
- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4026
محادثات ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا: خطوة تُقيّد "حزب الله" وتُعزّز الأمن

دعم واشنطن وحلفائها للوساطة السعودية بين دمشق وبيروت في ملف ترسيم الحدود لا يُعزّز فقط السيادة اللبنانية، بل يُمثّل أيضاً فرصة استراتيجية لتقييد نفوذ حزب الله، وضبط الحدود اللبنانية مع إسرائيل.
أعلنت وكالة الأنباء السعودية في 28 آذار/مارس عن توقيع وزيري الدفاع اللبناني والسوري اتفاقاً في جدة بشأن ترسيم الحدود وتعزيز التنسيق الأمني بين البلدين. وجاء ذلك بعد اشتباكات عنيفة اندلعت مطلع آذار/مارس على الحدود بين الجيش السوري ومجموعات مرتبطة بـ"حزب الله ".
هذا الاتفاق لا يُعد ترسيماً مباشراً للحدود، بل يُمثّل خطوة أولى نحو ذلك. فقد اتفق وزير الدفاع اللبناني "ميشال منسى" ونظيره السوري "مرهف أبو قصرة" على تشكيل لجان قانونية وفنية سورية – لبنانية، وتفعيل آليات التنسيق لمواجهة التهديدات الأمنية.
الحدود غير المرسّمة: من الانتداب الفرنسي إلى مسارات تهريب حزب الله
المساعي الدبلوماسية لترسيم الحدود بين لبنان وسوريا ليست وليدة اللحظة، بل تعود إلى سنوات طويلة من التجاهل المتعمد من قبل نظام "بشار الأسد" والحكومات اللبنانية المتعاقبة، منذ ما بعد حرب عام 2006 وحتى اليوم. تعود جذور المشكلة إلى اتفاقية "سايكس بيكو" عام 1916، حيث منحت فرنسا السيطرة على سوريا ولبنان، لكنها رسمت الحدود بطريقة مبهمة وغير مكتملة. تم ترسيم بعض الأجزاء في عام 1934، لكن بقيت أجزاء واسعة غير محددة. ورفض النظام السوري لاحقاً الاعتراف الرسمي بلبنان كدولة مستقلة، واعتبرها جزءاً من "سوريا الكبرى ".
طوال هذه الفترة، كانت الحدود المفتوحة تخدم مصالح "حزب الله" بشكل خاص، إذ وفّرت ممراً لتهريب الأسلحة، والمخدرات، والأموال، والبضائع، لا سيما مع سقوط حليف طهران في دمش وانتهاء دور سوريا كحلقة وصل رئيسية بين إيران والحزب، وإغلاق "الجسر البري" الإيراني. هذا الواقع دفع الحزب إلى تكثيف أنشطته التهريبية، ما أسهم مؤخراً في اندلاع اشتباكات على جانبي الحدود. وفقاً لتقارير موثوقة، هناك حوالي 130 معبراً غير شرعي على طول الحدود، منها 53 معبراً في منطقة البقاع.
وحسب التقارير يُنتج الحزب الكبتاغون في مواقع جنوب سوريا، فيما أعلنت دمشق مؤخراً تفكيك 20 خلية مخدرات (بعضها تابعة لـ"حزب الله"، وأخرى لمخلفات النظام)، و6 خلايا تهريب أسلحة. ومع تفاقم أزمته المالية، من المرجح أن يوسّع الحزب إنتاج الكبتاغون داخل لبنان ويستخدم الحدود السورية كطريق تصدير.
عقب الحرب الأخيرة بين "حزب الله" وإسرائيل، انتُخب رئيس لبناني جديد وشُكّلت حكومة جديدة، تعهّدت بتنفيذ القرارات الدولية، وعلى رأسها القرار 1680 الصادر قبل حرب 2006، والذي يدعو سوريا إلى التجاوب مع طلب لبنان لترسيم الحدود وتبادل العلاقات الدبلوماسية ومنع تهريب الأسلحة.
