
- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4006
خطوات ما بعد مؤتمر باريس في سوريا قد تكون حاسمة

مع انقضاء شهر العسل الذي أعقب سقوط الأسد، لا يزال أمام واشنطن متسع من الوقت للاعتراف بالوقائع على الأرض، وذلك من خلال تقديم الخبرة الفنية الأمريكية اللازمة، فضلًا عن الدعم الاستراتيجي للمساعدات الدولية، وجهود التعافي، ومكافحة الإرهاب.
في 13 شباط/فبراير، اجتمع ممثلون عن الحكومة السورية الانتقالية مع تسع عشرة دولة من دول التحالف الدولي ، بالإضافة إلى أربع منظمات متعددة الجنسيات في باريس، حيث ووقعوا بيانًا مشتركًا حول مستقبل البلاد. واستنادًا إلى روح قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، دعا بيان باريس إلى إقامة سوريا موحدة وشاملة للجميع، وعقد مؤتمر حوار وطني يُفضي إلى إصلاح دستوري وانتخابات. كما دعا البيان السلطات السورية إلى احترام حقوق الإنسان وتطبيق العدالة الانتقالية وإنهاء إنتاج الكبتاغون والاتجار به والحد من الجريمة المنظمة وتدمير الأسلحة الكيميائية وضمان عدم عودة الجماعات الإرهابية للظهور على الأراضي السورية. وتعهد الموقعون من جهتهم بزيادة حجم ووتيرة الجهود الإنسانية وجهود التعافي، والسعي إلى إنشاء مجموعة "دعم المرحلة الانتقالية السورية" طويلة الأمد لتنسيق المشاركة الدولية.
وربما تكمن الفائدة الرئيسية لهذا المؤتمر المعروف بـ"الخيمة الكبيرة"، في تقليص العديد من الفجوات الواسعة بين حلفاء التحالف في سوريا، حيث تم إشراك تركيا، وهي اللاعب الرئيسي في الحوار دون السماح لها بالمضي قدمًا في أجندتها الخاصة بشكل منفرد. ومع ذلك، اقتصر دور الولايات المتحدة على المراقبة فقط ولم توقّع على البيان المشترك، وبالتالي فوتت فرصة كبيرة للتأثير في مسار الحوار. وعلى الرغم من ذلك، أشار المؤتمر إلى أن المجتمع الدولي ملتزم بتنسيق عملية تحقيق الاستقرار في سوريا وإعطائها الأولوية. وعليه، ينبغي أن تُركز المؤتمرات المستقبلية على معالجة الفجوات المتبقية بين الحلفاء، مع وضع خارطة طريق واضحة ومحددة، ولا سيما من خلال تعزيز المشاركة الأمريكية.
ويُلاحظ أيضًا غياب روسيا وإيران، اللتين طالما تدخلتا في السياسة السورية، إلى جانب الصين التي قد تسعى لتحقيق مصالح اقتصادية مهيمنة بعد رحيل الأسد. وقد أشار استبعاد هؤلاء الفاعلين المفسدين المحتملين إلى أن الدول المناهضة للغرب لن تُمنح الفرصة لملء الفراغ مع ظهور سوريا الجديدة.
وفي الوقت نفسه، عقدت دمشق حوارها الوطني في 24 و25 شباط/فبراير. غير أن العملية كانت متسرعة للغاية ، إذ نظمت اللجنة التحضيرية المؤلفة من سبعة أشخاص الحوار في أسبوع واحد فقط، وعقدت المحادثات اللاحقة بعد يومين فقط من انعقاده، وجرت العملية برمتها قبل بداية شهر رمضان، حيث سيتوقف معظم عمل الحكومة لمدة شهر. وقد تؤدي هذه العوامل إلى خلق مظالم طويلة الأمد من شأنها الإضرار بالاستقرار في المستقبل.
هل هناك مخرج أمريكي أفضل للانسحاب؟
اضطلعت الولايات المتحدة بدورٍ نشط في قيادة التحالف الدولي لهزيمة تنظيم "الدولة الإسلامية" منذ إنشائه في عام 2014، وقد صرحت إدارة ترامب بأن القتال ضد التنظيم سيظل مستمرًا. ومع ذلك، أوضح الرئيس أيضًا أن القوات الأمريكية ستنسحب من سوريا، رغم أن الجدول الزمني لهذا الانسحاب لا يزال غير واضح.
