- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3948
مواجهة "حكم الظل" الذي تمارسه "حماس" في غزة
تُدرك حركة "حماس" جيداً أن الاحتفاظ بسيطرتها على المجالات المدنية في غزة، يعد عاملاً حاسمًا لضمان استمرار نفوذها في الساحة الفلسطينية بعد الحرب، مما يستدعي من المجتمع الدولي الإسراع في إرساء قواعد نظام حكم بديل.
منذ بدء العملية العسكرية الإسرائيلية ضد حركة "حماس" في العام الماضي، تعرضت معظم قدرات الحركة العسكرية للتدمير الكامل أو أصيبت بأضرار بالغة. وعلى الرغم من انتهاء القتال الأشد ضراوة في غزة منذ عدة أشهر، لم تضع الحرب أوزارها بعد، ولم تُعلن “حماس” استسلامها. وفي حين تواصل إسرائيل تركيزها على إقامة منطقة عازلة وتنفيذ غارات لمنع "حماس" من استعادة قدراتها العسكرية، فإنها لم تولِ الاهتمام الكافي لـ “حكم الظل" الذي تمارسه الحركة.
تسعى "حماس" بشكل حثيث منذ أشهر لاستعادة السيطرة المدنية في جميع أنحاء قطاع غزة، مع التركيز على المناطق التي لم تعد القوات الإسرائيلية تتواجد فيها. وقد تمكنت الحركة من الحفاظ على إدارة فعالة في أجزاء مختلفة من القطاع، لا سيما في المناطق الوسطى، وكذلك في بعض مناطق الجنوب والشمال. كما تدرك "حماس" أن "حكم الظل" الذي تمارسه في القطاع يد عاملاً حاسماً في الحفاظ على مكانتها كقوة مهيمنة في الساحة الفلسطينية بعد الحرب. بالفعل، يبدو أن كوادر "حماس" تعتمد على استراتيجية “لعبة الانتظار"، حيث تدرك أن بقائها مرهون بانتظار اللحظة التي يجبر فيها المجتمع الدولي إسرائيل على وقف القتال والخروج من غزة. وعلى غرار التنظيمات السابقة التي مارست "حكم الظل" ، تترقب "حماس" الفرصة لتعود إلى الظهور بشكل كامل عندما تصبح الظروف أكثر ملاءمة.
إن استمرار الوضع الراهن لم يعد مقبولاً، إذ ينبغي اغتنام رحيل القيادة العليا لـ “حماس"، ولا سيما القائد العسكري يحيى السنوار، كفرصة سانحة للمضي قدماً في إرساء أسس نظام حكم بديل يوفر مساراً عملياً وواقعياً للفلسطينيين في غزة.
غزة بعد مرور عام
لفهم كيفية احتفاظ "حماس" بسيطرتها على مناطق مختلفة بعد عام من الحرب، يجدر بنا النظر في الوضع الإنساني الراهن في القطاع وحالة البنية التحتية المدنية، إذ تشير التقديرات الدولية إلى أن ما يقرب من 45-75% من البنية التحتية المدنية في قطاع غزة قد دُمرت. وبحسب منظمة الصحة العالمية، لم يتبقَ سوى 17 مستشفى عاملاً من أصل 36، بينما تفيد تقارير الأمم المتحدة بتضرر 87% من المدارس. أما الاقتصاد فيشهد حالة من الفوضى العارمة، إذ وصلت نسبة البطالة إلى 80%، ولم يتبق سوى سوق سوداء مزدهرة. وفي ظل هذا الانهيار، لجأت "حماس" إلى استخدام أساليب متنوعة لإثبات وجودها على الأرض، عبر توفير الخدمات الأساسية الطارئة للسكان، والأهم من ذلك - منع أي جهة أخرى من أن تحل محلها.
"حكم الظل" الذي تمارسه "حماس"
عشية الحرب في غزة، كان الجهاز الحكومي لـ “حماس" يضم آلاف المديرين والموظفين والمسؤولين، الموزعين على العديد من الوزارات: الخارجية، الداخلية، العدل، المالية، الاقتصاد، الطاقة، النقل، الإعلام، التعليم، السياحة، الزراعة، الشباب، الأشغال العامة، سلطة الأراضي، والحكم المحلي. وعلى الرغم من أن نسبة محدودة فقط من هؤلاء الموظفين كانت متورطة في النشاط الإرهابي، إلا أن الجهاز الإداري لـ “حماس" شكل عاملاً حاسماً في إحكام سيطرة الحركة على القطاع.
أما اليوم، فقد أصبحت "حماس" مجرد ظل لما كانت عليه سابقًا، إذ تلاشت معظم وزاراتها، حيث تركز الوزارات المتبقية بشكل رئيسي على الترويج للدعاية والتضليل بدلًا من أداء مهامها الفعلية. ومن أبرز الأمثلة على ذلك وزارة الإعلام (التي تنشر معلومات معظمها مضللة عبر تطبيق "تيليجرام"(، ووزارة الاقتصاد (التي تقتصر مهامها على مراقبة الأسعار وجمع الضرائب (، ووزارة الصحة (التي تصدر بيانات شبه يومية عن أعداد القتلى (، ووزارة المالية (التي تقدم أحيانًا مساعدات نقدية صغيرة (.
