- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3994
مستجدات المرحلة الانتقالية في سوريا بعد شهرين
على الرغْم من أن الاستقرار النسبي الذي حققته الحكومة الجديدة في سوريا يُعَدّ إنجاز اً محدوداً، لا تزل هناك حاجة ملحّة إلى مزيد من التفاصيل بشأن تطوير وتنفيذ حوار وطني، وصياغة دستور جديد، ووضع إجراءات شاملة.
بعد مرور شهرين على الإطاحة بنظام بشار الأسد، يستعد المسؤولون السوريون لعقد مؤتمر دولي موسّع في باريس هذا الأسبوع، لمناقشة مسار الانتقال السياسي وإعادة إعمار بلادهم. ولفهم الواقع الراهن بصورة دقيقة، ينبغي على صنّاع القرار الأجانب التركيز على عدد من القضايا الرئيسة، التي تشمل مكافحة الإرهاب، ومساءلة مرتكبي الجرائم في نظام الأسد، ومستقبل "حزب الله" والشبكات المحلية المرتبطة بإيران، وبرنامج الأسلحة الكيميائية السوري، والترتيبات الحدودية مع إسرائيل، وضمان شمولية العملية السياسية.
المرحلة الانتقالية
في البداية، أعلن الرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع (المعروف أيضًا باسم أبو محمد الجولاني)، الذي كان سابقًا رئيسًا لـ "هيئة تحرير الشام "،عن تعيين محمد البشير رئيسًا لحكومة تصريف الأعمال، والمقرر أن تستمر حتى الأول من آذار/مارس ، كما أكد أن حوارًا وطنيًا سيُعقد لوضع معايير لدستور جديد، إلا أن هذا الحوار تأجَّل عدة مرات بسبب مشكلات لوجستية وتنظيمية.
وفي التاسع والعشرين من كانون الثاني/يناير، ألقى الشرع وعدد من القادة العسكريين ما وُصف بأنها سلسلة من خطابات النصر حول مستقبل سوريا. وكان أبرزها الخطاب الذي ألقاه العقيد حسن عبد الغني، المتحدث باسم إدارة العمليات العسكرية في الهيئة، حيث أعلن عن حل جميع المؤسسات المرتبطة بالنظام السابق، بما في ذلك دستور 2012، ومجلس الشعب، و"حزب البعث"، فضلاً عن تفكيك جميع الفصائل الثورية، سواء العسكرية أو السياسية أو المدنية، على أن تُدمج ضمن مؤسسات الدولة الجديدة. ويترتب على ذلك أيضًا أن "هيئة تحرير الشام" لم تعد كيانًا رسميًا. ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح كيف سيتم تنفيذ هذا القرار، ولا سيما فيما يتعلق بالفصائل غير التابعة للهيئة. والأهم من ذلك، أعلن عبد الغني أن الشرع سيتولى الرئاسة خلال المرحلة التالية من الفترة الانتقالية، مع تكليفه بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت، يتولى مهامه حتى صياغة دستور دائم. يُضفي هذا الإعلان الطابع الرسمي على الوضع القائم بحكم الأمر الواقع منذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر، حيث أصبحت بقايا الهيئة وحلفاؤها يتحملون المسؤولية الكاملة عن إدارة البلاد.
وفي الثلاثين من كانون الثاني/يناير، تابع الشرع بخطاب خاص به، حيث صرّح قائلاً: "سنعمل على تشكيل حكومة انتقالية شاملة، تعبّر عن تنوع سوريا برجالها ونسائها وشبابها، وستتولى مسؤولية بناء مؤسسات الدولة الجديدة حتى نصل إلى مرحلة الانتخابات الحرة والنزيهة." وكانت هذه هي المرة الأولى التي يُلمح فيها إلى إمكانية إجراء انتخابات ديمقراطية.كما أشار الشرع إلى عزمه الإعلان عن لجان تحضيرية لاختيار مجلس تشريعي مصغّر للمرحلة الانتقالية، والتخطيط لمؤتمر الحوار الوطني كما صرّح بأنه سيُعلن تشكيل لجان تحضيرية لاختيار مجلس تشريعي صغير للمرحلة الانتقالية والتخطيط لمؤتمر الحوار الوطني. وفي وقت سابق من اليوم نفسه، أعلن عن تشكيل لجنة تحضيرية للحوار الوطني مكوّنة من سبعة أعضاء، دون تحديد جدول زمني لإنهاء أعمالها. ومن المتوقع أن يفضي هذا المسار إلى إصدار إعلان دستوري، يشكّل المرجعية القانونية لبقية المرحلة الانتقالية، التي قد تمتد، وفقًا لما ذكره الشرع، من ثلاث إلى خمس سنوات.
