- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2814
مستقبل "روج آفا": توضيحٌ لأربعة نماذج محتملة
مع اشتداد حدّة الحرب في سوريا، عمد نظام الأسد خلال شهر تموز/يوليو 2012 إلى الانسحاب بشكل كبير من المناطق ذات الغالبية الكردية في الشمال. ولملء الفراغ الناشئ هناك، سارع «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردستاني السوري وميليشيا "وحدات حماية الشعب" التابعة له لملء الفراغ وفرضا سيطرتهما على تلك المناطق وتسببا بتهميش الفصائل الكردية الأخرى. وفي نهاية المطاف أنشأوا منطقة الإدارة الكردية في شمال سوريا أو ما يعرف بـ"روج آفا"، وهي عبارة عن كيان مستقل ذاتي الحكم يمتد عبر معظم الحدود الشمالية. وحتى اليوم، لم تعترف أي حكومة أجنبية بـ"روج آفا" بينما تفتقر الأراضي التابعة لها إلى التجاور اللازم لإرساء حوكمة رشيدة وبقاء اقتصادي. ومع ذلك، يسعى «حزب الاتحاد الديمقراطي» إلى تعزيز استقلاليته الفعلية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما هي الاحتمالات التي تلوح في أفق "روج آفا"؟ يدرس التحليل الوارد أدناه العلاقات التي تربط المناطق الكردية مع الدول المجاورة لها ومع القوى العسكرية الرئيسية المتواجدة داخل سوريا، ويرسم أربعة سيناريوهات محتملة لمستقبل هذه المنطقة.
الحلفاء والخصوم
تعتبر الولايات المتحدة أن «وحدات حماية الشعب» هي حليف تكتيكي في وجه تنظيم «الدولة الإسلامية»، إلا أن الأكراد يتمتعون أيضاً بعلاقات جيدة مع روسيا التي نشرت مؤخراً جنودها في منطقة عفرين الواقعة في أقصى الغرب من "روج آفا". وبينما يقتصر التعاون بين واشنطن و«وحدات حماية الشعب» على أماكن تواجد تنظيم «الدولة الإسلامية»، تبدو موسكو مهتمة بالدرجة الكبرى بوقوع "روج آفا" على مقربة من تركيا، مما يشير إلى نظرة روسية أكثر استراتيجيةً تجاه الأكراد باعتبارهم بطاقة مفيدة لروسيا ضد أنقرة.
وما يزيد الوضع تعقيداً هو أن «وحدات حماية الشعب» متفرّعة عن «حزب العمال الكردستاني»، وهو تنظيم مصنّف على لائحة الإرهاب الأمريكية ويحارب الحكومة التركية منذ عقود. لذلك، تعادي أنقرة "روج آفا" وتستهدف مواقع «وحدات حماية الشعب» هناك بضربات جوية منذ مدة غير بعيدة تعود إلى شهر نيسان/أبريل.
أما في العراق فتملك «حكومة إقليم كردستان» وفصيلها المهيمن، «الحزب الديمقراطي الكردستاني» نظرة عدائية مشابهة تجاه "روج آفا"، ويعزى ذلك أساساً لأن «وحدات حماية الشعب» اضطهدت الفصائل الكردية السورية الأخرى ومن بينها بعض الفصائل المقرّبة من «الحزب الديمقراطي الكردستاني». كما أن أكراد العراق مستاؤون من تجاوز «وحدات حماية الشعب» على أراضيهم؛ على سبيل المثال، أنشأت الجماعة مؤخراً «وحدات مقاومة سنجار» بين الأيزيديين المحليين في جبال سنجار العراقية، وهذه الوحدات مقرّبة من «حزب العمال الكردستاني». وجاء توطّد العلاقات المتنامي بين «الحزب الديمقراطي الكردستاني» وتركيا ليؤجج هذه المشاعر ويدفع التنظيم إلى تقييد حركة الناس والسلع من "روج آفا" وإليها.
