- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3988
من 7 أكتوبر إلى وقف إطلاق النار في غزة: شرق أوسط متغير في انتظار إدارة ترامب
تكثر التغييرات الاستراتيجية الهامة في المنطقة، ولكن ينبغي على صانعي السياسات أن يحرصوا على عدم التقليل من شأن استمرار التحديات القائمة أو احتمال ظهور تهديدات جديدة.
ما بين الهجوم الذي شنته حماس على إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر قبل ستة عشر شهراً والاتفاق الأخير لوقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن في غزة، شهدت منطقة الشرق الأوسط تحولات سريعة وهامة في موازين القوى.
ومع ذلك، يجب توخي الحذر قبل الإعلان عن ظهور "شرق أوسط جديد". إذ يُظهر التاريخ أن فترات التفاؤل الأولية بشأن المنطقة غالبًا ما تنتهي بخيبة أمل. فمثلا، سعت انتفاضات الربيع العربي بين عامي 2010 و2011 إلى الإطاحة بالأنظمة الاستبدادية، لكنها شهدت في نهاية المطاف عودة إلى الحكم القمعي (كما في مصر وتونس) وحروب أهلية طويلة الأمد أدت إلى تآكل هياكل الدولة (في سوريا وليبيا واليمن والسودان).
وحتى الآن، لا يزال وقف إطلاق النار في غزة - بؤرة التوترات الأخيرة في المنطقة - هشاً، لكنه صمد أمام عدة اختبارات أولية. ومن هنا، تُعد هذه اللحظة فرصة مهمة لتقييم نطاق التحولات الحقيقية في الشرق الأوسط.
نظام إقليمي متقلب
عادةً ما يُقسَّم الهيكل السياسي الأساسي للشرق الأوسط إلى ثلاث معسكرات رئيسية: معسكر شيعي تقوده إيران، ومعسكر إسلامي سني له جذور في جماعة الإخوان المسلمين، ومعسكر سني معتدل موالٍ للغرب. وعلى الرغم من الاضطرابات الأخيرة، لا تزال هذه الانقسامات على قائمة.
ومع ذلك، شهد العام الماضي تراجعاً ملحوظاً لما يُعرف بـ "محور المقاومة" الذي تقوده إيران. وقد بدأ هذا الاتجاه مع العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد حماس وحزب الله وإيران، وبلغ ذروته بسقوط نظام الأسد في سوريا. ومن اللافت أن الكتلة الإسلامية بقيادة تركيا، وليس الكتلة المعتدلة بقيادة المملكة العربية السعودية، كانت المستفيد الأكبر من هذا التراجع .
الساحات الرئيسية للصراع الإقليمي في عام 2025 وما بعده
من المتوقع أن تكون سوريا الساحة الرئيسية للمنافسة بين هذه المعسكرات في المستقبل. وينبع نفوذ تركيا المتزايد هناك من مخاوف محلية جوهرية تتضمن معالجة التحديات السياسية والأمنية الكردية وتخفيف عبء اللاجئين السوريين. إلا أن أجندتها الإقليمية الأوسع نطاقاً، والتي غالباً ما توصف بـ “العثمانية الجديدة"، لا تزال غير واضحة المعالم. ومع ذلك، فإن الحفاظ على نفوذها في سوريا، عبر دورها القيادي في جهود إعادة الإعمار، يعد أمرًا أساسيًا لطموحاتها في أن تصبح مركزًا إقليميًا للتجارة والنقل والطاقة. كما ستلعب قطر، حليفة تركيا في الكتلة الإسلامية السنية، دورًا مهمًا في هذه الجهود.
ويبقى لبنان ساحة رئيسية للمنافسة أيضًا، لا سيما بين المعسكر الإيراني والمعسكر السني المعتدل بقيادة السعودية. للمرة الأولى منذ عامين، نجح المعسكر المعتدل في تأمين انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة مستقرة في بيروت، بينما تراجعت قدرة إيران على دعم "حزب الله" بسبب فقدانها طريق إمداد الأسلحة إلى سوريا .ومع ذلك، لا يزال حزب الله يحظى بنفوذ كبير في صفوف الشيعة في لبنان، وسيسعى لاستخدام هذه القوة في محاولة لاستعادة نفوذه
وفي الوقت نفسه، أدى اتفاق وقف إطلاق النار الذي أبرمته إسرائيل مع "حزب الله" إلى إضعاف مفهوم "الجبهات الموحدة" الذي يعدّ ركيزة أساسية في استراتيجية إيران الإقليمية. ومع ذلك، يظل الحوثيون اليمنيون وحدهم يمتلكون القدرة على تعطيل التجارة البحرية عبر الطرق الرئيسية، مما يشكل تهديداً أمنياً مستمراً. ومع ذلك، يبقى التحدي محدوداً، حيث أن تأثير الحوثيين الاستراتيجي في الصراع الأوسع على الهيمنة الإقليمية لا يزال ضئيلاً.