وبإيجاز، تبدو الحكومة الجديدة وكأنها قطعت شوطًا كبيرًا في رسم معالم المرحلة الانتقالية الأولية. ومع ذلك، لا تزال تصريحاتها العلنية حول هذه القضايا تفتقر إلى التفاصيل، مما يجعل من الصعب تقييم مسار العملية بشكل واضح. ويثير هذا الغموض قلق العديد من العواصم الأجنبية التي تتابع عن كثب مدى نجاح المرحلة الانتقالية في سوريا.
إعادة تعزيز السيطرة المحلية
حدد خطاب الشرع أيضاً أولويات المرحلة المقبلة: (1) تحقيق السلم الأهلي وملاحقة مجرمي النظام السابق؛ (2) استكمال توحيد الأراضي السورية كافة ؛ (3) بناء مؤسسات دولة قوية قائمة على الكفاءة والجدارة؛ (4) إرساء أسس اقتصاد قوي. وفي جميع هذه المجالات، تمكنت الحكومة الجديدة، بشكل عام، من دفع البلاد في الاتجاه الصحيح. فقد حققت سوريا ما بعد الأسد مستوى من السلم الأهلي يتجاوز بكثير توقعات العديد من المراقبين قبل شهرين. وتواصل السلطات الآن التحقيق مع أعضاء النظام السابق، واعتقال أفراد شبكات "حزب الله"، واعتراض عمليات تهريب مخدر "الكبتاغون" والأسلحة، ما أدى إلى تصاعد الاشتباكات عبر الحدود مع العصابات التابعة لـ "حزب الله". تبرز هذه التطورات الفرص التي يمكن لواشنطن استغلالها، إذ تعتبر أن إضعاف قدرات "حزب الله" يشكل مصلحة استراتيجية مهمة.
أما بالنسبة للنقطة الثانية، أي توحيد الأراضي السورية، فلا تزال هذه المسألة عالقة، حيث يستمر القتال بين "الجيش الوطني السوري"، المدعوم من تركيا، و"قوات سوريا الديمقراطية"، المدعومة من الولايات المتحدة، في الشمال الشرقي. وتُجري دمشق و"قوات سوريا الديمقراطية" محادثات عبر قنوات خلفية للوصول إلى تسوية دبلوماسية لمستقبل المنطقة، إذ لا مصلحة لأي منهما في حرب شاملة. ومع ذلك، لا تزال نتائج العديد من القضايا غير محسومة، بما في ذلك السيطرة على الحدود، وموارد النفط والغاز، وحقوق الأقليات ولا سيما الأكراد، ومسألة ما إذا كانت سوريا ستتبنى نظامًا فيدراليًا أو مركزيًا، إضافةً إلى طبيعة العمليات اللوجستية المطلوبة لدمج "قوات سوريا الديمقراطية" في الجيش السوري الجديد، ومستقبل القتال ضد "تنظيم الدولة الإسلامية"، ومصير تسعة آلاف سجين من عناصره المحتجزين داخل سوريا. وبالإضافة إلى ذلك، يواصل "الجيش الوطني السوري" شنّ هجماته على "قوات سوريا الديمقراطية"، بينما تُعزى عدة تفجيرات بسيارات مفخخة في منبج إلى عناصر مرتبطة بـ “قوات سوريا الديمقراطية".
