- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
مرة أخرى، قصة الأطفال الرضّع الفلسطينيين تستحق اعتذار صحيفة واشنطن بوست
Also published in "تايمز أوف إسرائيل"
إن القصة المؤثرة حول العثور على أطفال متحللين في أحد مستشفيات غزة مليئة بالفجوات المثيرة للقلق، والتناقضات، وتضارب المصالح التي كان ينبغي أن تثير تساؤلات جدية في الصحيفة.
ينتظر العالم بأمل وترقب إعلان "وقف مؤقت لإطلاق النار" في الحرب بين "حماس" وإسرائيل، يتضمن إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين وإتاحة الفرصة لتدفق كميات كبيرة من السلع الإنسانية إلى قطاع غزة الذي دمّرته الحرب. وكما تبيّن من الهدنة السابقة الذي دامت أسبوعاً في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 2023، سيتيح وقف إطلاق النار للصحفيين أيضاً فرصة التجول في جميع أنحاء غزة ونقل القصص المتعددة التي لم يتمكنوا من تغطيتها خلال احتدام القتال. وفي الواقع، خلال تلك الهدنة والأيام التي تلتها، برز كم هائل من القصص لسد فجوات التغطية في الأسابيع الستة السابقة من القتال.
قبل نشر تلك القصص الجديدة، من المهم التمعّن في أحد هذه المقالات من الهدنة الأخيرة. نُشرت هذه القصة في صحيفة "واشنطن بوست" في وقت متأخر من يوم 2 كانون الأول/ديسمبر وتم تحديثها في اليوم التالي، وهي قصة مؤثرة عما حدث قبل ثلاثة أسابيع من ذلك التاريخ لمجموعة من الأطفال الرضّع الفلسطينيين في وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة في "مستشفى النصر" للأطفال في مدينة غزة عندما اضطر موظفو المنشأة والمرضى إلى إخلائها في 10 تشرين الثاني/نوفمبر، وهي قصة مؤثرة جداً لدرجة أنها تصدرت عناوين الأخبار في جميع أنحاء العالم.
كتب المقال المؤلف من 1368 كلمة الصحفيون ميريام برجر وإيفان هيل وحازم بعلوشة، وهو في الواقع مزيج من ثلاث قصص مترابطة. القصة الأولى هي الجدل الدائر بين المتحدثين باسم الجيش الإسرائيلي و"اللجنة الدولية للصليب الأحمر" ومدراء المستشفى حول ما إذا كان الموظفون قد حصلوا على وعود بأن إسرائيل ستوفر سيارات إسعاف لحماية المرضى ونقلهم عندما أمر الجيش بإخلاء "مستشفى النصر" و "مستشفى الرنتيسي" المجاور. القصة الثانية هي قصة ممرض لم يُذكر اسمه في "مستشفى النصر"، اضطر إلى اتخاذ قرار رهيب واختيار أي من الأطفال الخدج سيأخذ معه وأي منهم سيتركهم هناك على أجهزة التنفس الاصطناعي. أما القصة الثالثة فهي الاكتشاف الصادم لجثث الأطفال المتحللة من قبل صحفي مقدام بعد أسبوعين، وهي لا تزال متصلة بالآلات بعد أن نهشتها الكلاب وغطتها الحشرات.
تصور القصة، المنسوجة ضمن رواية واحدة، الإسرائيليين على أنهم بلا رحمة وظالمين فيما يتعلق بمحنة الأطفال الفلسطينيين. وفي المقابل، تواجه الشخصية الفلسطينية الرئيسية في القصة، أي الممرض الذي استُهل المقال بالمأزق الذي يواجهه، قراراً صعباً يفطر القلب حول الأطفال الرضّع الذين سيعيشون وأولئك الذين سيتركهم لمواجهة الموت شبه المحتم. فلا عجب في أن القصة التي تحمل عنوان "الهجوم الإسرائيلي أجبر ممرضاً على ترك أطفال رضّع لمصيرهم، ليتم العثور لاحقاً على جثثهم المتحللة"، أثارت آلاف التعليقات وتناولتها الكثير من وكالات الأنباء.
وكما تبين، كانت هذه القصة الثانية التي تنشرها صحيفة "واشنطن بوست" ضمن فترة وجيزة والتي تركز على محنة الأطفال الرضّع الفلسطينيين. ففي 17 تشرين الثاني/نوفمبر، نشرت "الواشنطن بوست" مقالاً على صفحتها الأولى يزعم وجود سياسة إسرائيلية تهدف إلى فصل الأمهات الفلسطينيات من غزة عن أطفالهنّ الخدج حديثي الولادة في المستشفيات الإسرائيلية ومستشفيات الضفة الغربية. وفي الأسابيع التي تلت ذلك، حددت أنا (وآخرون) الكثير من الأخطاء الفادحة في تلك المقالة. وفي نهاية المطاف، في 28 كانون الأول/ديسمبر 2023، اعترفت صحيفة "واشنطن بوست" رسمياً بأن المقال "لا يفي بمعايير الإنصاف الخاصة بالصحيفة" وأصدرت نسخة محدثة تضم "ملاحظة تحرير" تمهيدية من 230 كلمة.
قبل أن يستغل صحفيو "واشنطن بوست" وقف إطلاق النار المؤقت المرجو ليستلحقوا ما فاتهم من تغطية منذ الهدنة الأخيرة، من المفيد التمعّن في قصة "الرضّع ذوي الجثث المتحللة". عند التدقيق فيها عن كثب، نجد أن النتائج صادمة. من وجهة نظري، لا تقل الانتهاكات الصحفية الواردة في هذا المقال خطورة، عن تلك الواردة في قصة "فصل الأمهات عن أطفالهنّ الرضّع"، وربما هي أسوأ من هذه الأخيرة، وتشمل:
• الاعتماد المفرط على مصادر مجهولة
• الاقتباس الانتقائي من المقابلات
• عدم وجود أدلة على الادعاءات الرئيسية
• تجاهل التناقضات والأدلة المتضاربة
• والتشديد على السرعة على حساب الدقة.
