- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3248
مصالح روسيا المتنامية في ليبيا
يُعامل الكرملين ليبيا حالياً بصورة علنية كنقطة مركزية أخرى لأنشطته في الشرق الأوسط. فبعد سنوات من الإهمال الأمريكي، تحوّلت هذه البلاد إلى ساحة حرب بالوكالة، ويتنافس الرئيس فلاديمير بوتين بلهفة ليصبح صانع القرار الرئيسي. ففي وقتٍ سابق من هذا الشهر، حاول دفع خليفة حفتر إلى توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار في موسكو مع رئيس الوزراء فايز السرّاج رئيس "حكومة الوفاق الوطني" المعترف بها من قبل الأمم المتحدة (لكنه فشل في ذلك). كما شارك بوتين في مؤتمر برلين الذي انعقد في 19 كانون الثاني/ يناير بهدف إعادة توجيه الأطراف نحو الحل السياسي. ومع أنّ احتمالات هذا الاتفاق لا تزال غير مؤكدة، إلّا أن تدخّل موسكو في ليبيا سيستمر في كلا الحالتَين.
طموحات "قوة عظمى" في الموانئ والطاقة
تاريخياً، كان الدخول إلى موانئ المياه الدافئة في شرق البحر الأبيض المتوسط ذا أهمية كبرى بالنسبة للحكّام الروس كجزءٍ من جهدهم لجعل البلاد جهة فاعلة من "القوى العظمى" في السياسة الأوروبية. فخلال "مؤتمر بوتسدام" عام 1945، حاول جوزيف ستالين دون جدوى أخذ الوصاية على إقليم طرابلس في ليبيا. وعلى الرغم من تلك المحاولة الفاشلة، برزت ليبيا كعميل أسلحة مهمّ للاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية. وفي سبعينيات القرن الماضي، انفتح الديكتاتور معمّر القذّافي أكثر فأكثر على موسكو، التي وفّرت آلاف العناصر وكميّات هائلة من المعدّات العسكرية لتعزيز أنشطته، بما فيها بناء قواعد صاروخية أفضل.
إن كفاح الحالة المتعادلة مع الغرب بشأن تحديد المواقع الجيوستراتيجية والحصول على موارد الطاقة والموانئ يستمر في توجيه تفكير الكرملين اليوم. فقد بدأ بوتين بإعادة إحياء العلاقات مع ليبيا بعد فترة وجيزة من توليه منصب الرئيس في عام 2000، وتحسّنت هذه العلاقات بشكلٍ ملحوظ بعد لقائه مع القذّافي في طرابلس عام 2008. وبعد فترة وجيزة، ألغت موسكو معظم ديون ليبيا البالغة حوالي 5 مليارات دولار مقابل عقود تركزت على النفط والغاز والأسلحة والسكك الحديدية. كما منح القذّافي للأسطول الروسي إمكانية الوصول إلى ميناء بنغازي.
بيد، إن الحملة بقيادة حلف "الناتو" في ليبيا عام 2011، كلّفت روسيا مكانتها بعد ان كانت قد دخلت منذ فترة طويلة إلى ليبيا وأنفقت مليارات الدولارات على العقود. إلا أن أكثر ما أفزع موسكو هو موت القذّافي المروّع والسابقة التي اعتبرها الكرملين "ثورةً ملوّنةً" بقيادة الولايات المتحدة. وفي عام 2012، بدأ بوتين جهداً متضافراً لاستعادة إمكانية الدخول إلى ليبيا، وفي الوقت نفسه توسيع القدرات البحرية الروسية بشكلٍ عام. وفي أيار/ مايو 2013، أي قبل عامَين من تدخّله في سوريا، أعلن بوتين عن قوة عمل روسية دائمة في البحر المتوسط.
وإذا تمكنت موسكو من تعزيز مكانتها في ليبيا على المدى الطويل، فسوف تكسب نفوذاً ملحوظاً على أوروبا ويُتاح لها الدخول أكثر فأكثر إلى الشرق الأوسط وأفريقيا. وسيكون ميناءا طبرق ودرنة العميقان في ليبيا مفيدَين للقوة البحرية الروسية من الناحيتين اللوجستية والجيوستراتيجية، لاسيّما بالاقتران مع طرطوس في سوريا. وستشكّل الاستفادة القصوى من موارد الطاقة الواسعة في البلاد إنجازاً بارزاً آخر يمكن أن يفتخر به بوتين.
لعبة بوتين في ليبيا
في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أخبر مصدرٌ مطّلع على العلاقة بين حفتر وموسكو إحدى وسائل الإعلام الروسية المستقلة "ميدوسا" ما يلي: "كان يهمّنا حينئذٍ [أي عام 2015 تقريباً] عدم وجود عناوين رئيسية مثل ’روسيا تواصل التوسع في الشرق الأوسط: ليبيا هي التالية بعد سوريا‘". إلا أن العلامات التي تدلّ على تبلور هذا السيناريو بالضبط كانت كثيرة.