رغم انهيار جزء كبير من جهازها الإداري، تواصل "حماس" توظيف كوادرها للحفاظ على سيطرتها على السكان المحليين. ففي المناطق التي لا تزال فيها بلديات شبه عاملة تابعة للحركة، يبذل العاملون جهوداً لمواصلة جمع القمامة وتجديد البنية التحتية الأساسية مثل المياه، والصرف الصحي، والكهرباء، والطرق. وفي مناطق أخرى، شكلت الحركة لجان طوارئ لتحل محل مؤسسات الحكومة المحلية المنهارة، حتى أنها أرسلت فرق استجابة سريعة عقب الغارات الجوية. كما واصل المسؤولون جهودهم التعليمية بين النازحين، مع الحرص على مواءمة التعليم المدرسي المتاح مع توجهات "حماس".
برهنت حملة التطعيم ضد مرض شلل الأطفال التي انطلقت في أيلول/سبتمبر في غزة على القدرات التنظيمية والدعائية للحركة. فقد استغل مسؤولو وزارة الصحة في "حماس" هذه الحملة، التي قادتها منظمات دولية، وأرسلوا رسائل نصية إلى السكان المحليين للإعلان عنها، ونسبوا الفضل في تنظيمها إلى أنفسهم. كما ساعد مسؤولو "حماس" وبالتعاون مع موظفين من منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، في تطعيم ما يقرب من 550 ألف من سكان غزة خلال اثني عشر يومًا، مما يعكس كفاءة لافتة في التنفيذ.
إلى جانب نفوذها الرسمي، تستعين "حماس" بعناصر إجرامية لتعزيز سيطرتها. فبموافقة الحركة، تتولى العائلات الإجرامية في غزة جباية الضرائب وفرض النظام، وفي المقابل، تسمح لهم "حماس" بالاستحواذ على حصص كبيرة من المساعدات الإنسانية، إضافة إلى توفير مزايا أخرى.
وفي الوقت عينه، عملت "حماس" على إحباط أي مساعي لإيجاد بدائل لحكمها في غزة. فعلى سبيل المثال، هددت العناصر المسلحة في الحركة رؤساء العديد من العشائر التي حاولت العمل بشكل مستقل، وأفيد بأنهم قتلوا رئيس عشيرة الدغمش. كما سارعت في التصدي لأعضاء حركة فتح والسلطة الفلسطينية عندما حاولوا السيطرة على توزيع المساعدات. وكما صرح المتحدث باسم "حركة فتح" منذر الحايك في مقابلة أجريت معه مؤخرًا: "تسعى "حماس" للقضاء على أي سيطرة على الأرض في غزة خارج نطاق نفوذها.
سيطرة" حماس" على المساعدات والخطاب
تشكّل الضرائب التي تفرضها "حماس" الى جانب سيطرتها على عملية توزيع المساعدات الإنسانية موردًا مهمًا يضمن استمرار مكانتها باعتبارها الجهة الأكثر نفوذاً في غزة. وتمر هذه المساعدات عبر رحلة معقدة إلى غزة تشارك فيها إسرائيل ومصر والمنظمات الدولية. في الأيام الأولى للحرب، قامت عناصر شرطة حماس بحراسة قوافل المساعدات بمجرد دخولها غزة وهم يرتدون زيهم الرسمي، إلا أنهم انسحبوا من هذه المهمة بعد أن استهدفتهم القوات الإسرائيلية. واليوم، تواصل "حماس" استخدام عناصرها لمهاجمة القوافل، إذ افضى هذا التكتيك إلى انتشار الفوضى والنهب على نطاق واسع في المناطق التي لا تسيطر عليها "حماس" أو إسرائيل، بينما تحتفظ الحركة بالسيطرة في مناطق أخرى عبر عناصر شرطة بملابس مدنية. بشكل عام، أدت سيطرة الحركة الواسعة والممنهجة على المساعدات الى تعميق شعور سكان غزة باعتمادهم المتزايد على "حماس".
وقد عززت "حماس" هذا الانطباع من خلال القيام بأنشطة دعائية تركز على ثلاث رسائل محورية: تحميل إسرائيل باعتبارها العدو، المسؤولية كاملة عن حالة الفوضى القائمة؛ والتأكيد على ضرورة امتثال الجمهور لتوجيهات "حماس"؛ والتشديد على استمرار وجودها بعد انتهاء الحرب. ويبدو أن الحركة تولى أهمية متزايدة لهذه الأنشطة الدعائية خاصة في ضوء ما تم الكشف عنه حول مؤشرات الرأي العام في غزة. فعلى سبيل المثال، تم الكشف مؤخرًا عن وثيقة أعدها جهاز الأمن العام التابع لـ "حماس" تُظهر تلاعبًا في البيانات الصادرة عن كبير مستطلعي الرأي الفلسطينيين خليل الشقاقي بهدف تضخيم معدلات التأييد الشعبي للحركة. وتتناقض هذه المحاولات مع نتائج استطلاعات الرأي الذي أجرته مؤسسة زغبي للأبحاث في تموز/يوليو وآب/أغسطس، والذي خلص إلى أن 7 في المئة فقط من سكان غزة يريدون أن تحكم "حماس" القطاع بعد الحرب.