لا بد أيضاً من التوقف عند انتهاك إضافي، وهو تضارب المصالح. باعتراف صحيفة "واشنطن بوست"، بعد الفعل، كان رابط شخصي يجمع بين أحد كاتبي المقال وشخصية رئيسية في القصة منذ فترة طويلة وقد تم إخفاؤه عن محرري الصحيفة، مما أثار مخاوف بشأن تضارب محتمل في المصالح لم يتم الكشف عنه مسبقاً.
يبين كل ذلك بوضوح حيثيات هذه القصة. وكما سيتضح، لا يمكن استبعاد تفسيرات تدين الصحيفة أكثر بعد.
خلاصة القول هي أن المقال يجسد حالة استغلال لثقة القراء الذين يتوقعون من صحيفة بمكانة "واشنطن بوست" أن تسلط الضوء على جميع هذه المشاكل. وفي الواقع، تشكل كل واحدة منها حالة نموذجية لما يجب على الصحفيين تجنبه وما يجب على المحررين منعه. وكما سنرى، قدّم المقال رواية مختلفة تماماً عن النسخة الأكثر اتزاناً بكثير والأقل ميلودرامية من تلك التي عرضتها شبكة "سي إن إن" مثلاً. ونظراً للتأثير العاطفي للقصص المتعلقة بالأطفال الرضّع، لا سيما في خضم نزاع جيّش العواطف وأثار غضباً بقدر ما أثارته الحرب بين إسرائيل و"حماس"، من المهم بشكل خاص إدانة هذه الانتهاكات الصحفية، حتى بعد مرور أشهر على وقوعها.
منذ البداية، بدت قصة "الواشنطن بوست" عن الجثث المتحللة للأطفال الرضّع الذين تُركوا في وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة في "مستشفى النصر" للأطفال غريبة نوعاً ما. بطبيعة الحال، لا يمكن للمرء إلا التأثر بشدة بالمصير الرهيب الذي لاقاه الأطفال الرضّع الفلسطينيون الأبرياء مثل غيرهم من المدنيين في زمن الحرب. ولكن تماماً على غرار القصة السابقة عن الأطفال الفلسطينيين الخدج في المستشفيات الإسرائيلية، استندت هذه القصة أيضاً إلى مصادر مجهولة، وفي هذه الحالة إلى ممرض واحد لم يُذكر اسمه كان مرتبطاً، وفقاً للمقال، بمجموعة المساعدة الطبية "أطباء بلا حدود".
في معرض وصف الأحداث التي شهدها المستشفى في ذلك اليوم المشؤوم، يشير المقال إلى أن "الأطباء رفضوا مغادرة المنشأة من دون مرضاهم"، ولكن يبدو أن ذلك لم يسرِ على الأطفال الرضّع بما أنه لم يتم ذكر أي طبيب على أنه مسؤول عن الأطفال الرضّع أو معني بقرار اختيار أي من الأطفال الرضع سيتم إجلاؤهم، لا طبيب أطفال ولا اختصاصي في وحدة العناية المركزة ولا مدير المستشفى. ومن الواضح أن الشخص الأخير الذي كان مسؤولاً عن الأطفال الرضّع هو ممرض لم تكشف صحيفة "واشنطن بوست" عن هويته لا خوفاً من الانتقام (وهو الادعاء غير المدعوم بأدلة الذي قدمته مصادر غير مسماة في قصة الأطفال الخدج الأخرى) بل "لحماية خصوصيته" فحسب.
من المستغرب أنه لم يتبقَ على ما يبدو أي شخص آخر في المستشفى ليؤكد قصة الممرض، لا طبيب ولا مساعد تمريض ولا ممرض آخر. بالإضافة إلى ذلك، لم يتم الاستشهاد بأي شخص ليؤكد ما تبقى من رواية الممرض، وهي أنه خرج سيراً على الأقدام مع الرضيع وأفراد عائلته للتوجه جنوباً إلى خان يونس، وأنه في مرحلة ما سلم الرضيع إلى سائق سيارة إسعاف، وأن سيارة الإسعاف نقلت الطفل إلى مستشفى الشفاء، الذي يقع على مسافة أقل من ثلاثة كيلومترات من "مستشفى النصر"، وأن الرضيع كان في مستشفى الشفاء عندما "داهم" الإسرائيليون تلك المنشأة بعد عدة أيام. في الواقع، لا تزال هوية ومصير الرضيع الذي تتمحور حوله هذه القصة، وكذلك سائق سيارة الإسعاف الذي يُزعم أنه نقل الرضيع إلى مستشفى الشفاء، مجهولَين.
وكما تبين، لم تكن صحيفة "واشنطن بوست" وسيلة الإعلام الأولى التي تروي قصة ما حدث في وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة في 10 تشرين الثاني/نوفمبر، أي في اليوم الذي تم فيه إخلاء "مستشفى النصر" للأطفال. وفي الواقع، تم تقديم شهادتين مباشرتَين على الأقل عن تلك الأحداث، من قبل ممرضَين وصفا أنفسهما بأنهما مرتبطان بمنظمة "أطباء بلا حدود".
عُرضت إحدى هاتين الشهادتين في مقابلة أجريت بتاريخ 10 تشرين الثاني/نوفمبر ونشرتها منظمة "أطباء بلا حدود" بذاتها في بودكاست في 29 تشرين الثاني/نوفمبر. وتتضمن هذه النسخة تطوراً لافتاً لم يرد في قصة صحيفة "واشنطن بوست". ففي هذه المقابلة، أدلى الممرض الذي لم يذكر اسمه، والذي لجأ بطبيعة الحال مع عائلته إلى "مستشفى النصر" وتطوع أثناء تواجده فيه لمساعدة الفريق الطبي، بتصريح صادم: "إن معدات العناية المركزة المخصصة للأطفال الرضع الذين نجوا بفضل أجهزة التنفس الاصطناعي توقفت عن العمل. لم يعد هناك أكسجين". وفي وقت لاحق في المقابلة، قال إنه عندما تم الاتفاق أخيراً على تفاصيل الإخلاء، بقي "خمسة مرضى" على أجهزة التنفس الاصطناعي وإنه أخذ طفلاً واحداً، وسلمه لاحقاً إلى سائق سيارة إسعاف لينقله إلى مستشفى الشفاء.