ووفقاً لبعض التقارير، تَواصل حفتر مع موسكو للحصول على الدعم عام 2015 تقريباً. وفي المقابل، وعدَ بمنح روسيا اتفاقات الطاقة وإمكانية دخول الموانئ التي طمحت إليها. فقبِلَ بوتين العرض وبدأ يوفّر إلى حكومة حفتر في طبرق المشورة العسكرية، والدعم الدبلوماسي في الأمم المتحدة، وحتّى أموالها الخاصة المطبوعة. ومن جهته، قام القائد بعدة رحلات إلى موسكو منذ عام 2016. وفي كانون الثاني/ يناير 2017، دُعي للقيام بجولة على متن حاملة الطائرات الروسية الوحيدة في طريق عودتها إلى الوطن من المياه السورية؛ ويعتقد بعض المراقبين أنه وعد موسكو بإعطائها إمكانية دخول إضافية خلال هذه الرحلة. وفي ذلك العام نفسه، نقلت موسكو جواً العشرات من جنود حفتر الجرحى إلى روسيا لتلقّي العلاج. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، زار حفتر موسكو مجدداً.
وخلال هذه الفترة نفسها، بدأت التقارير الصحفية تظهر حول التواجد المتزايد للمدرّبين الروس والجماعات العسكرية الخاصة الغامضة الروسية في ليبيا، وكان ذلك غالباً لحماية أصول النفط وتقديم المشورة. ومؤخّراً، ذكرت صحيفة "موسكو تايمز" في وقتٍ سابقٍ من هذا الشهر أنّ المقاولين الروس الذين يحاربون في ليبيا وسوريا تلقّوا العلاج في مستشفى مرموق في موسكو يملكه أفراد مقرّبون من بوتين، من بينهم ابنته. وعلى صعيد الطاقة، بدأ مشروع ليبي وروسي مشترك للنفط والغاز بالعمليات في بنغازي في نيسان/ أبريل الماضي.
وفي حين تميل موسكو بشدّة نحو حفتر، إلا أنها أقامت روابط أيضاً مع حكومة السرّاج. ويتماشى هذا النهج المزدوج مع استراتيجية بوتين الإقليمية، التي تستلزم إقامة اتصالات مع جميع الجهات الفاعلة الرئيسية من أجل وضع نفسه كصانع قرار. وقد ساهم رفض حفتر التخلي عن جنسيّته الأمريكية وسمعته كشريكٍ صعب بشكلٍ عام في مقاربة موسكو المزدوجة أيضاً. ومن جانبها، انتقدت الجماعات العسكرية الخاصة الروسية مؤخراً هذا اللواء؛ وفي الوقت نفسه، أجرت هذه الشركات حملة علاقات عامة بالنيابة عن أحد خصومه المحليين، وهو ابن القذّافي سيف الإسلام، سعياً لتعزيز صورته العام الماضي في سياق حملةٍ سياسية ليبيّة.
استخدام نموذج الجماعات العسكرية الخاصة للوصول إلى الهدف
شكّل الاعتماد المتزايد على الجماعات العسكرية الخاصة كأداةٍ للسياسة الخارجية سمةً مميّزة لاستراتيجية بوتين في العديد من المجالات. فخلال الأسابيع القليلة الماضية، أرسلت روسيا مئات من هؤلاء المرتزقة إلى ليبيا، على الأرجح عبر خطوط "أجنحة الشام للطيران" من دمشق إلى بنغازي. ووفقاً لبعض التقارير ظهروا في "قاعدة الجفرة الجويّة"، من بين مواقع أخرى.
وفيما يتعلّق بالقدرات المحددة، تشمل هذه القوّات القناصة الذين تسبّب وجودهم على الخطوط الأمامية بارتفاع عدد الإصابات في صفوف قوات "حكومة الوفاق الوطني". ومن المرجح أن تكون موسكو قد زوّدتهم بقدرات تشويش الطائرات المسيّرة بدون طيّار. ووفقاً لوكالة "رويترز"، تعتقد القوات العسكرية الأمريكية أن الجماعات العسكرية الخاصة أو الجهات الموالية لحفتر استخدمت أنظمة الدفاع الجويّة الروسية لإسقاط طائرة أمريكية بدون طيّار، ربّما عن طريق الخطأ، خارج طرابلس في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي. وفي ذلك الشهر، أكّد الموالون لحفتر أنهم أسقطوا طائرة إيطالية بدون طيّار. ومع ذلك، فإن القدرة على تشغيل نظام دفاع جوّي روسي تتطلّب مهارات عالية لا تتمتع بها الكثير من الجماعات العسكرية الخاصة، لذلك تشير هذه الحوادث إلى مستوى من التطوّر ينمو بسرعة على أرض الواقع، وتثير تساؤلات حول المدى الكامل للوجود الروسي هناك.