وفي المقابل، ترحّب إيران بالروابط الأخيرة بين "روج آفا" والمناطق التي تسيطر عليها الميليشيات الشيعية في العراق، إذ ترى في المنطقة الكردية السورية جزءاً من جسر برّي محتمل نحو «حزب الله» في جنوب لبنان. وفي الواقع أن الحكومة العراقية الحليفة لإيران تبدي الاستحسان نفسه إزاء "روج آفا" كما يتضح من التقارير التي تفيد بأن بغداد تكفّلت بدفع رواتب المقاتلين في «وحدات مقاومة سنجار». أضف إلى ذلك أن «حزب الحياة الحرة في كردستان»، الذي يعدّ فرعاً إيرانياً لـ «حزب العمال الكردستاني» قد أوقف أعماله العدائية ضد طهران منذ بلوغ الحرب في سوريا ذروتها، وفي ذلك إشارةٌ إضافية إلى تقارب مصالحهما.
أما بالنسبة لبشار الأسد، فتحافظ "روج آفا" على علاقات اقتصادية وطيدة مع المناطق السورية الخاضعة لسيطرة النظام، وقد سمحت للجيش السوري بمواصلة فرض سيطرته على مطار رئيسي يقع في قلب الأراضي التابعة لـ «حزب الاتحاد الديمقراطي». وبالرغم من الفورات العرضية بين الحين والآخر، إلّا أنّ هذه الترتيبات تمنح الأكراد منفذاً حيوياً إلى العالم الخارجي. كما أن قوات الأسد لم تتقدم ضد "روج آفا" في أماكن أخرى؛ وفي الواقع، تدّعي جماعات المتمردين العرب السنّة أن عناصر «وحدات حماية الشعب» والنظام السوري قد تآمرا ضدهم.
ونظراً إلى تداخل المصالح المتضاربة والمتقاربة، من المرجح أن تتبع "روج آفا" إحدى أربعة مسارات في المستقبل، وقد تساهم واشنطن في تحديد أي من هذه السبل اعتماداً على أعمالها الخاصة.
نموذج ترانسنيستريا: تبعية روسية
هذا هو السيناريو الأجدر بالاعتبار لـ "روج آفا"، وهو يرسم وضعاً مشابهاً لوضعها الحالي. فترانسنيستريا المنشقّة عن مولدوفا هي منطقة لم تعترف بها أي دولة أجنبية ولكنها تتمتع بحماية قوية من موسكو، تشمل وجود القوات الروسية التي تمنح الكرملين نفوذاً على السياسة المولدوفية. وعلى النحو نفسه، تتمتع "روج آفا" بحماية قوية من الدول الخارجية القوية، وتؤمّن لموسكو النفوذ اللازم لزعزعة الاستقرار في تركيا.
بيد أن «حزب الاتحاد الديمقراطي» لن يرضى بنموذج ترانسنيستريا إلى أجلٍ غير مسمى. وقد يكون هذا الترتيب عملياً في الوقت الحالي، ولكنه ينمّ عن حالة نبذ في القوانين الدولية فضلاً عن التبعية لروسيا، في حين يطمح «حزب الاتحاد الدیمقراطي» إلى كسب دعمٍ أكبر واعتراف دولي شرعي باستقلالية "روج آفا".
نموذج كوسوفو: اعتراف جزئي
هذا هو السيناريو المثالي الذي تحلم به "روج آفا"، ولكنه أيضاً أقل منطقيةً. فقد انفصلت كوسوفو عن صربيا بفضل قرار صادر عن مجلس الأمن الدولي عام 1999 أتاح للقوات الأمريكية والدولية التمركز داخل الأراضي الكوسوفية، ومهّد الطريق في نهاية المطاف لإعلان استقلال كوسوفو عام 2008. ومنذ ذلك الحين، نالت كوسوفو اعتراف 111 من أصل 193 دولة عضو في الأمم المتحدة - مع استثناء ملفت هو روسيا.
غير أن تطبيق هذا النموذج على "روج آفا" يستوجب قطيعة تامة بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والولايات المتحدة التي يُعتبر صوتها ضرورياً في أي قرار يصدر عن مجلس الأمن بهذا الشأن. ويقيناً، أن إمكانية حصول مثل هذا الانفصال أصبحت اليوم أكبر من أي وقت مضى بسبب العداء المتزايد الذي تظهره قاعدة أردوغان تجاه الولايات المتحدة. ولكنها لا تزال تبدو مستبعدة لأن أردوغان بحاجة إلى علاقات أمنية مع واشنطن من أجل التصدي لروسيا.