انطلاقاً من هذا التصريح، يمكن الاستنتاج أن الأكسجين كان قد نفد في وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة حتى قبل اكتمال عملية الإخلاء. فقد تُرك الأطفال متصلين بأجهزة التنفس الاصطناعي، ولكن من غير الواضح على الإطلاق ما إذا كانوا على قيد الحياة عندما غادر الطاقم المستشفى أخيراً. ولا بد هنا من إعادة التذكير بأنه من الواضح أن هذا الممرض كان آخر من رأى الأطفال الرضع.
ثم هناك شهادة ثانية متداولة على الإنترنت، تعود أيضاً لتاريخ 10 تشرين الثاني/نوفمبر، وقد أدلى بها أيضاً ممرض تابع لمنظمة "أطباء بلا حدود" ويقول فيها أيضاً إنه كان في "مستشفى النصر" للأطفال في يوم الإخلاء المشؤوم. ولكن هذا التصريح المصور يختلف من جانبَين رئيسيَين عن ذلك الآنف ذكره، إذ ذكر أولاً اسم هذا الممرض، فادي أبو رياله، وروى فيه ثانياً الممرض قصة مختلفة تماماً. فأبو رياله أشار إلى أن الأطفال الرضع تُركوا في وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة، إلا أنه قال على وجه التحديد: "لم نتمكن من اصطحاب أي مريض معنا"، ما يتناقض مع الموضوع الرئيسي لقصة "الواشنطن بوست" حول إنقاذ ممرض لأحد الأطفال الرضع.
هل كان هناك ممرضان من منظمة "أطباء بلا حدود" في "مستشفى النصر" للأطفال؟ كلا، على ما يبدو. فوفقاً لهذا المقطع المهم من تقرير إخباري صدر عن شبكة "إن بي سي نيوز" حول قصة "مستشفى النصر" في 2 كانون الأول/ديسمبر، أي في اليوم ذاته الذي نُشر فيه مقال "واشنطن بوست": "أكد ممثل عن منظمة «أطباء بلا حدود» أنه في حين أن «مستشفى النصر» للأطفال ليس منشأة مدعومة من المنظمة «أطباء بلا حدود»، إلّا أنه كان لدى المنظمة ممرض واحد «هناك بصفته الشخصية» في وقت إخلاء المستشفى".
الجملة الأساسية هي "ممرض واحد". هل كان هذا فادي أبو رياله؟ إذا كان هو الممرض الوحيد التابع لمنظمة "أطباء بلا حدود" المتواجد في ذلك المكان وذلك الوقت، يمكن القول إن قصة صحيفة "واشنطن بوست" تشوبها شائبة كبيرة، بما أن أبو رياله دحض على وجه التحديد فكرة إنقاذ أي طفل رضيع من وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة (تم تكرار هذا الاقتباس، المنسوب بالاسم إلى أبو رياله، في هذا التقرير الصادر عن شبكة "سي إن إن" بتاريخ 13 تشرين الثاني/نوفمبر. في الواقع، يفيد مقال "سي إن إن" أن أقوال أبو رياله تنشرها فعلياً منظمة "أطباء بلا حدود").
إذا كان هناك ممرض واحد فقط، فالأدلة المتاحة متناقضة بطبيعتها، إذ لا يمكن للشهادة المصورة التي أدلى بها ممرض ذُكر اسمه ومزاعم الممرض الذي لم يتم الكشف عن اسمه، والمذكورة في بودكاست "أطباء بلا حدود"، أن يكونا كلاهما صحيحين. وفي هذه الحالة، لا يبقى أمامنا سوى ثلاثة خيارات:
• الممرض هو أبو رياله، الذي أخفى في البداية حقيقة أنه قد أنقذ طفلاً، ليعود ويغير قصته فيما بعد عندما تحدث مع صحفيي "واشنطن بوست". وفي هذه الحالة، سيكون تغيير الموقف المفاجئ هذا بمثابة صفعة قوية لمصداقيته ومبرراً لطلبه من الصحيفة عدم الكشف عن هويته؛
• الممرض كان شخصاً آخراً وأبو رياله لم يكن صادقاً في شهادته الأصلية المصورة بشأن تواجده في وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة أثناء عملية الإخلاء؛
• أو أن قصة "الرضيع الذي تم إنقاذه" كانت ملفقة بالكامل.
لنفترض للحظة أنه كان هناك فعلاً ممرض ثانٍ تابع لمنظمة "أطباء بلا حدود" في وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة بـ "مستشفى النصر" حاول فعلاً إنقاذ أحد الأطفال، كما زعمت قصة "الواشنطن بوست". وفي الواقع، إن أفضل تفسير لتقرير هذه الصحيفة هو أن صحفييها لم يسمعوا قط بأبو رياله أو يشاهدوا شهادته المصورة. وفي المقابل، إن أفضل السيناريوهات هو أنهم استمعوا إلى بودكاست منظمة "أطباء بلا حدود"، واتصلوا بالمنظمة وتواصلوا مع الممرض الذي لم يذكر اسمه، والذي وافق على التعاون مع الصحيفة بعد وعد بعدم الكشف عن هويته.
لكن لو استمع صحفيو "واشنطن بوست" إلى البودكاست فقط، لكانوا قد علموا أيضاً أن وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة قد نفد منها الأكسجين قبل عملية الإخلاء. لكن الانطباع الواضح من نسخة الصحيفة من القصة هو أن الأطفال الرضع كانوا على قيد الحياة عندما اختار الممرض واحداً منهم لينقذه، مما يعني أن أفضل سيناريو بالنسبة للصحيفة هو أنها تجاهلت شهادة رئيسية في تقريرها.
وحتى في الفرضية غير المرجحة التي تفيد بوجود ممرضَين تابعين لمنظمة "أطباء بلا حدود" في وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة في ذلك اليوم، يكاد ينعدم احتمال عدم اطلاع صحفيي "واشنطن بوست" إطلاقاً على فيديو أبو رياله. ففي نهاية المطاف، تم تداوله على نطاق واسع على تويتر، وكما سبقت الإشارة، تم الاستشهاد به حتى في قصة نشرتها شبكة "سي إن إن" في 13 تشرين الثاني/نوفمبر. وعلى أقل تقدير، من واجب صحفيي "واشنطن بوست" تجاه القراء التصدي لمزاعم أبو رياله المصوّرة بأن محور مقالهم، أي إنقاذ ممرض لرضيع من وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة، كان خاطئاً.