كما يشير القرار 1701 إلى ضرورة تنفيذ القرار 1680، وبسط سلطة الدولة اللبنانية على كافة أراضيها، وهو أمر ضروري اليوم، ليس فقط لتفادي الاشتباكات الحدودية، بل للحد من قدرة "حزب الله" على إعادة بناء شبكاته العسكرية والمالية. وترسيم الحدود قد يُساهم أيضاً في كبح حركة بقايا النظام السوري من وإلى الداخل اللبناني.
تمتد الحدود اللبنانية – السورية على طول 375 كم (أي ما يعادل 233 ميلاً)، ورغم مرور عقود على قيام الدولتين، لم تُستكمل عملية ترسيم هذه الحدود بعد في مناطق حدودية متداخلة مثل وادي خالد، طفيل، القصير، وحوش السيّد علي، حيث يعيش لبنانيون داخل الأراضي السورية وسوريون داخل الأراضي اللبنانية، ما يعقّد مسألة الترسيم بسبب التداخل الجغرافي والديمغرافي.
ومع ذلك، يبدو أن الظروف الإقليمية اليوم تفرض على الجانبين ضرورة التحرك لمواجهة التحديات الأمنية المشتركة، وعلى رأسها تهديدات "حزب الله" والمجموعات الموالية لإيران. ويُعطي الدعم السعودي لهذه الجهود بُعداً سياسياً مهماً، يُعزّز من فرص التنسيق والمساءلة، ويُضيق هامش المناورة أمام أي طرف يسعى إلى عرقلتها.
مزارع شبعا، "حزب الله"، و"المقاومة "
تُعدّ مزارع شبعا العقبة الأبرز أمام استكمال ترسيم الحدود اللبنانية – السورية، نظراً لتعقيدات وضعها القانوني والسياسي. فقد احتلتها إسرائيل عام 1967، ومنذ ذلك الحين أبقى النظام السوري السابق على غموض متعمد في تحديد هويتها، مدعياً في العلن أنها لبنانية، لكنه امتنع عن تقديم أي اعتراف رسمي بذلك أمام الأمم المتحدة.
وفي شباط/فبراير 2011، وخلال لقائه بالدبلوماسي الأميركي السابق "فريدريك هوف"، صرّح الرئيس "بشار الأسد" بشكل واضح أن مزارع شبعا وتلال كفرشوبا أراض سورية، لا لبنانية.
هذا الغموض الممنهج شكّل الذريعة المثالية التي استخدمها "حزب الله" للاستمرار في سرديته "المقاوِمة"، خاصة بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000. فبقاء مزارع شبعا في المنطقة الرمادية مكّن الحزب من اعتبارها "أراضي لبنانية محتلة"، ما يمنحه مبرراً للاستمرار في التسلّح والتحرّك خارج نطاق الدولة.
إن تسوية قضية شبعا بشكل نهائي ستوجّه ضربة كبيرة إلى شرعية خطاب "حزب الله" المقاوم، وتُقلّص من قدرته على تبرير نشاطاته العابرة للحدود. ولكن ذلك يتطلب أولاً موقفاً سورياً واضحاً يُبلغ الأمم المتحدة بأنها أراضٍ سورية، وإذا لم يعترض لبنان، تُحل المسألة. وسيتطلب ذلك دعماً سعودياً مستمراً لضمان الالتزام وتنفيذ الاتفاقات.
استغلال "حزب الله" للوضع العلوي طائفياً
من بين أخطر تداعيات الحدود غير المضبوطة بين لبنان وسوريا، تسرب العنف الطائفي من الداخل السوري إلى الأراضي اللبنانية. فمع احتدام المواجهات في مناطق الساحل العلوي السوري، تدفق آلاف العلويين السوريين إلى لبنان، ومن المتوقع أن تتزايد الأعداد مع اتساع رقعة التوتر نحو دمشق. وبحسب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، دخل أكثر من 21 ألف لاجئ إلى لبنان خلال شهر آذار/مارس وحده، معظمهم استقروا في شمال البلاد.
لكن لبنان، المُثقل بأزمة اقتصادية حادة ويستضيف أصلاً أعداداً ضخمة من اللاجئين، يواجه صعوبة متزايدة في استيعاب المزيد، سواء من الناحية الإنسانية أو الأمنية. وقد استغل بعض عناصر النظام السوري السابق والميليشيات الموالية له هذا النزوح للتسلل إلى الداخل اللبناني، ما يثير مخاوف جدّية من اندلاع فتنة طائفية، خصوصاً في مناطق حساسة كـ"طرابلس" و"عكار"، حيث يتجاور العلويون والسنّة في بيئة هشّة.