وفي كافة الأحوال، من الممكن أن تتعرض العلاقات الأمريكية التركية لتحديات إضافية بعد تحرير "عاصمة" تنظيم «الدولة الإسلامية»، الرقة في سوريا. وتشمل نقاط الانفجار المحتملة رفض «وحدات حماية الشعب» إعادة الأسلحة الثقيلة التي زوّدتها بها الولايات المتحدة بعد انتهاء تلك الحملة. ويُحتمل أيضاً أن يقرر الأكراد تهميش الزعماء العرب المحليين في الرقة، بدلاً من تسليم المدينة إلى الشخصيات المقرّبة من «وحدات حماية الشعب» أو الأسد - وكلتا النتيجتين غير مرغوب بها بالنسبة لأنقرة. وفي إطار هذا السيناريو، قد يجد أردوغان نفسه مغلوباً أمام نفس القوات المناهضة للولايات المتحدة التي أطلق لها العنان داخل المجتمع التركي، مع احتمال أن تضغط عليه مختلف الأطراف الإسلامية وتلك المعادية للأكراد، مما قد يدفعه الأمر إلى تقليص نطاق العلاقات مع واشنطن.
وحتى إذا تمكّنت "روج آفا" من التغلب على جميع هذه التحديات، ستبقى بحاجة إلى دعم خارجي كبير للوصول إلى وضع مشابه لذلك القائم في كوسوفو، ويتضمن ذلك قراراً واحداً على الأقل من مجلس الأمن ومجتمعاً دولياً ناشطاً يناصر قضية "روج آفا" في سوريا، إلى جانب قوات أجنبية لحمايتها من تركيا. بيد أن اكتساب الدعم الروسي لهذا النموذج داخل الأمم المتحدة ينطوي على صعوبة خاصة لأن نظام الأسد لا يزال يسعى إلى استعادة أكبر قدر ممكن من البلاد. ومن غير المحتمل أن تفضّل موسكو الأكراد على دمشق إذا ما رفض الأسد منح المناطق الشمالية استقلالية تامة.
نموذج «حكومة إقليم كردستان»: حماية تركية
يكاد هذا النموذج أن يذهب في الاتجاه المعاكس لمسار كوسوفو، على الأقل من حيث خدمة مصالح أنقرة بدلاً من الإضرار بها. فقد عززت «حكومة إقليم كردستان» استقلاليتها عن الحكومة المركزية منذ حرب العراق، بينما أقام «الحزب الديمقراطي الكردستاني» روابط جيدة مع أنقرة كقوة موازنة في وجه بغداد. وعلى الرغم من القتال الدائر اليوم بين تركيا والمنظمة الأم لـ «حزب الاتحاد الديمقراطي» ، أي «حزب العمال الكردستاني»، إلا أنه ينبغي أن نتذكر أنهما كانا يعقدان محادثات سلام موضوعية منذ فترة غير بعيدة تعود إلى عام 2015، وأن وفود «حزب الاتحاد الديمقراطي» كانت تقوم بزيارات منتظمة إلى أنقرة. ولذلك فإن استئناف هذه المحادثات سيعيد تطبيع العلاقات بين تركيا وأكراد سوريا بشكلٍ تلقائي، لتأتي فرص الاستثمار التي توفرها "روج آفا" للشركات التركية لتزيد من حسنات هذه الصفقة.
