- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3008
كسر الجمود في الخلاف حول السدّ بين مصر وأثيوبيا
في 26 تموز/يوليو، توفي في ظروف غامضة المهندس الرئيسي لـ "سد النهضة" الأثيوبي الكبير"، سيميجنيو بيكيلي، وذلك بعد يومين من إعلان رئيس الوزراء آبي أحمد عن إمكانية استغراق مشروع بناء السد عشر سنوات إضافية قبل اكتماله، رغم أن السد الممول من الحكومة نفسها سبق أن أرهق كاهل الاقتصاد الهش في ذلك البلد الفقير.
ولعلّ الجانب الإيجابي في الشكوك المتزايدة حول المشروع هو أن هذه الشكوك تمنح مصر فسحةً هي بأمسّ الحاجة إليها لوضع استراتيجية أفضل لصيانة المياه. وتراود المصريين مخاوف جمّة من العواقب التي سيخلفها السد على إمداداتهم من المياه بسبب الانخفاض المؤقت في منسوب مياه نهر النيل. وتسجل بلادهم المعدل الأدنى لهطول الأمطار على وجه الأرض، ووفقاً لبعض التقارير تعتمد مصر على نهر النيل لتلبية أكثر من 75% من احتياجاتها من المياه، ولذلك يرى المصريون أن أي انخفاض كبير قد يكون كارثياً. وفي عام 2017، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي (على توجهه فيما يخص مياه النيل قائلاً:) "محدش يقدر (لا يستطيع أحد أن) يمس المياه في مصر" واصفاً الموقف بـ "مسألة حياة أو موت".
ينبغي على واشنطن أن تعمل مع كلا البلدين لضمان توصّلهما إلى حل عادل لا يزيد من زعزعة استقرار مصر. وسيتطلب ذلك إلقاء نظرة فاحصة على العوامل السياسية والاقتصادية التي أدت إلى انطلاق المشروع وساهمت في تأخيراته.
من الطموح إلى الجمود
وضعت أثيوبيا حجر الأساس للسد في نيسان/أبريل 2011. ولضمان عدم تمكّن الأطراف المانحة الخارجية والمنظمات الدولية من تأخيره، تولّت الحكومة بنفسها تمويل المشروع البالغة كلفته 4 مليارات دولار، وجمعت التبرعات من المصارف المحلية وخصمت المال من رواتب موظفي القطاع العام لشراء السندات.
وبعد انتهاء المشروع، سيؤمّن السد سابع أكبر مخزون من مياه السدود في العالم، أي أكثر من ضعف كمية المياه التي يوفرها سد هوفر (74 مليار متر مكعب مقابل 35.2)، وسيولّد ما يقرب من ثلاثة أضعاف كمية الكهرباء (6000 ميغاواط مقابل 2,080). وتعتزم أثيوبيا استخدام هذا السد لتوليد الكهرباء عوضاً عن الري، وبيع الطاقة للدول المجاورة بسعرٍ أدنى من سعر السوق.
بيد، سيؤدي هذا السد إلى انخفاض كمية المياه المتوافرة في مصر خلال عملية تعبئة خزان المياه التي ستستغرق عدة سنوات، مما يؤثر بشكل كبير على قطاع الزراعة المصري. على سبيل المثال، جادلت مصر بأن انخفاض كمية المياه المحلية بمقدار 1 مليار متر مكعب سيتسبب بخسارة 200 ألف مصري وظيفتهم.
وبعد سيطرة الجيش على الحكم عام 2013، سرعان ما تمكّن السيسي من إرساء الاستقرار في البلاد ووضع استراتيجية متماسكة للتفاوض بشأن السد. ومع ذلك، لم تُحرز المحادثات التي دامت خمس سنوات سوى تقدم ضئيل إن لم يكن منعدماً في معالجة المشاكل الرئيسية، بينما اقتصر عمل المسؤولين على مناقشات غير مثمرة حول دراسات فنية لا معنى لها أجْرتها شركات استشارية أوروبية.