أما فيما يتعلق بالعقوبات، فقد أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية في أوائل كانون الثاني/يناير الترخيص العام رقم 24، الذي يُتيح بعض المعاملات مع الحكومة الانتقالية في سوريا، بالإضافة إلى السماح بالتحويلات الشخصية عبر البنك المركزي السوري لمدةٍ تصل إلى ستة أشهر. ومع ذلك، لم تتخذ الإدارة الأمريكية أي خطوات ملموسة منذ ذلك الحين لتخفيف العقوبات الأخرى. وقد أدى قرار تجميد الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) وبرامج وزارة الخارجية الأمريكية الأخرى إلى زيادة حالة عدم اليقين بشأن مستقبل التمويل والاستثمار الأمريكي في سوريا، رغم حصول العديد من المشاريع المناهضة لتنظيم "الدولة الإسلامية" في الشمال الشرقي على إعفاءات مؤقتة تُمكّنها من مواصلة عملها.
ويرى العديد من الحلفاء أن الموقف الأمريكي يشكّل عقبة أمام وضع خارطة طريق ناجعة لسوريا، مما يُعرقل الجهود المشتركة لتحديد معايير واضحة يمكن للحكومة الانتقالية تحقيقها ضمن جدول زمني واقعي. كما أثار نهج واشنطن مخاوف لدى أولئك الذين يطمحون إلى الحصول على دعم الولايات المتحدة في احتواء انتشار تنظيم "الدولة الإسلامية " في سوريا والتواصل المباشر مع القادة الجدد في البلاد.
ومع انتهاء شهر العسل الذي أعقب سقوط الأسد، واستمرار واشنطن في التزام الصمت في معظم الأحيان، بدأ حلفاء الولايات المتحدة بطرح مقترحاتهم الخاصة. فعلى سبيل المثال، اقترحت أنقرة تشكيل مجموعة إقليمية لمكافحة تنظيم "الدولة الإسلامية"، تضم قوات تركية إلى جانب وحدات من العراق والأردن وسوريا. غير أن هذه المبادرة لا تحظى بدعم كبير في عمّان وبغداد، كما أن أنقرة تفتقر إلى الإمكانات والتنسيق اللازمين لتنفيذها بمفردها، رغم أن الفكرة قد تبدو جذابة لواشنطن.
وقد اقترح الحلفاء الأوروبيون بديلاً أكثر واقعية، وهو أن يطلب الرئيس الانتقالي أحمد الشرع من عملية "العزم الصلب" -الذراع العسكرية للتحالف الدولي-البقاء في سوريا. وقد قدمت بغداد طلبًا مماثلًا للعراق في السابق، وإذا اتخذ الشرع الخطوة ذاتها، فقد يُسهم ذلك في تهدئة بعض المخاوف بشأن ارتباط فصيله السابق بتنظيمي "الدولة الإسلامية" و"القاعدة".
ووفقًا لهذا السيناريو، ستتولى فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة ودول أخرى الجزء الأكبر من عملية "العزم الصلب" بدلاً من واشنطن، مع إنشاء غرفة عمليات مشتركة في دير الزور تجمع بين دمشق و"قوات سوريا الديمقراطية"،- الشريك المحلي الرئيسي لواشنطن في الحرب المستمرة منذ سنوات ضد تنظيم "الدولة الإسلامية". ومن ثم، سيتبنى الطرفان نهجًا تدريجيًا للتقارب العسكري الداخلي، على أمل أن يتم تعزيز الثقة وتعميق التعاون بمرور الوقت. وقد نفّذت المملكة المتحدة وفرنسا بالفعل عمليات ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" في شمال شرق سوريا، فيما أصبحت لدى فرنسا موارد أكبر الآن بعد توقف عملياتها في منطقة الساحل. كما أن إعادة تفعيل "عملية العزم الصلب" قد تُساعد أنقرة على الحفاظ على ماء وجهها، من خلال إضفاء الشرعية على القواعد التركية داخل سوريا كجزء من جهود التحالف. وفي ضوء هذه المكاسب المحتملة، ينبغي لواشنطن النظر في وضع خطط انتقالية لنقل قيادة "عملية العزم الصلب" إلى باريس، مع استمرار الولايات المتحدة في أداء دورها كشريك رئيسي، ولكن دون أن تتولى قيادة المهمة مستقبلاً.