ومن ثم هناك تناقض في عدد الرضع المتوفين في المستشفى. فوفقاً للصحيفة، قال الممرض الذي لم يُذكر اسمه إنه اختار واحداً من خمسة لإنقاذه، تاركاً الأربعة الآخرين لمصيرهم. لكن "المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان"، الذي دعا إلى إجراء تحقيق دولي في وفاة الرضع، أفاد عن وفاة خمسة رضع وليس أربعة. وما يزيد المسألة غموضاً هو تقرير شبكة "إن بي سي نيوز" الذي تضمن إشارات إلى كل من الدكتور مصطفى الكحلوت، مدير المستشفى، الذي قال إن خمسة أطفال رضع تُركوا لمصيرهم، وإلى الممرض الذي لم يُذكر اسمه والذي قال إنه أخذ طفلاً واحداً وترك الأربعة الآخرين. ولم تَحسم شبكة "إن بي سي" هذا الجدل في قصتها، وتركت التناقض قائماً من دون توضيح.
ما هو عدد الأطفال الرضّع الذين تُركوا في وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة؟ هل كان هناك أكسجين في أجهزة التنفس عندما غادر الطاقم المستشفى؟ هل كان الأطفال الرضّع متوفين أصلاً في وقت الإخلاء؟ هل كان الأطفال الأحياء متصلين بأجهزة التنفس لإبقائهم على قيد الحياة أو تم وصل جثثهم بأجهزة التنفس الاصطناعي للإيحاء بأنهم ماتوا بسبب لامبالاة إسرائيل وقساوتها، وليس بسبب ظروف الحرب المأساوية؟ هل أنقذ الممرض الذي لم يُذكر اسمه طفلاً من "مستشفى النصر" فعلاً؟ الإجابة المعقولة الوحيدة على كل هذه الأسئلة هي "لا نعلم".
كانت شبكة "سي إن إن" الوسيلة الإخبارية الأقرب إلى تصوير حالة الغموض المحيطة بالقصة بصراحة وصدق. ففي 8 كانون الأول/ديسمبر، بعد ستة أيام من انتشار قصة "واشنطن بوست" على الإنترنت، أصدرت شبكة "سي إن إن" مقالاً كتبه خمسة صحفيين جاء فيه من بين أمور أخرى ما يلي: "لا تزال حالة أولئك الذين تُركوا على قيد الحياة، سواء عند بلوغ القتال المستشفى أو في وقت الإخلاء، مجهولة" و"من غير الواضح ما إذا كانت أسطوانات الأكسجين، التي شوهدت إلى جانب بعض الأسرّة في الفيديو من المستشفى، تعمل أم أنها فارغة". كما علقت شبكة "سي إن إن" على قصة الممرض الذي لم يُذكر اسمه، بشأن اصطحاب أحد الرضع، على النحو الآتي: "قال إنه تمكن من أخذ طفل رضيع واحد معه أثناء هروبه وسلمه إلى سيارة إسعاف متوجهة إلى مستشفى الشفاء. لكن أربعة أطفال تُركوا لمصيرهم في وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة وفقاً للممرض، مما يتناقض مع العدد الذي قدمه [مدير المستشفى] الكحلوت".
ولم يتضمن مقال "واشنطن بوست" أي من ضبابية الحرب هذه. فالقصة التي قدمتها الصحيفة كانت قاطعة، بالأبيض والأسود، وذلك حتى قبل أن يصبح الأمر أكثر تعقيداً مع الجزء الثالث من المقال، أي اكتشاف جثث الأطفال.
وبعد أسبوعين من تسليم الممرض الذي لم يُذكر اسمه الطفل لسائق سيارة الإسعاف، صودف وجود مراسل لقناة "المشهد" الإخبارية التي تتخذ من دبي مقراً لها في مدينة غزة، يُدعى محمد بعلوشة. ووفقاً لصحيفة "واشنطن بوست"، يُزعم أنه كان يتنقل بين الأنقاض خلال فترة الهدنة التي استمرت أسبوعاً بين إسرائيل و"حماس" من أجل إطلاق سراح الرهائن مقابل تحرير الأسرى، وذلك لإعداد تقرير عن الجثث التي لم يطالب بها أحد، عندما التقى صدفة ببعض السكان المحليين الذين لم تذكر أسماؤهم والذين أخبروه أن "القصة الأكثر تأثيراً" هي قضية جثث الأطفال الرضع المتحللة المتروكة في جناح الأطفال في "مستشفى النصر" للأطفال.
قال بعلوشة في وقت لاحق لصحفيي "واشنطن بوست"، كما لو أنه كان رجل في مهمة، إنه أفلت بعد ذلك من الجنود الإسرائيليين الذين قطعوا الطرق المؤدية إلى المستشفى و"القفز من جدار إلى جدار" لبلوغ المبنى الرئيسي وشق طريقه إلى وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة. وبالنسبة لبعلوشة، كان البث اللاحق لهذه القصة في 27 تشرين الثاني/نوفمبر بمثابة إنجاز صحفي. فقصته المصورة عن الأطفال الرضّع المتوفين، الذين تم تشويش صورتهم احتراماً لذكراهم، كانت مرعبة ومؤثرة (في حادثة مأساوية لا علاقة لها بقصة "مستشفى النصر"، أصيب بعلوشة بطلق ناري في منتصف كانون الأول/ديسمبر).
بعلوشة... بعلوشة... يبدو هذا الاسم مألوفاً، وذلك لأن هذه القصة مرتبطة ببعلوشة آخر، هو حازم بعلوشة، أحد صحفيي "واشنطن بوست" الثلاثة الذين شاركوا في كتابة القصة (ساهم صحافي رابع في إعداد التقرير من القاهرة). وتصف السيرة الذاتية لبعلوشة في صحيفة "واشنطن بوست" هذا الأخير بأنه "صحفي متميز مقيم في غزة ويتمتع بخبرة تزيد عن عقدين من الزمن في مجال تغطية الأمن والسياسة والثقافة في قطاع غزة والضفة الغربية". وهو أيضاً مراسل صحفي يعمل منذ فترة طويلة لصحيفة "ذي غارديان" و"دويتشه فيله"، وفي تقرير له شهد فيه شخصياً معاناة عائلته أثناء الحرب، نُشر على موقع "دويتشه فيله" الإلكتروني في 16 تشرين الثاني/نوفمبر، أوضح أنه غادر غزة إلى مصر في 3 تشرين الثاني/نوفمبر، ثم انتقل إلى عمّان، الأردن.
