذ ذلك الحين، كانت الصين أكثر الدول انخراطاً سياسياً واقتصادياً مع أفغانستان، على الرغم من أن طالبان كانت في السابق حليفاً رئيسياً لـ"لحزب الإسلامي التركستاني". ويُفترض أن هذه الموجة من النشاط تنبع من حقيقة أن التهديدات القادمة من أفغانستان تُعد أقرب إلى الأراضي الصينية مقارنةً بتلك الآتية من سوريا أو غيرها من مناطق الشرق الأوسط. وقد أكدت حركة طالبان مراراً وتكراراً للصين ودول أخرى أن أفغانستان لن تتحول إلى منطلق لعمليات خارجية. وعلى الرغم من أن هذا التعهد لم يُنفذ بالكامل فيما يتعلق بفرع "ولاية خراسان" التابع لـ"تنظيم الدولة الإسلامية" (داعش)، والذي استهدف دبلوماسيين ورجال أعمال صينيين في أفغانستان، فلا توجد مؤشرات على أن عناصر الحركة استخدموا الأراضي الأفغانية لتدبير مؤامرات داخل الصين.
ينحدر القادة الجدد في سوريا من جماعة "هيئة تحرير الشام"، لكن سجلهم يُعد أقل تطرفاً بشكل ملحوظ مقارنة بسجل "حركة طالبان". كما أنهم يعتبرون تدخل المقاتلين الأجانب في العمليات الخارجية خطاً أحمر؛ ففي 14 كانون الثاني/يناير، على سبيل المثال، أصدروا أمراً باعتقال مقاتل مصري دعا إلى الإطاحة بالرئيس عبد الفتاح السيسي.
ومع ذلك، أصدر "الحزب الإسلامي التركستاني" في الشهر الماضي ميثاقاً محدثاً يعلن فيه العودة إلى اسمه الأصلي، "الحزب الإسلامي لتركستان الشرقية"، ما يشير إلى نيته التركيز مجدداً على إقليم شينجيانغ .ولتحقيق هذه الغاية، يركز الميثاق الجديد للحزب على الصين، مع تقليص اهتمامه بالقضايا الجهادية العالمية التي كانت تُحرك الجماعة خلال العقدين الماضيين منذ تغيير اسمها من "الحزب الإسلامي لتركستان الشرقية" إلى "الحزب الإسلامي التركستاني". ويبدو أن الجماعة تتأثر إلى حد كبير بالنموذج الجهادي السياسي الناجح الذي تبنته "حركة طالبان" و"هيئة تحرير الشام". ولا يزال من الصعب التنبؤ بما تعنيه هذه التطورات على أرض الواقع، لكن من المؤكد أن تحول "الحزب الإسلامي التركستاني" في باكستان سيعزز مخاوف بكين بشأن المقاتلين الأويغور الأجانب المتواجدين في أفغانستان وسوريا.
التداعيات السياسية
على الرغم من أن ارتباطات الصين مع سوريا ما بعد الأسد لا تزال محدودة حتى الآن، فإنها أظهرت رغبة واضحة في تعزيز العلاقات، وذلك رغم المخاوف المستمرة من وجود عناصر أويغورية متشددة في الحكومة الجديدة. وتخاطر واشنطن بتيسير هذه المهمة لبكين إذا استمرت في نهجها الفاتر تجاه سوريا الجديدة. فمن الناحية التاريخية، كانت روسيا الحليف التقليدي لدمشق، لكنها لم تعد تملك النفوذ الاقتصادي الذي تستطيع الصين أن توفره، لا سيما في ظل حاجة سوريا الماسة اليوم إلى النمو الاقتصادي والمساعدات لإعادة الإعمار بعد حرب دامت أربعة عشر عاماً،
ولمنع أي انفتاح محتمل بين بكين ودمشق، يجب على واشنطن صياغة خطة انخراط فعالة تركز على العمل مع الحكومة المؤقتة في درعا، وتخفيف العقوبات، وتوسيع الإعفاءات الممنوحة بموجب الترخيص العام 24 لتسهيل فرص اقتصادية أوسع نطاقاً. ومن شأن ذلك أن يحفز الحكومة الجديدة على الاقتراب أكثر من الفلك الغربي، كما من شأنه أن يحول دون تحقيق الصين لأي تقدم محتمل قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار في بلدٍ محوري في الشرق الأوسط.
غرانت روملي هو زميل أقدم في زمالة "مايزل - غولدبرغر" في معهد واشنطن ومدير برنامج "مؤسسة ديان وجيلفورد غليزر"حول التنافس بين القوى العظمى والشرق الأوسطه.
هارون ي. زيلين هو زميل أقدم في زمالة "ليفي"في المعهد ومؤلف كتاب "عصر الجهادية السياسية" : دراسة عن "هيئة تحرير الشام".