ما الذي ينبغي القيام به؟
قد تمثل وفاة القيادة العليا لـ "حماس"- ولا سيما السنوار الذي جعلت سياسته المتشددة ووجوده المستمر في غزة من المستحيل تقريباً إزاحة الحركة - فرصة للتغيير المنشود وإرساء نظام جديد. ولاستكمال عملية الإطاحة بـ "حماس" من خلال استبدال سيطرتها المدنية (الفعالة في كثير من الأحيان) على أجزاء كبيرة من غزة، وإقناع السكان المحليين بأن الحركة لن تكون مسيطرة بعد الحرب - يجب على المجتمع الدولي أن يضع الأساس اللازم لتحقيق ذلك. ويستلزم ذلك صياغة بديل حكومي قوي ومستقل واتخاذ بعض الخطوات لتنفيذه، علاوة على المضي قدما في تنفيذ الخطوات المحورية الأتية:
تسليط الضوء على "حكم الظل" الذي تمارسه "حماس"
كما ذُكر سابقاً، نجحت الحركة في الاحتفاظ بسيطرتها على أجزاء كبيرة من غزة جزئيًا عبر تأسيس نظام حكم فعّال. وعليه، ينبغي على صانعي السياسات والجمهور أن يدركوا أن "حماس" تسعى للاحتفاظ بسيطرتها المدنية بعد انتهاء الحرب من خلال استراتيجية متعددة الأوجه تشمل: تقديم الخدمات الأساسية، وممارسة الترهيب العنيف، والتنسيق مع المجموعات المسلحة، وغيرها من الأساليب المتنوعة التي تمكنها من بسط نفوذها. لذا، يتوجب اتخاذ إجراءات عاجلة للحيلولة دون حدوث ذلك.
تقويض الحملة الدعائية لـ “حماس" وخطابها المضلل.
تستفيد الحركة من الفوضى الراهنة من خلال استخدام ما تبقى من جهازها الإداري لنشر الدعاية وإبراز قوتها. وقد ساعد هذا التضليل الإعلامي الحركة في الحفاظ على مكانتها في أوساط الغزيين، الذين لا يرون بديلاً مجدياً آخر، ويفضلون على الأرجح مظاهر النظام الذي توفره "حماس" في بعض المناطق على الفوضى الكاملة في المناطق التي تفتقر إلى السلطة. ومع ذلك، تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أن حملة الدعاية التي تستخدمها "حماس" لبسط نفوذها قد تكون متعثرة، مما قد يهيئ الظروف لظهور بديل.
منع "حماس" من السيطرة على المساعدات الإنسانية
في مناطق النزاع وما بعد النزاع، تتحول المساعدات الإنسانية إلى أداة للنفوذ والسيطرة. لذلك، من الضروري اتخاذ بعض الإجراءات التي تشمل توفير حماية أمنية مشددة، لضمان وصول المساعدات إلى مستحقيها في غزة. وعليه، يجب أن يستمر تدفق المساعدات الإنسانية، مع ضمان استقلاليتها التامة عن أي تدخل من قبل "حماس" في جميع مراحل توزيعها.
الحفاظ على الجهاز الإداري في غزة.
من الصعب اعتبار أن كل موظف إداري تابع لـ "حماس" في غزة مقاتلاً تابعاً للحركة. ومن ثم، فإن تسهيل إنشاء كيان حكومي جديد وتجنب وقوع كارثة إنسانية، يتطلب دمج العديد من الذين عملوا سابقًا في الجهاز الإداري في غزة في الإدارة القادمة وذلك لضمان تقديم الخدمات الأساسية للناس بكفاءة. ومرة أخرى، يجب أن يتم ذلك دون السماح لـ "حماس" بالسيطرة على الإدارة المحلية.
الدكتورة ديفورا مارغولين، هي زميلة أقدم في برنامج الزمالة "بلومنشتاين-روزنبلوم" في "برنامج جانيت وايلي راينهارد لمكافحة الإرهاب والاستخبارات" في معهد واشنطن، وأستاذة مساعدة في "جامعة جورج تاون".
نعومي نيومان، هي زميلة زائرة في معهد واشنطن، حيث تركز على الشؤون الفلسطينية. وعملت سابقاً كرئيسة لوحدة الأبحاث في "وكالة الأمن الإسرائيلية"، أو "الشاباك"، وفي وزارة الخارجية الإسرائيلية. ومؤخراً بدأت نيومان دراسة الدكتوراه في جامعة تل أبيب.