وبالتالي، عندما وقعت أحداث "مستشفى النصر" للأطفال في 10 تشرين الثاني/نوفمبر، كان بعلوشة قد غادر غزة. في الواقع، يبدو أن أياً من الصحفيين الذين نقلوا القصة لم يكن في غزة آنذاك. عند إعداد هذه القصة المدوية والبارزة، يبدو أنه لم يكن لدى صحيفة "واشنطن بوست" أحد على الأرض. وهذا يعني أنه كان عليها الاعتماد على التقارير التي يتم إعدادها عن بعد، أي الاستماع إلى البودكاست ومشاهدة مقاطع فيديو على الإنترنت والتحدث مع جهات اتصال في غزة. ويزيد ذلك من احتمالية أن تكون "واشنطن بوست" قد وجدت الممرض الذي تتمحور حوله هذه القصة من خلال شهادته عبر الإنترنت، الأمر الذي لا يؤدي سوى إلى تأكيد التناقضات المذكورة سابقاً.
وعلى الرغم من هذه التناقضات، تُعتبر نسخة صحيفة "واشنطن بوست" عما حدث في ذلك اليوم الرهيب في "مستشفى النصر" للأطفال واضحة المعالم. فقد وجد بعلوشة (حازم)، انطلاقاً من مقرّه الجديد في عمّان، مع زملائه في الصحيفة، الممرض الذي لم يُذكر اسمه والذي يمثل الشخصية الرئيسية في الشق المتعلق بـ"من سيعيش ومن سيموت" من هذه القصة، بينما عثر بعلوشة آخر (محمد) على جثث الأطفال المتحللة. في الواقع، يرتبط هذان الجزءان من القصة ببعضهما البعض في النهاية، بما أن القصة تشير إلى أن "واشنطن بوست" اعتمدت على الممرض الذي لم يُذكر اسمه لتأكيد صحة مقطع الفيديو الخاص بمحمد.
هل هناك شخصان من عائلة بعلوشة معنيان بالقصة؟ هل كانا يعرفان بعضهما بعضاً؟ هل تجمعهما أي علاقة قربة؟ إن ذلك مستحيل. تضطلع صحيفة "واشنطن بوست" بالمسؤولية الرسمية التي تقضي بالإشارة إلى أي صلة بين المراسل وأحد الشخصيات الرئيسية في القصة. إذا كان هناك صلة بين الشخصين المذكورين من عائلة بعلوشة وعلمت صحيفة "واشنطن بوست" بها ولم تفصح عنها، تكون قد خرقت إحدى أهم القواعد الأساسية لأخلاقيات الصحافة، مرتكبةً انتهاكاً فاضحاً جداً نظراً للطبيعة الحساسة والمثيرة للجدل والبارزة للقصة.
أمضيتُ ثلاثة أشهر لإجراء الأبحاث للإجابة على هذه الأسئلة، وأصبحتُ الآن مقتنعاً بأن الإجابة هي نعم: حازم ومحمد كانا يعرفان بعضهما بعضاً قبل هذه القصة. وتُظهر أدلة موثقة أنهما كانا على اتصال مباشر. وقد تجمعهما حتى علاقة قربة.
بعلوشة ليس اسماً غير مألوف بين الفلسطينيين، ولكنه ليس بأي حال من الأحوال شديد الشيوع بين الفلسطينيين. فهذه العائلة، التي تنحدر في الأصل من قرية المجدل الفلسطينية التي أصحبت مدمرة اليوم، أيدت تاريخياً وبشدة حركة "فتح" القومية بزعامة ياسر عرفات. وفي الواقع، لم يكن حازم بعلوشة، مراسل صحيفة "واشنطن بوست"، يزاول مهنة الصحافة دائماً. فوفقاً لصفحته الخاصة على موقع "لينكد إن"، شغل في الفترة الممتدة من نيسان/إبريل 2004 حتى أيار/مايو 2006 منصب "رئيس العلاقات العامة للجنة الانتخابات المركزية الفلسطينية" في غزة، وهو منصب مهم في التسلسل الهرمي للسلطة الفلسطينية بقيادة "فتح". ولم يعد حازم إلى عمله كصحفي إلا بعد فوز "حماس" في الانتخابات التشريعية عام 2006.
استغربتُ من ارتباط شخصين من عائلة بعلوشة بالقصة ذاتها، فقمت أبحث عن أي روابط قد تجمعهما. ومنذ حوالي ستة أسابيع، أبلغني وسيط أن مصدراً في الإمارات العربية المتحدة أكد أنهما نسيبَين. وبعد ذلك، خلال زيارتي الضفة الغربية في منتصف شباط/فبراير، أكد لي مصدر ثانٍ يتمتع بسمعة حسنة، بشكل مستقل، أنهما نسيبَين.
ولكن حتى ولو أخبرني مصدران عن الصلة العائلية بين محمد وحازم، لما كنتُ قد اتهمتُ صحيفة "واشنطن بوست" بانتهاك قاعدة أساسية من قواعد أخلاقيات الصحافة من دون المعلومات التالية: في 17 حزيران/يونيو 2015، اعتقلت "حماس" حازم لفترة وجيزة في غزة، ظاهرياً لأن النظام الإسلامي لم يعجبه مقالاً كان قد كتبه لصحيفة "ذي غارديان". وتُظهر مراجعة منشورات حازم على فيسبوك في اليوم ذاته أنه تلقى رسالة مواساة ودعم من محمد نفسه، صحفي قناة "المشهد" (تضمنت رسالة محمد الواردة في الرابط ما يلي: "معلش، فاهمين الدنيا غلط. كل عام وانتا في كل وقت بألف خير". ويُشار إلى أن صورة محمد على فيسبوك هي نفسها التي تظهر على حسابه حتى تاريخ كتابة هذه السطور).