وفي الوقت عينه، يمضي الاتحاد الأوروبي قدمًا في تخفيف العقوبات على نطاق أوسع، دون الحصول على دعم أمريكي، حيث قام بتعليّق القيود المتعلقة بالطاقة والنقل وإعادة الإعمار خلال اجتماع عُقد في 24 شباط/فبراير في بروكسل. كما أسفر الاجتماع عن منح إعفاءات دائمة للمساعدات الإنسانية، ورفع تجميد الأصول عن خمسة بنوك، بالإضافة إلى تخفيف القيود المفروضة على البنك المركزي السوري، مما يعزز مساعي أوروبا الأخرى لسد الفجوات التي خلفتها السياسة الأمريكية. فعلى سبيل المثال، سبق أن منحت واشنطن إعفاءات للمنظمات غير الحكومية العاملة داخل مخيم الهول، الذي يحتجز الآلاف من أفراد عائلات تنظيم "الدولة الإسلامية" في شمال شرق سوريا. ومع ذلك، لم يوضح المسؤولون الأمريكيون الجهة التي ستتحمل هذه التكاليف مستقبلاً، مما دفع فرنسا ودولًا أخرى إلى وضع خيارات بديلة، تتراوح بين تحمل أنشطة تكاليف المنظمات غير الحكومية بأنفسهم، وتعزيز جهود لم شمل السوريين على أمل تقليل عدد سكان المخيم. وفي نهاية المطاف، من المرجح أن يجد الشركاء الأوروبيون أنفسهم مضطرين إلى مواجهة الواقع وإعادة ما تبقى من مواطنيهم المحتجزين إلى أوطانهم، بعد سنوات من التأجيل.
الأشهر القليلة القادمة هي الأكثر أهمية
في أعقاب مؤتمر باريس مباشرة، يتعين على الولايات المتحدة وحلفاؤها إيلاء اهتمام خاص لثلاث قضايا رئيسية قد تؤدي إلى زعزعة الاستقرار بسرعة:
- قوات سوريا الديمقراطية. بالأمس، أصدر عبد الله أوجلان بيانًا تاريخيًا دعا فيه "حزب العمال الكردستاني" إلقاء السلاح وإنهاء القتال المستمر منذ عقود مع الحكومة التركية. وحتى قبل هذا الإعلان، بدا مظلوم عبدي -قائد "قوات سوريا الديمقراطية"، التي تصنفها تركيا كامتداد لـ"حزب العمال الكردستاني"- مستعدًا لدمج قواته في الجيش السوري الجديد. ومع ذلك، لا تزال تفاصيل هذه العملية غير واضحة، مما يستلزم ضغط المفاوضين للحصول على إجابات عن عدة تساؤلات محورية: كيف سيتم دمج "قوات سوريا الديمقراطية" في الجيش الجديد؟ كيف سيتم ضمان أمن منشآت النفط والغاز في الشمال الشرقي؟ من سيتولى السيطرة على الحدود السورية؟ وكيف ستضمن التسويات الجديدة حماية الأكراد من أي تهديدات تركية؟ يجب على واشنطن وحلفائها تشجيع المزيد من المحادثات حول هذه القضايا، مع التأكيد على أهمية تحقيق التوازن بين حماية حقوق الأكراد وضمان وحدة سوريا.
- المجتمع المدني. تحتاج الحكومة الانتقالية إلى الانخراط بشكل أعمق مع المجتمع المدني داخل سوريا وخارجها. فحتى الآن، ركزت غالبية جهودها على التعامل مع الوجهاء المحليين ورجال الأعمال والزعماء الدينيين والشخصيات القبلية، مما أدى إلى تهميش الجهات الفاعلة في المجتمع المدني، التي تتمتع بتنظيم جيد ولها دور محوري في المرحلة الانتقالية وعملية إعادة الإعمار. كما يمكن أن يضطلع الشتات السوري بدور داعم في هذا الإطار. وستتطلب هذه الجهود وقتًا، فيما ستظل العدالة الانتقالية عنصرًا جوهريًا في العملية. وعلى امتداد هذه المساعي، يجب أن تضمن واشنطن وحلفاؤها أن تؤدي الخطوات المستقبلية إلى تشكيل حكومة شاملة بحق.