التحديات الاقتصادية التي تواجهها اثيوبيا
وُصِفت إثيوبيا بأنها تجربة أفريقية ناجحة، حيث شهدت البلاد عدة سنوات من النمو تجاوزالـ 10%، مع ارتفاع الاستثمارات الأجنبية المباشرة بشكل ساحق من 365 مليون دولار خلال السنة المالية 2005/2006 إلى 4.2 مليار دولار بحلول نهاية العام المالي 2017/2018.
ومع ذلك فقد ارتفع الدين أيضاً من 10.5 مليار دولار عام 2012 إلى 26.2 مليار دولار في آذار/مارس 2018، بينما تراجع احتياطي البنك المركزي من العملات الأجنبية من 3.2 مليار دولار في نهاية كانون الأول/ديسمبر 2016 إلى 2.8 مليار دولار في حزيران/يونيو المنصرم، وهذا المعدل هو الأدنى منذ عام 2013/2014. وفي كانون الأول/ديسمبر 2017، كانت احتياطيات البلاد بالكاد تغطي الواردات لشهرين فقط، وهو الحد الأدنى الموصى به من قبل "صندوق النقد الدولي". وفي الوقت نفسه، شكّل العجز في الميزانية نسبة 3.3% من "الناتج المحلي الإجمالي" في عام 2016/2017 - وهي النسبة الأعلى منذ عام 2006/2007 - وتم تمويلها بديون إضافية ونفقات بالعملة الأجنبية. ولكن على الرغم من النمو القوي، ما زال الاقتصاد يعتمد على السلع الأساسية غير تامة الصنع كالقهوة (30.4٪ من الصادرات في 2016/2017)، والبذور الزيتية (12.1%) والحبوب (9.6%).
فضلاً عن ذلك، أدى العجز في العملات الأجنبية إلى ظهور تحديات اقتصادية لا تستطيع أثيوبيا معالجتها بمفردها، لذا فقد التمست المساعدة من جهات راعية خارجية، لا سيما بكين. ففي عام 2016، كانت الصين أكبر مشتر للسلع الأثيوبية (12.5%) وشريك أثيوبيا الأكبر في الاستيراد (31.6 ٪، أي ما يقرب من أربعة أضعاف أي دولة أخرى). كما كانت بكين أيضاً المستثمر الأجنبي الأكبر فيها، أي ما يشكّل حوالي 25% من مشاريع الاستثمار المباشر في أثيوبيا البالغ عددها 5217 مشروعاً. ومع ذلك، فإن الصين هي الدائن الأكبر لأثيوبيا - إذ أقرضتها 4.6 مليار دولار منذ السنة المالية 2012/2013 حتى العام المالي 2015/2016، أي ما يعادل 29.5% من إجمالي قروض أثيوبيا. وشمل ذلك مبلغ 1.2 مليار دولار لتمويل خط نقل التيار الكهربائي للسد.
وقد ساعدت أثيوبيا جهات راعية أخرى أيضاً، إذ طلبت من المملكة العربية السعودية تزويدها بالوقود لمدة عام مع تأجيل الدفع، بينما وعدتها الإمارات العربية المتحدة بتقديم مساعدات بقيمة 3 مليارات دولار في حزيران/يونيو المنصرم وأودعت فوراً مليار دولار في المصرف المركزي. ويجدر بالذكر أن كلا البلدين (السعودية والإمارات) هما شريكان تجاريان مهمان لأثيوبيا أيضاً، إذ احتلّا في عام 2016 المرتبة الرابعة والتاسعة بين الدول التي اشترت المنتجات الأثيوبية (6.7 ٪ و 3.3 ٪ على التوالي). وفي وقت سابق من هذا الشهر، كشف رئيس الوزراء آبي أحمد أن "البنك الدولي" سيدعم الميزانية بمليار دولار.
