- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
كيف يمكن معالجة نقص التعاطف في ظل الصراع
باعتباري أستاذاً في العلوم السياسية، يمكنني تشخيص التطرف العنيف على أنه مرض تكمن أعراضه الجانبية في نقص 'التعاطف'. يقترب النزاع الاسرائيلي- الفلسطيني من الدخول في مرحلة بالغة الخطورة؛ ثمة ببساطة الكثير من الناس الذين يعانون من هذا الداء اليوم في فلسطين وإسرائيل. لقد وصلنا إلى نقطة مشؤومة حيث لم يعد بإمكان من هم مصابون بخلل مشابه بالتعرف على أي جانب إنساني لدى الطرف الآخر. بالإضافة إلى ذلك، فإن مجتمعات بأكملها فشلت بالتعرف على مدى تأثير التعاطف على عملية المصالحة، وكيف يمكن لجانبين متعاديين أن ينتجا حلقة انهزامية تعيد تكرار الكره. ولا يمكن لإسرائيلي معتدل ألا يجتاحه شعور من الكره بعد قراءة الميثاق الرسمي لـ حركة «حماس» الذي ينص "ستقوم إسرائيل وستظل قائمة إلى أن يبطلها الإسلام كما أبطل ما قبلها"، ثم يتعارض مع القرآن ويشدد "إن حركة المقاومة الإسلامية تتطلع إلى تحقيق وعد الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود (فيقتلهم)". وقد ردد تنظيم «فتح» دعوات إلى محرقة جديدة، وهو ما قضى على ما تبقى من النوايا الخيّرة بين الكثير من الإسرائيليين المعتدلين.
لكن بالطبع فإن هذه مشكلة ذو وجهان. فالفلسطينيون المعتدلون تعبوا من سماع القادة الإسرائيليين يرددون بأن فلسطين غير موجودة ولن تقوم أبداً. وإن التصريح الأخير لنائب إسرائيلي بأنه "ما من شعب فلسطيني، نظراً لأن اللغة العربية تفتقر إلى حرف 'پ' "، ليس سوى تشديد على ما قد يذهب إليه البعض من حدود خيالية لتثبيت وجهة نظره. إن هذا النوع من التحايل ليس جديداً ويستمد الكثير من التأكيدات الصهيونية الإسرائيلية الأولى التي أعلن عنها المؤلف البريطاني زانغويل، والتي تؤكد بأن إسرائيل "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". وكانت غولدا مائير وقادة يهود آخرين قد أعلنوا في الماضي تصريحات مشابهة، لكن عدم الاعتراف بوجود فلسطين كان قد تم حلّه نظرياً في اتفاق أوسلو عام 1993. للأسف، وعلى الرغم من أن كلا الفريقين اعترفا رسمياً بوجود الآخر وتعهدا بعدم محاولة القضاء عليه، غير أن متشددين من الجانبين تجاهلا أهمية هذه الخطوة وما تحمله لمستقبلهما.
إذن، ما هو سبب اضطرابنا حين ينفي الآخر وجود دولتنا ووجودنا وهويتنا الوطنية ومصابنا (المحرقة والنكبة)، في حين أننا نقوم نحن بنفي دولته ووجوده وهويته الوطنية ومصابه؟
حين يفتقد الناس للتعاطف، يجدون صعوبة في فهم ما قد يصدر عنهم من العدائية والشر. حين ينفي العرب وجود إسرائيل ويشيرون إليها بأنها 'الكيان الصهيوني'، فإن ذلك يؤلم الإسرائيليين وداعميهم، وبالتالي يقضي على فرص المصالحة. وعلى نحو مشابه، فإن نفي وجود فلسطين يعني نفي وجود الشعب الفلسطيني. لكن من الواضح لأي شخص يلقي نظرة على الشعبين أنهما موجودان ويعيشان حياة صاخبة في مجتمعات إنسانية. إن التحقير من هذين الشعبين لا يستهدف أشباح أو خيالات، بل بشر. وإن الأخلاقيات والإنسانية هما ما يسمحان للمرء بأن ينظر إلى الآخر على أنه كائن حي.
وفي حين أن الاختلافات السياسية والدينية والاقتصادية عادة ما تؤدي إلى إحداث شرخ عنيف بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فإن ذلك الانهيار بالتعاطف بين الثقافات لم يلق الاهتمام الكافي، ما يترك ناحية حيوية من النزاع ينقصها مناصرون جديون. وتزداد أهمية ذلك حيث إن تنمية حس التعاطف بين الجانبين مهمة ضرورية؛ فالتعاطف مع صديق أو جار أو زميل أو حتى شخص غريب، أمر سهل؛ لكن الصعوبة تكمن في التعاطف مع الغريم.