يشكل ذلك دليلاً دامغاً على أن الصحافي وشخصية رئيسية في القصة يعرفان بعضهما بعضاً. ويبدو أنهما نسيبان وكانا على اتصال مباشر. لكن الصحيفة لم تذكر ذلك في مقالها. لماذا؟
هناك احتمالان: إما أن محرري صحيفة "واشنطن بوست" علموا بهذه العلاقة واعتبروا أنها لا تشكل تضارباً خطيراً في المصالح يجب الإفصاح عنه لقرائهم، أو أن حازم لم يُطلع محرريه على هذه العلاقة وتم نشر القصة من دون علم المحررين بالعلاقة بين الشخصين من عائلة بعلوشة، أحدهما الصحفي والآخر موضوع القصة.
وفقاً لصحيفة "واشنطن بوست"، الجواب هو الفرضية الثانية. لقد طرحتُ السؤال على الجهات المختصة في الصحيفة وتلقيتُ هذا الرد من متحدث رسمي باسم الصحيفة: "عند نشر المقال، لم تكن صحيفة "واشنطن بوست" على علم بأن حازم بعلوشة ومحمد بعلوشة يعرفان بعضهما بعضاً على الصعيد المهني كصحفييْن عملا في مرحلة معينة في غزة، ولسنا على علم بأي تضارب في المصالح ناتج من ذلك في معرض إعداد المقال".
يطرح هذا التفسير بذاته السؤال التالي: هل سأل محررو "واشنطن بوست" حازم بعلوشة ما إذا كانت له أي علاقة سابقة بمحمد بعلوشة وأخفى حازم علاقتهما؟ أم أن الصحيفة لم تطرح على حازم أصلاً هذا السؤال؟ يُعد كل من الخيارين إشكالياً. فإذا أخفى حازم علاقتهما، يثير ذلك احتمال أنه لم يكن صادقاً بشأن جوانب أخرى من القصة، مثل ربما ادعاء الممرض الذي لم يُذكر اسمه بأنه أنقذ رضيعاً. وإذا لم تستفسر الصحيفة حتى عن وجود صلة، فهذا دليل آخر على عدم مبالاة الصحيفة بجميع الشكوك والتناقضات التي تنشأ من القراءة الدقيقة لهذه الواقعة.
إليكم خلاصة القول: في 10 تشرين الثاني/نوفمبر، وقعت مأساة مروعة في "مستشفى النصر" للأطفال في مدينة غزة، وهي وفاة عدداً من الأطفال الرضع. باستثناء ذلك، لا نعرف سوى تفاصيل قليلة جداً، إذ لا نعلم فعلاً متى توفوا، أو كيف توفوا، أو ما هو عدد الأطفال الذين توفوا، أو من المسؤول عن وفاتهم، لو كان من الممكن فعلاً تجنيبهم هذا المصير.
هذه ليست نسخة صحيفة "واشنطن بوست" من القصة. فالتفسير الأكثر تفصيلاً لنسخة الصحيفة هو أن الصحفيين، في استعجالهم لنشر قصة أحدثت ضجة كبيرة، انتقوا أجزاء من رواية الممرض الذي لم يُذكر اسمه، تتناسب مع مفهوم معين حول كيفية سرد القصة. على وجه التحديد، بدأت صحيفة "واشنطن بوست" بسرد قصة مفجعة، ولكن غير مؤكدة على الإطلاق، عن ممرض لم يُذكر اسمه وهو ينقذ رضيعاً لم يُذكر اسمه ثم يسلمه إلى سائق سيارة إسعاف لم يُذكر اسمه والذي يُزعم أنه أعطى الرضيع إلى طبيب لم يُذكر اسمه في مستشفى الشفاء.
وبدلاً من تخصيص بضعة أيام إضافية لتعقب الشهود، وتأكيد المزاعم، وتوضيح الشهادات المتضاربة، والتوصل إلى نتيجة أكثر اتزاناً على غرار تقرير "سي إن إن"، تجنب صحفيو "واشنطن بوست" ببساطة التعامل مع جميع التباينات وأوجه الاختلافات. ويتضمن ذلك تناقضات في شهادة البودكاست التي قدمها الممرض الذي لم يُذكر اسمه أو القصة المختلفة تماماً التي رواها أبو رياله وأكد فيها بشكل قاطع أنه لم يتم إخراج أي مريض من وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة. فالشكوك المحيطة بعدد الرضع المتوفين وحالتهم عند إخلاء المستشفى ومستوى إمدادات الأكسجين لم تستدعِ أي مناقشة على الإطلاق.
ولا يمكن تجاهل احتمال وجود تفسير أكثر خطورة بعد، تكون فيه قصة الممرض مجهول الهوية الذي اتخذ الخيار الرهيب المتمثل بإنقاذ أحد الأطفال الرضع الخمسة، برمتها من نسج الخيال. في هذا السيناريو، إن قصة "الطفل الرضيع الذي تم إنقاذه" ملفقة، وتهدف ربما إلى إبراز الجانب العاطفي للقصة المريعة أصلاً حول الأطفال الرضّع ذوي الجثث المتحللة. والواقع أن اعتبار قصة "الطفل الرضيع الذي تم إنقاذه" قصة خيالية هو الطريقة الأكثر منطقية لحل مختلف التباينات والاختلافات.
أضف إلى ذلك هناك احتمال بأن يكون حازم بعلوشة قد أخفى عن محرريه حقيقة علاقته بمحمد بعلوشة، فلهذا تصبح هذه الفرضية أكثر ترجيحاً بعد. ويساهم ذلك في توضيح أن هذه القصة لمَ تشكل واحدة من قصتين فقط من بين تقارير "واشنطن بوست" كافة عن الحرب بين "حماس" وإسرائيل، بما فيها مئات المقالات التي تعود إلى 7 تشرين الأول/أكتوبر، لم يُكشف فيها عن هوية الشخصية الرئيسية من منطلق "الخصوصية". ومن المثير للاهتمام أن الحالة الأخرى المشابهة الوحيدة كانت مقالاً نشره حازم بعلوشة نفسه في 3 كانون الأول/ديسمبر... (من بين المرات الكثيرة التي لم تكشف فيها صحيفة "واشنطن بوست" عن هوية المصدر في تغطيتها للحرب، تبرز على ما يبدو عشر مناسبات أخرى بررت فيها الصحيفة عدم الكشف عن الهوية بحجة "الخصوصية"، وذلك لحماية خصوصية شخصية ثانوية لا يلاحَظ اقتباسها الوارد في مقال طويل. ومن المثير للاهتمام أنه في جميع هذه المناسبات العشر، كان من بين الصحفيين المشاركين في الإعداد ميريام برجر، إحدى الصحفيين الثلاثة الذين عملوا على قصة "الأطفال الرضع ذوي الجثث المتحللة").
