- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
مأساة المجتمع المدني اليمني
يتصرف الأفراد خلال الأزمات، وكأنهم ضمير الأنا الجمعي للأمة، حيث يسعون إلى تنبيه المجتمع الدولي إلى مظاهر انتهاكات حقوق الإنسان، كما يعملون بلا كلل من أجل مساعدة مجتمعهم على تخطي مختلف الصعاب التي يواجهها، طبيعية كانت، أو من صنع الإنسان.
ويتوزع هؤلاء الحماة إلى ناشطي المجتمع المدني، والهيئات التي تعمل على التعبئة المجتمعية، والصحافيين المستقلين، وكل المناضلين الذين يكرسون حياتهم في سبيل كشف النقاب عن الظلم، وإعادة بناء المجتمعات. غير أنه، ولسوء الحظ، قد يصبح هؤلاء الأفراد من خلال نشاطهم هذا، هدفاً للجهات المستفيدة من تلك النزاعات التي يأملون إلى وضع حد لها. وهذا ما يجسده الواقع اليمني اليوم، ذلك أن الجهات المستفيدة من تلك الصراعات التي يعرفها اليمن أضحت تتمتع بقدرات ملحوظة، تستثمرها للنيل من المجتمع المدني، وتعطيل أنشطته، كما تساهم في تبديد ثروات شعب بأكمله.
ومعلوم أن المجتمع المدني اليمني ما يزال في بداياته الأولى، مع وجود خبرة وتجربة استثنائية في بعض المحافظات الجنوبية، وذلك بفضل الاتحادات والنقابات التي تم تأسيسها في إطار الدولة الاشتراكية في الستينيات والسبعينيات، في حين عرف الشمال وبعض المناطق الشرقية تواجد المجتمع المدني بشكل أساسي كمؤسسات خيرية ممولة من خلال تبرعات ذات طابع ديني. ويمكن القول أن المرحلة الفاصلة في تطور المجتمع المدني اليمني قد بدأت في التسعينيات، وهي الفترة التي تميزت فيها الهيئات المجتمعية باكتساب طبيعة مؤسسية وهيكلة قريبة من تركيب المجتمع المدني بشكله المعاصر، وقد سمحت البيئة السياسية بعد الوحدة اليمنية في 22 أيار/مايو 1990 بالتعددية الحزبية، وفتحت المجال لمنح التراخيص لعدد كبير من منظمات المجتمع المدني، ليتجاوز عدد هذه المنظمات المسجلة لدى وزارة الشؤون الاجتماعية في أواخر التسعينيات أكثر من سبعة آلاف منظمة، تتلقى كل منها معونة سنوية صغيرة من قبل الحكومة. وخلال تلك الفترة، بدأت عدة منظمات دولية أيضاً، بفتح مكاتب لها في اليمن، فساهمت بذلك في تطوير المنحى القائم على المشاريع التي يقودها المانحون.
وإذا كانت بعض منظمات المجتمع المدني اليمني قد تلاشت بكل بساطة، فإن منظمات أخرى قد اكتسبت المزيد من القوة؛ من خلال احتراف فن جمع التبرعات، مستفيدة من الازدهار السياسي في التسعينيات، حيث طورت تجربتها من مجرد مؤسسات خيرية تعمل على التبرعات، إلى منظمات محلية ووطنية تنفذ مشاريع تنموية. وخلال تلك الفترة، أخذت هذه المنظمات المدنية في التنوع والتوسع لتشمل مراكز الأبحاث، والمنظمات المتخصصة في قضايا المرأة، والمنظمات المعنية بالأقليات، والمنظمات المتخصصة في التنمية الريفية، والمبادرات الشبابية، ومنظمات حقوق الطفل، والمؤسسات الإعلامية، وحتى المنظمات المعنية بالمياه والبيئة. وفيما بقيت عدة منظمات ملتزمة بأجنداتها التنموية، طورت منظمات أخرى عملها لترتكز على الحقوق والعمل السياسي.
وهكذا تطورت أنشطة منظمات المجتمع المدني ذات الطابع السياسي، لتبدأ تدريجياً بأعمال المناصرة لحقوق الإنسان والمطالبة بالحكم الرشيد. وما من شك بأن هذا التحول أثار قلق الحكومة، التي لم يكن بطبيعة الحال في مصلحتها الخضوع للمساءلة. وفي أوائل الألفية الثالثة أصبح لدى اليمن برلمان للأطفال، وتقارير ظل منتظمة صادرة عن المجتمع المدني موازية للتقارير الحكومية، وموفدون عن هذا المجتمع المدني إلى الأمم المتحدة، وتجمعات دولية أخرى متنوعة، بالإضافة إلى أمثلة عديدة عن جهود لجهات غير حكومية غايتها تطوير المجتمع اليمني.