ومن ناحية أخرى، فإن موقع الأردن الاستراتيجي سيجعل منه ساحة متنازع عليها بشكل متزايد بالنسبة للمعسكرات الثلاثة. فالمعسكر السنّي الموالي للغرب ينظر إلى عمّان كشريك أساسي في الصراع، في حين يرى المعسكر الإسلاماوي السنّي أن العدد الكبير من السكان الفلسطينيين في المملكة يشكل ورقة ضغط مهمة. والآن بعد أن تم تحجيم المعسكر الشيعي إلى حد كبير في سوريا، سيعمل علي زيادة استخدامه للأردن كمسار لعبور الأسلحة والأموال والخبرات إلى لبنان والضفة الغربية. وفي الوقت نفسه، دعا الرئيس ترامب عمّان إلى قبول اللاجئين الفلسطينيين من غزة، مشيرًا إلى أن المملكة تتلقى قدرًا كبيرًا من المساعدات الأمريكية. وقد تؤدي كل هذه الضغوط الخارجية والصراعات على السلطة إلى تقويض استقرار الأردن.
تأثير التغييرات في القيادة
تثير وفاة زعيم حزب الله حسن نصر الله وزعيم حماس يحيى السنوار تساؤلات حول الدور الذي تلعبه الشخصيات القيادية البارزة في تشكيل الأحداث الإقليمية. وقد تلعب الشخصيات الصاعدة مثل أحمد الشرع في سوريا وجوزيف عون في لبنان أدواراً مهمة في مناطقها. علاوة على ذلك، تراجع نفوذ "حماس" بعد فقدانها شريحة كبيرة من قيادتها السياسية والعسكرية، مما يضع قادتها الجدد أمام خيار الاصطفاف مع المعسكر الإسلامي السني أو الاستمرار في التحالف مع إيران. ومن المرجح أن تحاول الحركة المناورة بين هذين المعسكرين من أجل ضمان بقائها في السلطة في غزة على المدى القصير علاوة على تعزيز نفوذها في الضفة الغربية على المدى الطويل. إيران تبقى نقطة اشتعال محتملة
على افتراض عدم تجدد الصراع بين إسرائيل و"حماس"، فإن أكثر نقطة توتر مزعزعة للاستقرار في المنطقة هي إمكانية اندلاع مواجهة عسكرية بين إسرائيل وإيران، خاصة إذا قررت إسرائيل ضرب المنشآت النووية الإيرانية. وقد أظهر تبادل الضربات بينهما في نيسان/أبريل وتشرين الأول/أكتوبر 2024 استعداد كل من الطرفين للانخراط في أعمال عسكرية مباشرة ضد التهديدات الوجودية المتصورة.
وفي الوقت عينه، يواجه "المرشد الأعلى" علي خامنئي الآن خيارًا حاسماً: إما أن يسعي إلى تحقيق تقدم سريع في برنامج إيران النووي أو يدخل مجددًا في مفاوضات مع الولايات المتحدة . وفى السياق نفسه، قد تطالب الأصوات المتنافسة داخل إيران باستراتيجية أكثر اعتدالاً تهدف إلى تحسين العلاقات مع الغرب ومعالجة الأزمة الاقتصادية المتفاقمة التي تعاني منها البلاد.
التحديات التي تواجه إسرائيل
كما ذُكر أعلاه، يتمثل التحدي الرئيسي لإسرائيل وشركائها في تحييد التهديد النووي الإيراني ومنع طهران من إعادة دعم وكلائها الإقليميين. ولكن هناك تحديات أخرى تلوح في الأفق:
العقبات التي تحول دون التطبيع. على الرغم من توثيق العلاقات بين إسرائيل والكتلة السنية المعتدلة، قد تواجه محاولات تطبيع العلاقات الإسرائيلية- السعودية عقبات كبيرة. فقد زادت حرب غزة من التزام الرياض العلني بالقضية الفلسطينية ورفعت من مطالبها بشأنها..
كما أن سياسات الولايات المتحدة التي يُنظر إليها على أنها منحازة لإسرائيل - مثل السماح بالتوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية، والوجود العسكري خلف خطوط الهدنة في مرتفعات الجولان، وتأخير الانسحاب من جنوب لبنان - يمكن أن يعرقل عملية التطبيع. في نهاية المطاف، ستعتمد الدبلوماسية الناجعة على استعداد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وولي العهد الأمير محمد بن سلمان لتقديم الاستقرار الإقليمي طويل الأمد على المصالح السياسية المحلية.