يجسد الشهران الماضيان، من عدة نواحٍ، النهج الذي انتهجته "هيئة تحرير الشام" في السابق لتعزيز هيمنتها العسكرية في شمال غرب سوريا، وتشكيل "حكومة إنقاذ سورية" ذات توجه تكنوقراطي وقيادة مدنية عام 2017. فعلى مر السنين، قامت الهيئة بتفكيك الفصائل المتمردة التي عارضت نظام الأسد، إما بالقضاء عليها أو استيعابها بالقوة أو دمجها ضمن منظومتها، ما مكّنها من الحفاظ على هيمنتها وصولًا إلى الإطاحة بالأسد. وفي كانون الأول/ديسمبر 2021، عززت الهيئة قيادتها وسيطرتها رسميًا على أراضيها من خلال إنشاء كلية عسكرية دمجت فصائل المنطقة المختلفة ضمن هيكل أكثر تنظيمًا. في غضون ذلك، سعت "حكومة الإنقاذ" إلى استيعاب المجالس المحلية المستقلة، التي كان بعضها مرتبطًا سابقًا بـ “الحكومة السورية المؤقتة" المنافسة، والتي ساهمت في إدارة عدة مناطق بعد ثورة عام 2011.
منذ سقوط الأسد، تبنّت حكومة تصريف الأعمال الجديدة هذا النموذج بدرجات متفاوتة في المناطق التي أصبحت تحت سيطرتها، باستثناء شمال محافظة حلب ومحافظة الرقة وشرق محافظة دير الزور ومحافظة الحسكة، التي لا تزال خاضعة لسيطرة الجيش الوطني السوري أو قوات سوريا الديمقراطية. وقد عملت "هيئة تحرير الشام" على استيعاب أجهزة الدولة التابعة للنظام السابق، وتطبيق نموذج حكم مشابه لما تبنته في الشمال الغربي تحت إدارة حكومة الإنقاذ، ولكن على نطاق أوسع. ولتحقيق ذلك، عززت تواصلها مع الأعيان المحليين، والزعماء الدينيين، وشيوخ القبائل، ورجال الأعمال، الذين تستشيرهم في القضايا المحلية التي تتطلب حلولًا. وقد ركزت الاجتماعات العديدة التي عقدتها الحكومة الجديدة في مختلف أنحاء البلاد على القضايا الخدمية، أكثر من اهتمامها بالمرحلة الانتقالية أو بصياغة الدستور. غير أن العملية كانت منحازة بطبيعتها ضد النساء، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن معظم الأعيان المحليين الذين تتم استشارتهم هم من الرجال، وعلى الرغم من مشاركة بعض النساء في هذه الاجتماعات، إلا أن مستوى مشاركتهن ظل محدودًا مقارنة بمشاركة الرجال.
التدابير الأمنية والاقتصادية
عقدت حكومة تصريف الأعمال سلسلة من الاجتماعات مع مختلف قادة الفصائل المتمردة المناهضة للنظام في محاولة لضمهم جميعًا تحت مظلة الجيش السوري الجديد ووزارة الدفاع، بقيادة مرهف أبو كسرة (أبو حسن الحموي)، الرئيس السابق للعمليات العسكرية لـ “هيئة تحرير الشام". وقد انضم حتى الآن نحو 100 فصيل مسلح إلى وزارة الدفاع، بما في ذلك الجيش السوري الحر المدعوم من الولايات المتحدة، الذي يتخذ من ثكنة التنف مقراً له بعد سقوط النظام. ومع ذلك، لا يزال هناك بعض المترددين، بما في ذلك المتمرد السابق سيء السمعة أحمد العودة ومختلف الفصائل العسكرية الدرزية. تجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة أدرجت بعض الضباط العسكريين الجدد وقادة المحافظات، بمن فيهم قادة "الجيش الوطني السوري" والمقاتلون الأجانب، على قائمتها للإرهاب.
أما فيما يتعلق بالعنصر الاقتصادي، فقد وفّر تخفيف العقوبات وزيادة الانخراط الدبلوماسي أساسًا أوليًا للتعافي، فعلى سبيل المثال، أجرت الحكومة الجديدة ثلاثمئة وثلاثين اتصالًا دبلوماسيًا بين سقوط النظام والحادي عشر من شباط/فبراير الجاري. وفضلاً عن ذلك، تحسّن سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي، حيث انخفض إلى نحو تسعة آلاف ليرة مقابل الدولار بعد أن بلغ ذروته عند نحو خمسة عشر ألف ليرة. وعلى الرغم من أن هذا لا يزال غير مثالي، إلا أنه يسير في الاتجاه الصحيح، خاصة مع سعي المزيد من الدول للمشاركة والاستثمار في إعادة الإعمار - ولاسيما تركيا ودول الخليج، وكذلك الأردن والمملكة المتحدة وفرنسا وأوكرانيا وإيطاليا، وباكستان، وماليزيا، وغيرها. ومع ذلك، لا يزال الطريق أمامنا طويلاً بسبب الفقر الهائل في سوريا ونقص الغذاء والكهرباء وموارد الطاقة - مما يدل على الحاجة إلى تخفيف العقوبات بشكل أكبر واستحداث تراخيص عامة جديدة لتخفيف هذه الأعباء.