وفي حزيران/يونيو 2014، بلغ عدد منظمات المجتمع المدني المسجلة ثمانية آلاف وثلاثمائة منظمة. بالإضافة إلى ذلك، فإن الاهتمام الإعلامي العالمي الذي حظيت به اليمن إثر "الربيع العربي" عام 2011، وبروز ناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي متميزين بإجادة اللغتين العربية والإنكليزية، شجع ظهور اتجاه جديد في عمل المجتمع المدني، يعتمد بشكل أساسي على الفضاء الإلكتروني. وهناك ناشطون منفردون كانوا يعيشون في الخارج، أو قد تعلموا في دول غربية تَوَلَّوْا قيادة هذه الحركة عند نشأتها. وهؤلاء هم محاورون ماهرون، يجيدون استمالة الجماهير الغربية، ويشنون حملات ضد أقطاب الأزمة اليمنية، كما يتبنون مبادرات قائمة على المناصرة. ورغم اتهام البعض لهذه المبادرات الإلكترونية بأنها منفصلة عن الواقع الذي يعيشه معظم اليمنيين، فإن هؤلاء الناشطين الجدد استطاعوا وضع اليمن ضمن الأجندة العالمية، كما استطاعوا تسليط الضوء على قضايا الشعب اليمني. وقد أظهرت هذه المناصرة الإلكترونية جدواها ومرونتها خلال النزاع الحالي، لا سيما وأن منظمات المجتمع المدني التي تنشط على أرض الواقع، تواجه صعوبات متزايدة في عملها حالياً بسبب النزاع المسلح في البلاد.
وعلاوةً على ما سبق، فقد أدى واقع انعدام الاستقرار في اليمن إلى تراجع المشاريع التنموية، فيما دفع بمبادرات الإغاثة المحلية لشغل الحيز الأكبر من عمل المجتمع المدني، والذي بات اليوم مرتبطاً بتحديات دولة غارقة في الأزمات. ورغم أن بعض مبادرات الإغاثة كانت مدعومة من قبل منظمات إنسانية دولية، فقد تشكلت عدة منظمات محلية للإغاثة على المستوى الداخلي، وذلك كاستجابة ضرورية للثغرات الناتجة عن تداعي الدولة.
أما فيما يخص الصحافيين والناشطين الذين يحاولون التبليغ عن انتهاكات حقوق الإنسان، وتوثيق هذه الفترة القاتمة من تاريخ البلاد، فإنهم يلعبون دوراً مهماً بالقدر ذاته الذي يلعبه باقي أطراف المجتمع المدني بفرعيه الإغاثي والإعلامي، علما أنهم يشتغلون في ظروف شديدة الخطورة، حيث يشكلون هدفاً لكل من يريد استمرار النزاع من دون مراقبة. ومن جهة أخرى، فإن الانقسام الداخلي في إطار مجتمع مدني قليل الخبرة، أدى إلى تقويض النجاح والتقدم الذي سجلته المؤسسات الفردية، والمجتمع المدني ككل.
ولولا الحرب العنيفة التي أشعلت البلاد من الداخل خلال العامين الأخيرين، لكان المجتمع المدني اليمني على الأرجح اليوم قد أحرز تقدماً ملحوظاً، وقدم بذلك نموذجاً تحتذي به الديمقراطيات الناشئة الأخرى، إلا أن هذه الفوضى الحالية التي تسود البلاد أرغمت هذه المنظمات على إغلاق فروعها والتوقف النهائي عن العمل، أو الاشتغال في أحسن الأحوال بأقل الإمكانيات وسط ظروف استثنائية صعبة جداً. ومع أن بعض المنظمات صمدت بشكل لافت من خلال إصرارها، إلا أن المجتمع المدني اليمني قد تعرض لضربة موجعة قضت على عقدين من التقدم والنمو، فأدت بالتالي إلى تقهقره، حيث أدى الثمن غالياً، وسيستمر في تأديته نتيجة هذا النزاع السياسي اليمني، والذي سيرغم البلاد بأكملها على دفع الثمن لأجيال متعاقبة، ولسنوات كثيرة قادمة حتى في فترة ما بعد الأزمة، مادامت مختلف هيئات المجتمع المدني في حاجة إلى سنوات عديدة للنهوض من جديد، والعودة إلى ما كانت عليه سابقاً.
نادية السقاف، هي صحفية ووزيرة الإعلام اليمني سابقاً. وقد أصبحت رئيسة تحرير صحيفة "يمن تايمز" في عام 2005. وقد تم نشر هذه المقالة في الأصل من على موقع "منتدى فكرة".
"منتدى فكرة"