فضلاً عن ذلك، لا يمكن استبعاد احتمال أن يكون اكتشاف محمد بعلوشة للأطفال الرضع ذوي الجثث المتحللة بناءً على اقتراح المارة المتعاونين في مدينة غزة ملفقاً أيضاً. فمقال صحيفة "واشنطن بوست" يدفع القراء إلى الاعتقاد بأن قصة الأطفال الرضع الذين تُركوا في وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة في "مستشفى النصر" لم تكن معروفة على نطاق واسع. لكن شهادة فادي أبو رياله المصورة كانت متوفرة على "تويتر" و"تلغرام" منذ 10 تشرين الثاني/نوفمبر، وكما هو مذكور في تقرير شبكة "سي إن إن" بتاريخ 13 تشرين الثاني/نوفمبر المذكور أعلاه، كانت منظمة "أطباء بلا حدود" تنشر تعليقاته على مدى أسبوعين قبل أن يكتشف محمد بعلوشة بالصدفة القصة وهو يتجول في شوارع مدينة غزة المدمرة من جراء القصف.
هل شاهد حازم فيديو أبو رياله ثم أبلغ نسيبه، الذي كان في المنطقة أثناء هدنة تشرين الثاني/نوفمبر وكانت بحوزته كاميرا؟ هل شاهد شخص آخر الفيديو ونقل المعلومات إلى محمد؟ هل شاهد محمد الفيديو بنفسه؟ إن الاستشهاد بأي من تلك التفسيرات المحتملة لاكتشاف محمد للأطفال الرضع ذوي الجثث المتحللة، بدلاً من تلقي هذه المعلومة بالصدفة عن طريق المارة، كان سيتطلب من صحيفة "واشنطن بوست" أن تأخذ في الاعتبار تفاصيل رواية أبو رياله، وتحديداً تأكيده أن موظفي المستشفى لم يتمكنوا من أخذ أي من الأطفال الرضع معهم أثناء عملية الإخلاء، الأمر الذي كان ليقوض فحوى قصة "واشنطن بوست". وبما أن كل ما لدينا هو رواية محمد، من دون أي تأكيد من قبل المارة في مدينة غزة، فلا يمكن استبعاد أي من هذه السيناريوهات البديلة.
إذا نظرنا في هذه الأمور مجتمعةً، نجد أن هذا المقال يكشف سلسلة من الأخطاء المهنية الجسيمة التي ارتكبتها صحيفة "واشنطن بوست" وصحفيوها ومحرروها على حد سواء. إذا حرصنا على معاينة هذه الأخطاء من أبسط منظور، نجد ما يكفي من الأدلة الدامغة. أما الواقع، بما في ذلك إمكانية التلفيق، فقد يكون أسوأ بكثير.
ما الذي حصل في وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة في "مستشفى النصر" يوم 10 تشرين الثاني/نوفمبر؟ للأسف، لا نعلم. لكن صحيفة "واشنطن بوست" حاولت فرض "حقيقة" واضحة على موقف غامض تكتنفه التصريحات غير المؤكدة والشهادات المتضاربة. في أحسن الأحوال، ينبغي النظر إلى التقارير الصحفية الحربية على أنها المسودة الأولى للتاريخ، ولكن في هذا المقال، قدمت صحيفة "واشنطن بوست" روايتها بشأن قصة غامضة ومعقدة على أنها الكلمة الأخيرة. بطبيعة الحال، لا يعفي ذلك إسرائيل من دورها في المأساة، إلا أنه لا يستوجب كذلك الإدانة الحزينة والعاطفية لإسرائيل من قبل الممرض الذي لم يُذكر اسمه والتي وردت في السطر الأخير من القصة على النحو الآتي: "لمَ استهدف الجيش [الأطفال الرضع]؟"
قبل أن يستغل صحفيو "واشنطن بوست" وقف إطلاق النار المؤقت المرجو للبحث عن قصص جديدة لم يتمكنوا من سردها خلال الأشهر الثلاثة الماضية من القتال في غزة، يجب عليهم حل مسألة عالقة من الهدنة الأخيرة. بعبارة أخرى، التراجع بالكامل عن قصة "الأطفال الرضع ذوي الجثث المتحللة" والتقدم باعتذار من قراء الصحيفة.
بالإضافة إلى ذلك: لتوضيح بعض هذه الانتهاكات المتعلقة بإعداد التقارير والتحرير، إليكم مقتطفات ذات صلة من السياسات والمعايير الرسمية لصحيفة "واشنطن بوست":
تضارب المصالح
تتعهد هذه المؤسسة الإخبارية بتجنب تضارب المصالح أو ظهور تضارب في المصالح حيثما وكلما أمكن ذلك.
الإنصاف
يلتزم مراسلو صحيفة "واشنطن بوست" ومحرروها بمبدأ الإنصاف. ففي حين أن الحجج المتعلقة بالموضوعية لا تنتهي، إلّا أن الإنصاف يُعتبر مفهوماً يمكن للمحررين والمراسلين فهمه وتطبيقه بسهولة. وينتج الإنصاف من بعض الممارسات البسيطة، إذ لا تكون القصة عادلة إذا أغفلت حقائق ذات أهمية أو رمزية كبرى. فالإنصاف يشمل تقديم صورة مكتملة.
لا تكون القصة عادلة إذا كانت تضلل القارئ أو تخدعه حتى عن قصد أو عن غير قصد. يتضمن الإنصاف الصدق، مما يقتضي مصارحة القارئ.
السياسة المتعلقة بالمصادر
تلتزم صحيفة "واشنطن بوست" بالكشف لقرائها عن مصادر المعلومات الواردة في قصصها إلى أقصى حد ممكن. نريد أن نجعل تقاريرنا شفافة بقدر الإمكان للقراء حتى يعرفوا كيف وأين حصلنا على معلوماتنا. الشفافية تقتضي الصدق والإنصاف، وهما قيمتان نتمسّك بهما.