وقد استفاد "حزب الله" من هذا الواقع أيضاً لإعادة التموضع داخل بيئته الشيعية. فبعد الحرب الأخيرة مع إسرائيل، تزايدت انتقادات شيعية للحزب بسبب غياب التعويضات وفشل جهود الإعمار. لكن المجازر الطائفية بحق العلويين على يد القوات السورية، فتحت للحزب نافذة لتحويل الخوف إلى حاضنة دعم.
واستغل إعلام "حزب الله" هذا الواقع لترسيخ رواية مفادها أن لا جهة قادرة على حماية الشيعة سوى الحزب، خاصة بوجود دولة ضعيفة. ولعل الخطر الأكبر في هذا التحوّل يكمن في تهميش مؤسسات الدولة الأمنية، وتعزيز منطق الميليشيات. لذلك، لا يمكن مواجهة هذه الظواهر إلا من خلال فرض سلطة الدولة على الحدود، وتمكين الجيش اللبناني.
توصيات
على الرغم من أن التوصل إلى اتفاق لترسيم الحدود بين لبنان وسوريا يُعد خطوة كبيرة نحو تحسين الوضع الأمني، إلا أن السلطات الجديدة في البلدين ما زالت بحاجة إلى موارد كبيرة ودعم دبلوماسي مكثّف من أجل إتمام هذا الاتفاق، وتطبيقه على الأرض، وفرض السيطرة على الحدود، بما في ذلك الحد من تهريب الأسلحة والعنف الذي يمارسه "حزب الله ".
وفي هذا السياق، ينبغي على المملكة العربية السعودية، بدعم من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أن تسرّع العملية التي بدأت في الاجتماعات الأخيرة، وتكثّف الضغط على الحكومتين اللبنانية والسورية لحل القضايا العالقة، مثل ملف مزارع شبعا والمناطق السكنية المتداخلة.
كذلك، من الضروري أن تلتزم الدولتان بالتنفيذ الكامل لقرارات مجلس الأمن 1680 و1701 و1559، والتي تنص جميعها على ضرورة منع الجماعات المسلحة غير النظامية، وعلى رأسها "حزب الله"، من اختراق الحدود والسيطرة على المناطق الحدودية.
لكن في ظل نقص العناصر البشرية والمعدات والتمويل، لن تتمكن القوات المسلحة اللبنانية من أداء هذه المهمة أو فرض سيادتها الكاملة على الحدود مع سوريا وإسرائيل. لذلك، ينبغي على الولايات المتحدة الاستمرار في دعم الجيش اللبناني، ولكن ضمن إطار واضح من التوقعات، يشمل استعداد المؤسسة العسكرية لاتخاذ الإجراءات اللازمة لتأمين الحدود، حتى وإن تطلّب ذلك مواجهة مباشرة مع "حزب الله ".
وسيكون من المفيد أيضاً أن يواكب هذا الجهد دعمٌ دولي لمبادرات أشد صرامة لضبط الحدود، على غرار المساهمة التي قدّمتها المملكة المتحدة للجيش اللبناني عام 2018. ومن شأن التقدّم في ترسيم الحدود اللبنانية السورية أن يعزّز أيضاً فرص نجاح المفاوضات المرتقبة حول ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، والتي أشارت إليها المبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس الشهر الماضي.
ورغم أن الربط الرسمي بين المسارين ليس شرطاً، إلا أن الترابط بينهما قائم بحكم الواقع؛ إذ لا يمكن تنفيذ القرار 1680 على الحدود اللبنانية السورية بفعالية، من دون المضي في تنفيذ القرارين 1701 و1559 على الحدود اللبنانية الإسرائيلية. وبعبارة أوضح، لا يمكن تأمين حدود لبنان مع إسرائيل بشكل كامل، ما لم تتمكن بيروت من بسط سيادتها على حدودها مع سوريا.
تمت ترجمة هذا المقال في 8 نيسان/أبريل 2025.