- التهديد الجهادي العالمي. يتوجب على دمشق اتخاذ خطوات ملموسة للانخراط بفعالية في محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية" في سوريا، وصولًا إلى تولي زمام المبادرة مستقبلاً. وسيكون قبول مقترح "عملية العزم الصلب" الأوروبية خطوة في الاتجاه الصحيح، إلى جانب توفير معلومات استخباراتية مستمرة لدعم الضربات الأمريكية بطائرات مسيرة ضد فلول تنظيم القاعدة. من شأن هذين الإجراءين أيضًا طمأنة الجهات التي لا تزال متوجسة بشأن ارتباطات الإدارة الأمريكية السابقة بالجهاديين.
كما ستتطلب الأشهر القادمة جهوداً متضافرة لقطع الطريق على المفسدين المحتملين في سوريا تشمل:
- روسيا. رغم التعقيدات والاضطرابات الدبلوماسية المحيطة حاليًا بسياسة الولايات المتحدة تجاه أوكرانيا وروسيا، ينبغي على واشنطن وحلفائها الضغط على دمشق لتقليص نفوذ موسكو في المرحلة الانتقالية. وقد يتطلب تحقيق ذلك وقتًا وحذرًا، لا سيما أن دمشق ستظل بحاجة إلى دعم موسكو في العديد من المهام الانتقالية الأساسية، مثل صيانة العتاد العسكري الذي يعود إلى الحقبة السوفييتية، والخروج من قائمة الأمم المتحدة للإرهاب، بالإضافة إلى إعادة بشار الأسد (والأموال التي استحوذ عليها) إلى سوريا لمحاكمته، وإعادة إعمار البلاد التي ساهم القصف الروسي في تدميرها. ولتلبية الحاجة الأولى، ينبغي على واشنطن تشجيع أوكرانيا على سد الفجوة في صيانة الأسلحة السورية بسرعة. وقد سبق لكييف أن قامت بجهود مماثلة في قطاع القمح بعد انسحاب روسيا من معظم الأراضي السورية إثر سقوط الأسد.
- إيران وحزب الله وشبكات الكبتاغون. لقد اتخذت دمشق بالفعل خطوة تستحق الترحيب بمواصلتها مكافحة شبكات التهريب التي يديرها فلول نظام الأسد و"حزب الله" اللبناني و"الحرس الثوري الإيراني"، بما في ذلك تفكيك مستودعات الكبتاغون ومخابئ الأسلحة. وينبغي على واشنطن تسليط الضوء على هذه الجهود أمام الحكومة الإسرائيلية، موضحة أن الجارتين تتشاركان الخصومة ذاتها، وأن الحكومة السورية الجديدة تمثل فرصة أكثر من كونها تهديدًا في مواجهة "محور المقاومة" الذي تقوده طهران. علاوة على ذلك، قد تدعم إيران بقايا "حزب العمال الكردستاني" المحتملين الذين يرفضون دعوة أوجلان ويسعون إلى عرقلة الحوار بين دمشق و"قوات سوريا الديمقراطية". وعليه، يجب على واشنطن العمل على تنسيق الجهود مع شركائها في "قوات سوريا الديمقراطية" وتركيا والعراق لإحباط أي محاولات من هذا القبيل.
ثمة الكثير على المحك، ولكن إذا نجحت دمشق والمجتمع الدولي في استثمار الزخم الذي أعقب مؤتمر باريس، فقد يُشكل ذلك الأساس لمستقبل مستقر في سوريا، مستقبل لا يقتصر على ضمان الأمان لسكانها فقط، بل يسهم أيضًا في بناء السلام في منطقة طالما عانت من الحروب
الدكتورة ديفورا مارغولين هي زميلة أقدم في برنامج الزمالة "بلومنشتاين-روزنبلوم" في "برنامج جانيت وايلي راينهارد لمكافحة الإرهاب والاستخبارات" في معهد واشنطن.
الدكتور هارون ي. زيلين هو زميل أقدم في برنامج الزمالة "غلوريا وكين ليفي" في "برنامج جانيت وايلي راينهارد لمكافحة الإرهاب والاستخبارات" في معهد واشنطن.