إلا أن تطبيق نموذج «حكومة إقليم كردستان» يتطلب إنهاء القتال بين تركيا و «حزب العمال الكردستاني»، في الوقت الذي يبدو فيه الطرفان ملتزمان حالياً بالانتصار العسكري. ويستمد «حزب العمال الكردستاني» تحفيزه من نجاح «وحدات حماية الشعب» في الاستحواذ على أراضٍ سورية وإقامة روابط مع روسيا والولايات المتحدة في وقت واحد، ولذلك يبدو غير مهتم باستئناف المحادثات مع أنقرة. وبالمثل، يستعد أردوغان بالفعل للانتخابات البرلمانية المرتقبة في عام 2019 من خلال السعي إلى تعزيز شعبية حزبه لدى الناخبين القوميين الأتراك، الذين يفضل معظمهم على الأرجح هزيمة «حزب العمال الكردستاني» في ساحة المعركة على الجلوس معه إلى طاولة المفاوضات.
ومن هذا المنطلق، لا يبدو نموذج «حكومة إقليم كردستان» معقولاً على المدى القريب، على الرغم من أنه ربما يكون أفضل نتيجة ممكنة بالنسبة للولايات المتحدة. ومن المرجّح ألا يتجسد هذا النموذج على أرض الواقع إلا بعد أن يضمن أردوغان فوزه في الانتخابات المرتقبة في غضون عامين، وبعد أن ينخفض إلى حد ما العداء التركي العميق تجاه «حزب العمال الكردستاني». وفي غضون ذلك، من شأن تحرير الرقة المفترض بقيادة «وحدات حماية الشعب» أن يزيد من عزم «حزب العمال الكردستاني» على مواصلة القتال في تركيا.
نموذج الجزائر لعام 1975: إعادة دمج قسرية
في اتفاقية السلام الموقعة بين بغداد والأكراد عام 1970، وافق صدام حسين بعد الضغوط التي تعرض لها على منح الأكراد حكماً ذاتياً وافراً، وقد احترم ذاك الاتفاق نوعاً ما لبضع سنوات بينما عزز مكانته في العراق في مرحلة ما بعد الانقلاب. ولكن في عام 1975 أنهى العراق وإيران خلافاتهما الحدودية ووقّعا على "اتفاقية الجزائر"، ، مما دفع طهران إلى وقف دعمها للجماعات الكردية العراقية. وسرعان ما عمل صدام على إنهاء الحكم الذاتي الكردي بالقوة متسبباً بحملة قمع قاسية، وإبادة جماعية في نهاية المطاف.
تشير هذه السابقة المرتكبة من قبل نظام بعثي حليف إلى أن الأسد قد يتقبّل الحكم الذاتي لـ "روج آفا" طالما أنه ضعيف، ولكن سيسعى بعد ذلك لإنهائه حالما يستطيع، وذلك تمشياً مع تعهده المتكرر بإعادة بسط سيطرته على كافة الأراضي السورية. وإذا حدث ذلك، سيجد يد العون ممدودة له من تركيا التي دعته إلى التنحي مراراً وتكراراً منذ اندلاع الحرب ولكنها أكثر انشغالاً بالتصدي لكل من «وحدات حماية الشعب» و «حزب العمال الكردستاني». حتى أن طهران نفسها قد تعطي بركتها للنظام وتشجعه على استعادة "روج آفا" نظراً لتخوفاتها الخاصة من تنامي القومية الكردية داخل إيران، حيث ازداد الأكراد المحليون تمرّداً بالرغم من اتفاق وقف إطلاق النار مع «حزب الحياة الحرة في كردستان». ومن الممكن أن تعطي موسكو أيضاً موافقتها إذا ما رأت أن توثيق علاقتها مع الأسد أكثر أهمية من علاقاتها التاريخية مع كل من «حزب الاتحاد الديمقراطي» و «حزب العمال الكردستاني».
ومن المرجح أن تكون السياسية الأمريكية لمعارضة مثل هذه الاستراتيجية محدودة. وفي هذه الحالة، ستكون المحصلة النهائية تفسير الأسد وإيران وروسيا لسقوط "روج آفا" كانتصار على أمريكا، والمجاهرة بأنهم هزموا جميع الذين تلقوا المساعدات الأمريكية، ومن بينهم «حزب الاتحاد الديمقراطي» و «وحدات حماية الشعب».
سونر چاغاپتاي هو زميل "باير فاميلي" ومدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن، ومؤلف الكتاب الجديد: "السلطان الجديد: أردوغان وأزمة تركيا الحديثة".