التحديات من سوريا ما بعد الأسد. حققت إسرائيل مكسبين استراتيجيين هامين من سقوط نظام الأسد، ومن المحتمل أن يستمرا في ظل القيادة السورية الحالية. أولاً، القضاء على آخر جيش نظامي معادٍ على حدود إسرائيل، مع عجز أحمد الشرع عن إعادة بناء قدراته. ثانياً، تراجعت قدرة حزب الله بشكل كبير على تعزيز قوته عبر مسارات التهريب البرية.
ومع ذلك، فإن تغيير النظام لم يقضِ على التهديدات الأخرى القائمة منذ فترة طويلة في سوريا. أبرز هذه التهديدات استمرار نشاط الجماعات الإرهابية المختلفة التي لا تزال تعمل هناك ، بالإضافة إلى احتمال حدوث توتر عسكري جديد بين إسرائيل وتركيا. وعلى الرغم من النهج الحذر الذي يتبعه الشرع حتى الآن، إلا أن التجربة الإقليمية تشير إلى أن قادة المعارضة المتشددة غالبًا ما يفشلون في تحقيق تحول حقيقي نحو الاعتدال بمجرد وصولهم إلى السلطة.
احتمال إعادة تسليح "حزب الله". حققت إسرائيل إنجازات بارزة ضد الحزب خلال العام الماضي بفضل ظروف استثنائية ربما لا تتكرر مرة أخرى. فقد سهّلت الصدمة والشلل الذي أحدثته عملية تفجير أجهزة " البيجر" جهود مكافحة الإرهاب الإسرائيلية في قرى جنوب لبنان دون مقاومة تذكر من الحزب، بل إن وحدة الرضوان النخبوية التابعة للحزب انسحبت كلياً من المنطقة قبل وصول القوات البرية الإسرائيلية. ولكن بعد حرب عام 2006، حالت القيود السياسية اللبنانية وعدم الالتزام الدولي بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 دون إحداث تغييرات حاسمة في الوضع القائم، مما مكّن "حزب الله" من استعادة قوته. وبالتالي، سيكون الدور الأمريكي في مراقبة اتفاق وقف إطلاق النار الجديد عاملاً حاسماً في الحد من جهود الحزب لإعادة التسلح.
ماذا عن الصراع الفلسطيني؟ ربما يكون استشراف مستقبل هذه القضية إحدى المهام الأكثر تعقيدًا على الإطلاق، فبعد السابع من أكتوبر، يعتقد الفلسطينيون أنهم أعادوا قضيتهم إلى دائرة الاهتمام العالمية، ويؤمنون بأنه لن يتم تجاهلهم مجددًا. أما بالنسبة للإسرائيليين، فقد علّمتهم الحرب أن الإرهاب الفلسطيني يشكل تهديداً وجوديًا لا يمكن حله بالوسائل الدبلوماسية. وكلا الشعبين في حالة صدمة مليئة بانعدام الثقة المتبادل، مما يجعلهما مترددين في تقديم تنازلات مؤلمة. وعلى الأرجح، ستظل السنوات القادمة مشحونة بدرجات متفاوتة من الاحتكاك بينهما.
وفي ظل هذه الظروف، سيتمثل التحدي الرئيسي لإدارة ترامب على المدى الطويل في إيجاد مسار نحو تسوية سياسية تحافظ على إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية. أما على المدى القريب، فسيتعين على المسؤولين الأمريكيين التعامل مع استمرار حالة عدم اليقين بشأن غزة - وهو أمر ناجم جزئياً عن رفض إسرائيل تحديد رؤية واضحة لدولة نهائية محددة المعالم، من شأنها أن تسهّل تعاون الجهات الفاعلة الدولية والإقليمية بشكل أكثر فعالية.
توقعات القوة العظمى
سلّطت حرب غزة الضوء على الدور الحاسم الذي لا تزال تلعبه الولايات المتحدة في تشكيل مستقبل المنطقة، حيث تراجع النفوذ الروسي نتيجة للخسائر العسكرية التي مُنيت بها روسيا في سوريا وأوكرانيا. ومع ذلك، لا يزال الحضور الاقتصادي والتكنولوجي للصين مستقراً، بل قد ينمو، خاصة مع دول الخليج. وبالفعل، يمكن لسياسات ترامب في مجال الطاقة أن تدفع هذه الدول إلى التقارب مع بكين، التي تُعد مستوردًا مستقرًا للطاقة. كما أن تقدّم الصين في مجال الذكاء الاصطناعي قد يعزز من مكانتها الإقليمية بشكل أكبر. ومع تلاشي التهديد الروسي المباشر، لا تزال دول الخليج حذرة من استعداء بكين، مما يؤثر على قراراتها الاستراتيجية بشأن العلاقات مع الولايات المتحدة وإيران وإسرائيل.