بعد أسبوعٍ من الانفجار الهائل الذي وقع في بيروت، يطالب اللبنانيون بحق بتغيير سياسي جذري. وردّاً على ذلك، كان لدى المسؤولين والمحللين الروس تعليقاتٌ كثيرة بالنظر إلى أهمية لبنان لمصالحهم الإقليمية. ولطالما اعتبر الكرملين لبنان معلماً بالغ الأهمية من الناحية الجيوسياسية في شرق البحر الأبيض المتوسط وبلداً يمكن الاستفادة فيه من أقليته المسيحية بشكلٍ لا مثيل له في أي مكان آخر في الشرق الأوسط. ومن هذا المنطلق، توطّدت علاقات روسيا مع لبنان في السنوات الأخيرة حتى إلى درجة أكبر كامتدادٍ لسياستها تجاه سوريا، بما في ذلك على المستوى العسكري.
وربما أدت المصالح الموجودة على المحك بأجمعها إلى دفع روسيا إلى الاكتفاء حتى الآن بردود رسمية حذرة على الكارثة التي حلّت على بيروت وما أعقبها من تبعات. فقد أرسل الرئيس فلاديمير بوتين تعازيه إلى الرئيس ميشال عون، إلى جانب توفير روسيا مساعدات إنسانية تضمّنت، وفقاً لبعض التقارير، معدات طبية واختصاصيين في مجال الطب. كما أرسل بوتين فريقاً خاصاً إلى بيروت يتألف من موظفين من وزارتَي الطوارئ والصحة الروسيتين.
وفي غضون ذلك، كتبت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا عبر صفحتها على "فيسبوك" أن الصور التي تُنشر من بيروت "تفطر القلب"، ثم أعربت عن أسفها على الارتفاع المتسارع في عدد الدول التي "تنهار فيها الحياة" على أيدي البشر وليس بسبب كوارث طبيعية. ولكنّ موسكو، شأنها شأن الرئيس عون، تعارض إجراء تحقيق دولي في الانفجار، كما قال السفير الروسي ألكسندر زاسيبكين لإحدى وسائل الإعلام العربية.
وفي أعقاب الكارثة، أعربت الصحافة التابعة للكرملين أيضاً عن قدٍر كبير من المشاعر المعادية لأمريكا والمؤيدة لـ «حزب الله». ولا يُعتبر موقف الكرملين من «حزب الله» مفاجئاً نظراً لأن موسكو لم تصنّفه مطلقاً منظمةً إرهابية، بل على العكس من ذلك، فقد استضافت قياداتٍ من التنظيم في زيارة رسمية في أواخر عام 2011، ومنذ ذلك الحين تميل أكثر فأكثر نحو محور إيران - «حزب الله» - سوريا. كما قاتل التنظيم جنباً إلى جنب مع القوات الروسية في الحملة العسكرية لإبقاء نظام الأسد في الحكم، من أجل مصلحتهما المتبادلة - وقد اكتسب مقاتلو «حزب الله» الكثير من الخبرة من خلال العمل مع العسكريين المحترفين، بينما أشاد كبار المسؤولين الروس علناً بالتنظيم باعتباره "قوةً مشروعة".
وفي الآونة الأخيرة، عندما دعا المتظاهرون اللبنانيون رئيس الوزراء حسان دياب وحكومته المدعومة من «حزب الله» إلى الاستقالة، سلّطت وسائل الإعلام الروسية التي تسيطر عليها الدولة الضوء على مخاطر تحدي السلطة المحلية لـ «حزب الله». ووفقاً لمدير المكتب الإقليمي لـ " شركة البث الإذاعي والتلفزيوني لعموم روسيا" إيفجيني بودوبني، فإن "حزب حسن نصرالله هو الحزب الوحيد الذي يملك قدرات قتالية حقيقية هنا، وبإمكان [المَطالب بالاستقالة] أن تؤدي حتماً إلى اندلاع صراع واسع النطاق في لبنان". كما ادّعى أن النشطاء اللبنانيين الذين يطالبون بنزع سلاح «حزب الله» يتلقون أموالاً من الخارج - في إشارة غير مباشرة إلى الولايات المتحدة وحلفائها.