التداعيات السياسية
وفقًا للسياسة الأمريكية، يُعدّ الاستقرار النسبي الذي شهدته سوريا حتى الآن إنجازًا، لكنه يظل غير مكتمل، مما يستلزم بذل جهود إضافية لتعزيزه، خاصة في المرحلة الانتقالية القادمة. ويشمل ذلك الدفع بعملية الحوار الوطني، وصياغة دستور جديد، واتخاذ تدابير تضمن إشراك أطراف من خارج دائرة المؤيدين أو الحلفاء لـ "هيئة تحرير الشام".
وفيما يخص الحوار الوطني، يمكن للأمم المتحدة أن تضطلع بدورٍ محوري في مساعدة السلطات السورية على تجاوز العقبات التي تعرقل عقده، ومعالجة المشكلات اللوجستية التي أضعفت جهود التخطيط له. ولا يكمن التحدي الأكبر في احتمال تورط الحكومة الجديدة في أنشطة إرهابية، سواء داخليًا أو خارجيًا، بل في خطر انزلاق القادة الجدد نحو شكلٍ من أشكال الاستبداد الناعم.
على الصعيد الأمريكي، يجب على إدارة ترامب استكمال الانخراط الأولي الذي بدأته إدارة بايدن لضمان استمرار الحرب ضد "تنظيم الدولة الإسلامية". كما يمكن أن تشكل إعادة فتح السفارة السورية في واشنطن فرصة لتعزيز التواصل والانخراط الدبلوماسي في مختلف القضايا ذات الأهمية، مع التركيز على المحاور التالية:
- دمج قوات سوريا الديمقراطية تدريجياً في الجيش السوري الجديد وعدم فرضه بشكل عشوائي، الأمر الذي قد يقوض الاستقرار.
- توفير معلومات استخباراتية مفيدة للسلطات الجديدة حسب الحاجة. ففي كانون الثاني/يناير، على سبيل المثال، ساعدت الاستخبارات الأمريكية دمشق في كانون الثاني/يناير على إحباط مؤامرة لتنظيم "الدولة الإسلامية" لتفجير مقام السيدة زينب. كما يمكن لواشنطن تقديم معلومات عن شبكات تهريب المخدرات والأسلحة التابعة لـ "حزب الله".
- الضغط على الحكومة لتدمير جميع الأسلحة الكيميائية المتبقية، وهي عملية يُؤمل أن تتسارع الآن بعد أن بدأت "منظمة حظر الأسلحة الكيميائية" بالتعامل مع الحكومة الجديدة في الأسبوع الماضي.
- ترسيخ اتفاقية الحدود الإسرائيلية-السورية لعام 1974 على النحو الذي دعت إليه حكومة تصريف الأعمال. ويشمل ذلك الطلب من قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك إعادة تأكيد وجودها في منطقة فض الاشتباك الحدودية.
- مواصلة الدعوة إلى عملية انتقالية شاملة.
- نقل رسالة للحكومة الجديدة مفادها أن الالتزام بالمعايير الأمريكية سيترتب عليه تخفيف إضافي للعقوبات.
في غياب استمرار الانخراط الأمريكي، قد ينشأ فراغ في سوريا يستفيد منه الخصوم، مثل روسيا، بسرعة. وعلى أقل تقدير، يتعين على واشنطن التشاور مع شركائها لضمان توافق سياساتهم، مما يساهم في الحفاظ على سير العملية الانتقالية بشكل صحيح، حتى وإن كانت تتقدم ببطء.
الدكتور هارون ي. زيلين هو زميل أقدم في برنامج الزمالة "غلوريا وكين ليفي" في "برنامج جانيت وايلي راينهارد لمكافحة الإرهاب والاستخبارات" في معهد واشنطن، حيث يتركز بحثه على الجماعات الجهادية العربية السنية في شمال أفريقيا وسوريا، وعلى نزعة المقاتلين الأجانب والجهادية الإلكترونية عبر الإنترنت.