إبطاء وتيرة بناء السد
أدى الانخفاض في احتياطي العملة الأجنبية إلى إرهاق مشروع السد،ّ وحال دون تمكّن أثيوبيا من الدفع للمورّدين. ونتيجة لذلك، يسود الاعتقاد بأن شركة "ساليني إمبريجيلو" الإيطالية المكلفة ببناء السد قد أبطأت وتيرة أعمال البناء. ومع ذلك، فقد تضرر المشروع أيضاً بفعل مشاكل غير اقتصادية [كان] يمكن تجنبها.
وقد خصصت أثيوبيا حصةً كبيرةً من المشروع للشركات المحلية من أجل الحفاظ على مخزون العملة الأجنبية وإعطاء المهندسين المحليين خبرةً قيّمةً في مجال الأشغال العامة. ففي مقالة لصحيفة "إثيوبيا إنسايت" في 31 تموز/يوليو، أشار وليام ديفيدسون إلى أن "شركة المعادن والهندسة" المحلية تفتقر إلى الإمكانيات اللازمة لإنجاز المهمة المسندة إليها، ولم تتمكن حتى من تركيب توربين واحد من توربينات السد الستة عشر، الأمر الذي يؤخّر الأعمال الكهروميكانيكية لشركة "ساليني". ووفقاً لموقع "ساليني"، كان من المقرر إنهاء العمل على المشروع في أيار/مايو 2017، لكن النسبة المنجزة منه لا تتعدى الـ 65%، حتى أن هذه النسبة مضللة لأن معظم المهام المنجزة تندرج ضمن مرحلة الحفر السهلة نسبياً، في حين أن الأعمال الأكثر تعقيداً من تركيب التوربينات وأشغال محطة الطاقة لم تنفَّذ بعد.
في المقابل، من المحتمل أن يكون الفساد قد أدّى دوراً في تأجيل المشروع - وربما في وفاة المهندس بيكيلي. إذ كان من المفترض أن يكشف يوم وفاته عن المستجدات المتعلقة بالتأخيرات، مع إمكانية الكشف عن أسماء الأشخاص الذين استفادوا بطريقة غير مشروعة من المشروع. وحدثت وفاة أخرى مشبوهة في أيار/مايو، عندما قُتل ديب كامرا - مسؤول تنفيذي في شركة "دانغوتي" النيجيرية المكلّفة بتوفير الإسمنت للسد - أثناء زيارته لمنطقة مضطربة في أثيوبيا.
وقد تفسر هذه العوامل سبب سعي رئيس الوزراء إلى تخفيف التوقعات بشأن السد خلال الشهر الماضي. ومن المرجح أن تقديراته باكتمال العمل خلال عشر سنوات كانت تلمّح إلى إكمال السد نفسه (من المتوقع أن يستغرق ذلك ثلاث سنوات أخرى) وتعبئة الخزان ككل (ربما سبع سنوات - للمزيد من المعلومات حول هذا الموضوع، إقرأ أدناه). لكن كلمته ألقت الضوء أيضاً على الأولويات الجديدة لدى الحكومة. فالسد الذي كان سابقاً موضع فخر وطني ورمزاً للاكتفاء الذاتي والمكانة الإقليمية الهامة، وُضع اليوم جانباً حيث يركز آبي على عملية السلام مع أريتريا وعلى الإصلاحات الداخلية. وتشكل سياساته الحرة تهديداً للمصالح الراسخة لدى "جبهة تحرير شعب تيجريان" التي هيمنت لفترة طويلة على تلك الدولة الاستبدادية وربما تكون متورطةً أيضاً في محاولة الاغتيال التي تعرّض لها في 23 حزيران/يونيو.