وتوسّع بودوبني في الحديث عن هذه النقطة الأخيرة في مقالة منفصلة جاء فيها: "[الاحتجاجات] تنتقل إلى أيدي القوى السياسية الموالية للغرب والسعودية. إن الحد من نفوذ «حزب الله» الشيعي هو هدف السياسيين المحليين؛ والصراع المفتوح بين الطوائف هو هدف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي". وبالمثل، كتب محللٌ روسي آخر في إحدى وسائل الإعلام الحكومية أنه في الوقت الذي يتوجب فيه على الجميع إرسال المساعدات الإنسانية إلى لبنان، هناك دولٌ تستغل الوضع كذريعة "لتحقيق مصالحها الوطنية" - أي أن الدول الغربية ودول الخليج تسعى للإطاحة بالحكومة الحالية وإزاحة «حزب الله» من السلطة.
ويقيناً، فإن بعض وسائل الإعلام التابعة للدولة انتقدت «حزب الله» والحكومة اللبنانية، حيث نقلت وكالة الأنباء الروسية "تاس" عن الخبير في شؤون الشرق الأوسط غريغوري لوكيانوف قوله إن "السياسة في لبنان فقدت مصداقيتها". وأشار إلى أن «حزب الله» لا يهتم بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية، بل بمحاربة إسرائيل فقط. وفي السياق الحالي للمساعدات الإنسانية والدعوات إلى الإصلاحات الجذرية، قال إن "السلطات مهتمة بالمال، ولكن ليس بالتغييرات".
ومن غير المرجح أن يفهم الجمهور الروسي إلى أي مدى تعود أسباب هذه الإخفاقات السياسية إلى «حزب الله» والنظام السوري وغيرهما من شركاء إيران الذين عملوا مراراً وتكراراً على تقويض السيادة اللبنانية وأثاروا عدم الاستقرار في المنطقة على مر السنين. والأهم من ذلك، أن انتقادات لوكيانوف لا تنحرف عن مسار الرسالة الشاملة التي توّجهها روسيا - وهي أن أنظار موسكو لا تزال شاخصة نحو الهدف الأكبر المتمثل في ضمان نفوذها مع كل من يسيطر على الأرض في لبنان، على الأقل جزئياً لأن الأحداث هناك تؤثر على المصالح الروسية في سوريا. على سبيل المثال، أكد بعض المراقبين الروس سابقاً كيف يمكن للمصارف اللبنانية أن تكون بمثابة صلة سوريا بالعالم الخارجي، وتعمل على تسهيل إعادة الإعمار بطريقة تحافظ على بقاء الأسد في السلطة. [إلّا أن] الأحداث الجارية تهدّد بتعقيد هذا السيناريو.
وفي الوقت الحالي، تتولى الحكومة الفرنسية زمام المبادرة في لبنان، مما دفع إحدى وسائل الإعلام الروسية إلى الإعلان بأن باريس و"الاتحاد الأوروبي" ينقذان البلاد من الحرب الأهلية. وقد سعت فرنسا إلى توثيق علاقاتها مع الكرملين خلال العام الماضي، وفي هذا الإطار كتبت الصحف الروسية أن باريس تتوقع الآن من موسكو (ومن تركيا أيضاً) أن تساعدهما في بيروت. ومن المرجح أن يدعم بوتين هذا الجهد (أو على الأقل يتشدّق به) طالما يحافظ على أكبر قدر ممكن من الوضع الراهن في لبنان. ويُعزى هذا التوجه العقلي جزئياً إلى نفور بوتين العام من تغيير أي حكومة يفضّلها، لا سيما من خلال الاحتجاجات الشعبية أو الضغط الدولي. وقد يركز أيضاً على أولويات أخرى في الوقت الحالي، مثل الاحتجاجات الأخيرة المناهضة للحكومة في بيلاروسيا المجاورة وفي الشرق الأقصى لروسيا.
لكن الأكثر أهمية من وجهة نظر موسكو هو بقاء واشنطن غائبة إلى حد كبير عن الساحة. وبصراحة، حذر زاسيبكين في مقابلة مع قناة "سبوتنيك عربي" من أن النفوذ الأمريكي في لبنان آخذ في التوسع وسيؤدي إلى عواقب سلبية على البلاد. ويوحي تعليقه هذا بأن موسكو ستواصل السعي إلى تعزيز نفوذها في لبنان مع نشر سردية عدم الاستقرار الذي يُفترض أنه ناجم عن التدخل الأمريكي.
آنا بورشفسكايا هي زميلة أقدم في معهد واشنطن.