المصادر السرية
كثيراً ما تصر المصادر على أن نوافق على عدم ذكر أسمائهم قبل موافقتهم على التحدث معنا. ونحن نتردد في تلبية رغبتهم هذه. فعندما نستخدم مصدراً من دون ذكر اسمه، نطلب من قرائنا اتخاذ خطوة إضافية لكي يثقوا في مصداقية المعلومات التي نقدمها. يجب أن نكون على يقين في أذهاننا أن الفائدة التي تعود على القراء تضاهي التكلفة المترتبة على المصداقية.
وفي بعض الظروف، لن يكون أمامنا خيار سوى منح السرية للمصادر. فنحن ندرك أنه يمكننا في بعض المواقف تقديم معلومات أفضل وأوفى لقرائنا من خلال السماح للمصادر بعدم الكشف عن هويتها، مقارنةً بإصرارنا على كشفها. نحن ندرك أنه في الكثير من الظروف، لن ترغب المصادر في الكشف لنا عن معلومات حول الفساد في مؤسساتها، أو خلافات رفيعة المستوى حول السياسات، على سبيل المثال، إذا كان الكشف عن هوياتها قد يكلفها وظائفها أو يعرضها للأذى. مع ذلك، لا ينبغي أن يتم منح السرية لمصدر معين بشكل عرضي أو تلقائي.
تُفضَل المصادر التي يمكن الكشف عن أسمائها إلى حد كبير على المصادر التي يتعذر الكشف عن أسمائها. يجب على الصحفيين الضغط من أجل تسجيل تصريحات المصادر. لقد تعلمنا على مر السنين أن الضغط المستمر على المصادر للتعريف عن نفسها ينجح فعلياً، ليس دائماً بالطبع، ولكن أكثر مما قد يتوقعه الكثيرون من الصحفيين في البداية. وإذا رفض مصدر معين السماح لنا بالكشف عن هويته أو هويتها، يجب على الصحفي التفكير في البحث عن المعلومات في مكان آخر.
يتعين على المحررين معرفة هوية المصادر المجهولة المستخدمة في قصة معينة، لكي يتمكن المحررون والصحفيون من تقييم مدى ملاءمة استخدامها بشكل مشترك. وقد تصر بعض المصادر على ألا يكشف الصحفي عن هويتها لمحرريه، لكن يجب أن نرفض ذلك. وعندما يحدث ذلك، يجب على الصحفي أن يوضح أنه لا يمكن نشر المعلومات التي يتم الحصول عليها على هذا النحو. سيكون مصدر أي قصة يتم نشرها معروفاً من قبل محرر واحد على الأقل.
نفضل وجود مصدرين على الأقل للمعلومات المتعلقة بالوقائع في قصص الصحيفة التي تعتمد على مخبرين سريين، ويجب أن تكون تلك المصادر مستقلة عن بعضها البعض. نفضل المصادر التي لديها معرفة مباشرة بالمعلومات. يمكن أن تكون وثيقة ذات صلة في بعض الأحيان بمثابة مصدر ثانٍ. وفي بعض الحالات، ننشر معلومات من مصدر واحد، ولكن يجب ألا نفعل ذلك إلا بعد مداولات تشمل المحرر التنفيذي ومدير التحرير ورئيس القسم المختص. ويعتمد قرار استخدام مصدر واحد على موثوقية المصدر وأساس معلومات المصدر.
يجب أن نسعى جاهدين لنفسر لقرائنا بقدر الإمكان لماذا تستحق مصادرنا التي لا يتم الكشف عن هويتها ثقتنا. فواجبنا هو خدمة القراء، وليس المصادر. يعني ذلك تجنب نسب المعلومات إلى "مصادر" أو "مصادر مطلعة". بدلاً من ذلك، يجب أن نحاول أن نقدم للقارئ المزيد، مثل "المصادر المطلعة على النهج الذي يعتمده محامو الدفاع في القضية المطروحة" أو "المصادر التي تكون بحكم عملها على اتصال بالسلطة التنفيذية للمقاطعة" أو "مصادر من بين موظفي الحاكم الذين لا يوافقون على سياسته".
نسب المعلومات
يجب أن يكون القراء قادرين على التمييز بين ما رآه الصحفي وما حصل عليه من مصادر أخرى مثل وكالات الأنباء، والمجموعات المختارة من المراسلين، والبريد الإلكتروني، والمواقع الإلكترونية، وما إلى ذلك.
نحن نعطي قيمة كبيرة للتقارير الأصلية. نتوقع من صحفيي "واشنطن بوست" الاطلاع مباشرةً على أكبر قدر ممكن من القصة التي ينقلونها والتحدث مع أكبر عدد ممكن من المعنيين. ويجب على الصحفيين أن يأخذوا في الاعتبار مزايا إعداد التقارير انطلاقاً من مسرح الأحداث التي يقومون بتغطيتها كلما أمكن ذلك.
إذا لم يكن الصحفي حاضراً في مشهد موصوف في القصة، يجب توضيح ذلك في القصة. فالتصريحات التي تفيد بوقوع حدث معين فعلياً على الرغم من أن الصحفي لم يشاهده شخصياً يجب أن تُنسب إلى أصحابها، وبالتالي، لا بد من أن تتضمن سردية وصف الحدث كما رواه لنا الشهود، نسب المعلومات. وإذا قمنا بإعادة بناء التصريحات أو الأحاديث بين الأشخاص انطلاقاً مما يتذكره هؤلاء الأشخاص أو الشهود الذين سمعوهم يتحدثون، يجب علينا أن ننسب تلك المعلومات التي يتذكرونها إلى أصحابها بشفافية. وإذا لم تكونوا واثقين من كيفية تطبيق هذه المبادئ التوجيهية في موقف معين، ناقشوا ذلك مع المحررين لديكم.
روبرت ساتلوف هو "المدير التنفيذي - زمالة سيغال" و "رئيس كرسي «هوارد بي بيركوفيتش» لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط" في معهد واشنطن. وتم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع "تايمز أوف إسرائيل".