حاولنا في آذار 2014 من خلال نقل 30 طالباً إسرائيلياً إلى مخيم للاجئين الفلسطينيين و27 طالباً فلسطينياً إلى معسكرات الاعتقال النازية أن نعزز حس التعاطف بأصعب أشكاله. صُمم البرنامج بطريقة تضع المشاركين في تجربة مشابهة للمأساة التي عاشها خصمهم حتى ينمو لديهم حس المراعاة لها. لم يكن من المتوقع أن يشعر المشاركون بنفس مشاعر الضحايا بالتحديد، ولكن أن يختبروا نوعاً من الملكية بالمعاناة التي عاشوها.
إن الفكرة الرئيسية للتعاطف في هذه الحال قضت بأن يتم التوصل إلى فهم المحرقة اليهودية من وجهة نظر يهودية، ووضع الطلاب الفلسطينيين ضمن غرف من الاسمنت المعادية للسامية. إن الشعور بالتعاطف يزيد من الميل نحو مشاعر المصالحة. ونتيجة للنزاع فإن عملية التفاعل الاجتماعي الفلسطيني والإسرائيلي تميل لأن تجعل من الناس أفراداً أكثر وطنية ومعاداة للآخر بدلاً من دفعهم نحو الإنسانية والتعاطف. لذا فإن الطلاب الإسرائيليين والفلسطينيين كانوا قلقين من رد الفعل العام لمشاركتهم بالتجربة ولم يودّوا أن يخطئ الناس الظن بالتعاطف الذي اختبروه مع معاناة الآخر على أنه موافقة على الادعاءات السياسية للجانب الآخر.
تعلمت المجموعتان وشعرتا بأنهما أقرب إلى الآخر بعد الرحلة. لكن رد الفعل العنيف الذي لاقاه الأستاذ والطلاب الفلسطينيون لدى عودتهم بيّن أنه وعلى الرغم من أن إحساسنا بالتعاطف فطري ويمكن اكتسابه، لكن يمكن أيضاً فقدانه.
في هذه النظرية حول التعاطف يرى إيميل برونو أن أكثر الناس تعاطفاً قادرون على إسكات مشاعرهم تحت ظروف محددة، مما يجعل من الصعب تحديد الدور الذي يلعبه التعاطف في النزاعات بين الجماعات. يمكن لزيادة التعاطف أن تحسن السلوك الاجتماعي بين الأفراد لكن برنامجاً كهذا قد يرفع أيضاً من تعاطف الفرد لمجموعته ويحتمل أن يتم ذلك على حساب عدائية زائدة ضد الخصم.
إن التعاطف عبر المجموعات أصعب بكثير من التعاطف بين الأفراد. والتعاطف بين مجموعتين وطنيتين خلال نزاع عنيف عادة ما يكون أكثر صعوبة. لكن حل النزاعات وإرساء السلام يقتضيان وجود التعاطف كمكوّن أساسي في تعزيز المصالحة. إن إجراءات بناء السلام هذه قد تقوم على تفاعل بين الأقران وورش عمل تدريبية مشتركة حول التفكير النقدي والاعتدال والمصالحة وحل النزاعات والتسامح والتعاطف والسلام. وبعد بناء هذه المهارات، يقوم أفراد معيّنون بتطبيقها على أرض الواقع.
قد يجد البعض أنه من السهل طرح النظريات في هذا الإطار ويصعب التطبيق، لكن التاريخ أظهر أن هذه الهدف قابل للتحقيق شرط أن تتواصل الجهود وتتوفر النية الجيدة والتصميم. ولم تحقق مبادرات بناء السلام في آيرلندا وجنوب أفريقيا النجاح دوماً لكن الجهود المستمرة حققت في نهاية المطاف سلاماً في المنطقتين. ففي أيرلندا تم توقيع اتفاق سلام وشهدت منطقة جنوب أفريقيا نهاية نظام الفصل العنصري. وفي هاتين الحالتين، نظر العقلاء إلى وجهة نظر الجانب الآخر، وجمعا ما يكفي من التعاطف والعطف لتمهيد الطريق أمام مصالحة متبادلة وبالتالي السلام. إن ما سيفعله هؤلاء الطلاب بالمعلومات التي اكتسبوها في معسكرات الاعتقال النازية ومخيم اللاجئين هو ما سيحدد الدرجة التي يستطيع من خلالها التعاطف لعب دور في المصالحة. أمّا في ما يخص النزاع الاسرائيلي- الفلسطيني، فإن العقلاء الذين يتبعون خطى التحركات الأولى قد يتاح لهم اعتبار وجهة نظر الآخر والاعتراف بمعانته. إن بناء الثقة والتعاطف بين الإسرائيليين والفلسطينيين قد لا يكون كافياً لتحقيق السلام فوراً، لكنه سيفتح قنوات الحوار ويفتح المجال للوصول إلى السلام والازدهار أمام الشعبين.
محمد سليمان الدجاني الداودي هو مؤسس حركة الوسطية للإسلام المعتدل ومدير معهد الوسطية الأكاديمي لدراسات الدكتوراة في التسامح والوسطية والاخلاق في القدس. وقد تم نشر هذه المقالة في الأصل من على موقع "منتدى فكرة".
"منتدى فكرة"