وتطرح الجماعات العسكرية الخاصة الروسية أيضاً مشاكل أوسع نطاقاً. ومن هذه المشاكل أنّ سلوكها لا يلائم التعاريف العسكرية الغربية النموذجية. وتتداخل أنشطتها بين المقاولين والمرتزقة والفئات الأخرى - ولا يوجد فصلٍ واضح بين الجيش والقطاع الخاص كما يرى المرء في الغرب. ولا يوجد أيضاً أي سياسات واضحة أو إطار قانوني واضح لأعمال موسكو؛ وتقنياً، تُعتبر الجماعات العسكرية الخاصة غير قانونية حتى بموجب القانون الروسي. وما أن تتوصّل موسكو إلى اتفاقاتٍ حول التعاون الاقتصادي أو العسكري في بلدٍ معيّن، فعندئذ يكون لديها سبب مشروع لإرسال العناصر إلى هناك، لتوفير الأمن للشركات التي تتولى استخراج الموارد على سبيل المثال. ويمنح ذلك موسكو موطئ قدم، لكن يمكنها - وغالباً ما تفعل ذلك - الانخراط في أنشطة أخرى لتوسيع نفوذها في البلد المعني وتغيير ميزان القوى الإقليمي.
يجب على المرء أيضاً أن يضع في اعتباره أنّ الجماعات العسكرية الخاصة الروسية ليست خاضعة لسيطرة بوتين بشكلٍ كامل - فيمكن أن تختلف مصالح مختلف الرفاق وأولئك القلة في دائرته عن مصالحه الخاصة، لأنهم مهتمون بشكل رئيسي بالمال. فعلى سبيل المثال، يركّز يفغيني بريجوزين، الذي يملك شركة "فاغنر" العسكرية الخاصة، على موارد الطاقة الليبية بشكلٍ أساسي، وفقاً للمحلل العسكري الروسي ألكسندر غولتس. ويضيف هذا العنصر طبقة من التعقيد إلى التدخّل الروسي، على الرغم من أنّ بوتين سيستمرّ على الأرجح في فعل ما بوسعه لضمان تعزيز الجماعات العسكرية الخاصة في ليبيا لأهداف سياسته الخارجية الأوسع نطاقاً.
الخاتمة
خلال مؤتمر برلين، أكدت الصحافة التي يسيطر عليها الكرملين على مكانة بوتين كصانع قرار في ليبيا، حيث قامت بنشر صور للقادة الأوروبيين المتجمعين حوله كما لو كانوا يعوّلون عليه لتلقّي التوجيه. وفي الواقع، تبقى قدرة موسكو على التأثير على حفتر موضع شك. ومع ذلك، يمكن أن تستفيد موسكو من العملية الدبلوماسية دون تحقيق تقدّمٍ حقيقي.
أوّلاً، إن مشاركتها في محادثات السلام تعزز صورة بوتين، لا سيّما في ظل غياب دور أمريكي أكبر. ثانياً، إن موسكو معتادة جداً على التخبّط في النزاعات التي لم يتم حلها في البلدان الأخرى بينما تؤمّن موطئ قدم لها وتتمكّن من الوصول إلى الموارد - أو تمنع الآخرين (أوروبا بشكل رئيسي) من هذه الإمكانية. وثالثاً، تسعى إلى خلق اعتماد على الكرملين، وهي استراتيجية تشمل استخدام احتمال تدفّق اللاجئين من ليبيا وعبرها كوسيلة ضغط على أوروبا. وتُعتبر هذه الجهود - وليس الحل الحقيقي للنزاعات - موطن قوة موسكو.
بالإضافة إلى ذلك، في أي وقتٍ تتوقف فيه ليبيا عن إنتاج النفط، سترتفع الأسعار العالمية، مما يعود بالفائدة على الكرملين. وبالفعل، ارتفعت أسعار النفط مؤخراً إلى 65 دولاراً للبرميل الواحد، ويُعزى ذلك جزئياً إلى قيام حفتر بإيقاف الإنتاج عشية محادثات برلين.
وأعاد المؤتمر أيضاً التأكيد على الالتزام الدولي بحظر الأسلحة على ليبيا. ومع ذلك، من الصعب التصديق بأنّ مثل هذه الإعلانات ستمنع روسيا أو الجهات الفاعلة الأخرى من إرسال الأسلحة إلى حلفائها المحليين هناك.
أخيراً، قد يكسب بوتين بفضل مكانته في ليبيا وسوريا تأثيراً إضافياً على تركيا. فإذا اشتدّت عدائية أنقرة في ليبيا كثيراً، فبإمكانه الضغط عليها في سوريا، مما يثير احتمال زيادة الارتباط بين الأنشطة الروسية على كلا الجبهتَين في الأشهر المقبلة.
باختصار، تستفيد موسكو من البقاء ببساطة في ليبيا ومن تأمين دخولها عبر الجماعات العسكرية الخاصة. لذا يجب أن تبحث الولايات المتحدة وحلفاؤها عن سبلٍ لكبح أنشطة هذه الجماعات الروسية. وفي النهاية، فإن واشنطن هي الوحيدة التي لديها نفوذ كاف للتوصل إلى حلٍّ حقيقي للنزاع الليبي الأخير.
آنا بورشفسكايا هي زميلة أقدم في معهد واشنطن ومؤلفة دراسته الأخيرة التي صدرت عام 2019 بعنوان "تحول المشهد: الدور العسكري لروسيا في الشرق الأوسط".