مساعدة مصر على حل النزاع
بإمكان مصر استغلال هذا التغيّر في أولويات آبي والاضطرابات المحيطة بموت بيكيلي كفرصة لوضع استراتيجية جديدة بشأن المياه، لكنها ستحتاج على الأرجح إلى النفوذ الدبلوماسي الأمريكي لتنفيذها. وتتمثل الخطوة الأولى الجيدة في توثيق كمية المياه المحددة التي تحتاج البلاد إلى سحبها من النيل فعلاً. فقد أفاد "الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء" التابع للحكومة بأن مصر استهلكت 76.3 مليار متر مكعب من المياه خلال السنة المالية 2015/2016، وهذا الرقم يشمل الموارد من غير النيل. وبموجب الاتفاقية المبرمة عام 1959 مع السودان، رُصِدت لمصر 55 مليار متر مكعب سنوياً من النهر، لكن الجانب السوداني لا يستخدم حصته كاملةً، مما يدفع الخبراء الدوليين إلى الاعتقاد بأن مصر تسحب حالياً ما يصل إلى 65 مليار متر مكعب من مياه النهر.
أما في ما يخص التأثيرات الناتجة عن بناء السد، فسوف ينخفض منسوب النيل بشكل حاد خلال فترة تعبئة خزان المياه، مما سيجبر مصر على التعويض عن هذه الخسائر السنوية. وتنوي الحكومة حتى تاريخ كتابة هذه السطور زيادة معدل تحلية المياه بخمسة أضعاف على مدى الأعوام الثلاثة القادمة، في حين أشار رئيس الوزراء في عام 2016 إلى أن القاهرة ستكثف جهودها لتكرير مياه الصرف الصحي وقنوات الري. وبدأت أيضاً في فرض قيود على زراعة المواد التي تستهلك كميات كبيرة من المياه كالأرز، بينما شجعت على استهلاك الحبوب التي تتطلب كميات أقل من المياه كالكينوا. وتعتبر مثل هذه التدابير بداية جيدة، ولكنها لن توفر سوى 5 إلى 7 مليارات متر مكعب من المياه سنوياً، وهذه كمية لا تكفي للتعويض عن الخسارة التي ستلحق بالبلاد خلال فترة ملء الخزان.
وفي حين تربط مصر وإثيوبيا علاقات جيدة وأن الدولتين تحاولان التوصل إلى حل ودّي، إلا أنهما لم تحرزا الكثير من التقدم. ولا تزال المشكلة الكبرى المتبقية في هذه المرحلة المتأخرة من بناء السد تكمن في فترة تعبئة الخزان. فمصر تودّ إطالة أمدها قدر الإمكان للتقليل من الانخفاض السنوي في مردود المياه من نهر النيل، حيث تطالب وسائل الإعلام المحلية بفترة تتراوح بين سبعة وعشرة أعوام، علماً بأن بيكيلي - قبل وفاته - كان يرتقب إتمامها خلال خمسة إلى ستة أعوام.
وللخروج من هذا الجمود، على واشنطن أن تحثّ الطرفين على القبول بفترة سبع سنوات لامتلاء الخزان، فتُوازن بذلك بين حاجة أثيوبيا إلى تحقيق عائدات سريعة على استثمارها وبين الأضرار التي قد يسببها جدول زمني معجل لمصر. كما يمكن للمسؤولين الأمريكيين المساعدة في إعداد حزمة مساعدات دولية للمحاصيل التي تعتمد على المياه بشكل كبير على غرار البرسيم والثوم والحنّة، مما يتيح لمصر الحفاظ على مواردها القيّمة. إن هذا السد مشروع جدير بالاهتمام حيث سيوفر الكهرباء بكلفة أقل لبعضٍ من أكثر دول العالم فقراً، لكن يجب ألا تأتي مكاسب هذه الدول على حساب المزارعين المصريين المعوزين واستقرار أكثر الدولة العربية ازدحاماً بالسكان في العالم.
باراك بارفي هو زميل باحث في "مؤسسة أمريكا الجديدة"، ومتخصص في الشؤون العربية والإسلامية.