- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
سوريا والمحرقة: وضع العهد "لن يحدث مرة أخرى" قيد الاختبار
بينما يجتمع زعماء الأمة الأمريكية في مبنى الكابيتول لإحياء الذّكرى السّنويّة للمحرقة في يوم ذكرى المذبحة النازية، لا بدّ من تكريس بعض ملاحظاتنا للحديث عن سوريا الّتي تشكّل ساحةً لإحدى أكبر الأزمات الإنسانيّة منذ الحرب العالميّة الثّانية. ففي حين أنّ عدد القتلى ليس نهائيّاً، يتحمّل نظام بشّار الأسد الجزء الأكبر من مسؤوليّة مقتل أكثر من 300 ألف شخصٍ، ثلثهم تقريباً من المدنيّين، وظهور أكثر من 11 مليون لاجئ ونازح منذ عام 2011 - أي أكثر من نصف سكّان البلاد قبل الحرب. وقد نفّذ أطراف آخرون - لا سيّما تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش») - عمليّات قتلٍ متعمّدة، إلّا أنّ نظام الأسد وشركاءه مسؤولون عن عددٍ كبير من القتلى يفوق ذلك الّذي تسبّبت به الجماعات الأخرى مجتمعةً.
ويأتي التّاريخ ليذكّرنا بأنّه، على الرّغم من فظيعة هذه الأرقام، إلا أنها لا تلامس ولو قليلاً ضخامة أرقام المحرقة اليهوديّة. لكن هل يجب حقاً أن يساوي عدد القتلى في سوريا ذلك المستوى غير المعقول من القتلى الّتي تسبّبت بها المحرقة لكي يصحى ضميرنا ونسارع إلى اتّخاذ إجراءات فعالة؟
دعونا لا ننسى بعض الاختلافات الأخرى بين سوريا ومحرقة اليهود.
أوّلاً، لا تشبه سوريا اليوم ألمانيا في عام 1941 تقريباً. فهي دولة صغيرة وفقيرة وضعيفة لا أصدقاء لها بين البلدان المجاورة، ويبعد أقرب حلفائها - أي روسيا وإيران - مئات الأميال عنها. ومهما كان التّوصّل إلى إنهاء القتل الجماعي معقّداً في سوريا، فتحقيقه لا يتطلّب حتماً ما تطلّبه النّصر على ألمانيا.
ثانياً، على الرّغم من تلاقي المصالح السّوريّة والرّوسيّة والإيرانيّة ومصالح تنظيم «الدولة الإسلامية» لتحويل البلاد إلى منطقة خالية من وسائل الإعلام، برز الكثير من الأدلة - من شهادات الضّحايا والتّغطية الصّحافيّة وتقارير المراقبين الدّوليّين - التي تشير بأنّه لا يمكن أن يكون هناك أي شك حول ما حدث في سوريا منذ عام 2011.
وبهذا المعنى، يشبه النّزاع السّوري محرقة اليهود (الهولوكوست)، الّتي عرف عنها العامّة وكبار المسؤولين على حدٍّ سواء أكثر ممّا يُعتقد عموماً. لكن بينما لم يصدّق الكثير من الأمريكيّين فكرة أنّ الألمان المتحضّرين قد يستطيعون التّفكير بارتكاب الفظائع الّتي اتُّهموا بها، إلا أن رد الفعل السائد اليوم إزاء قصص الفظائع المرتكبة في سوريا لا يتمثّل في الصدمة بل في اللامبالاة.
لكن يبدو أن الأمر الذي نتراجع به أكثر من غيره هو قدرة الزعماء الأمريكيين على الشّعور بالعار إزاء الفشل في إيقاف - أو حتّى محاولة إيقاف - المجزرة. فلنقارن ثلاثة ردود فعل أمريكيّة تجاه الأعمال الوحشيّة.
يتم ذكر جون ماكلوي، مساعد وزير الحرب الأمريكي، بأنه كان قد وجّه رسالةً إلى "المؤتمر اليهودي العالمي" شرح فيها سبب عدم تمكّن الحلفاء من تحويل الموارد لقصف معسكر "أوشفيتز". وبسبب تهمة قسوة القلب تجاه اليهود المدانين للموت الّتي لاحقت ماكلوي لعقود، فقد جرّب تكتيكاً جديداً عام 1986، عندما أخبر الشخص الذي كان يجري مقابلة معه أنّه يجب توجيه اللّوم إلى الرّئيس فرانكلين د. روزفلت، في ما يخصّ القرار الّذي اتُّخذ بشأن "أوشفيتز". (وبطبيعة الحال، لم يتواجد روزفلت للدّفاع عن نفسه؛ وقد توفي ماكلوي عام 1989).
أما الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون فقد اعتمد وجهة نظر مختلفة. في عام 1994، قرّر ألّا يوقف الإبادة الجماعيّة في رواندا، وخلص إلى أنه لا توجد مصالح للولايات المتّحدة تبرّر التّدخّل. وبعد أربعة أعوام، زار البلاد نادماً ليتقدّم باعتذار رئاسي. فقال: "نحن، في الولايات المتّحدة والمجتمع الدّولي، لم نقم بما كان في وسعنا القيام به وما كان ينبغي أن نقوم به في محاولة للحد مما حصل في رواندا عام 1994".
وخلال نصف القرن الذي يفصل بين ماكلوي وكلينتون، بدأ القادة الأمريكيّون يتصارعون مع فكرة التمتع بإمكانيات - وبالتّالي تحمّل مسؤوليّة - وقف الفظائع الجماعيّة. وعلى الرّغم من أنّ الرّئيس أوباما قد ضمّ إلى لائحة إنجازاته عام 2012 إقامة ما سُمّي بجرأة "مجلس منع الفظائع"، لكن يبدو أنه عكس هذا الاتجاه. لننظر في رده على الهجوم الكيميائي المروّع على الغوطة، الّذي تسبّب فيه الدّكتاتور السّوري الأسد بمقتل ما يقارب 1700 مدنيّ من بينهم أطفال.
في حزيران/يونيو 2012، اتخذ "متحف ذكرى الهولوكوست في الولايات المتّحدة" خطوة غير اعتياديّة بإصداره تحذيراً من "إمكانيّة حصول إبادات جماعيّة إذا لم تسارع الأمم في اتّخاذ تدابير للالتزام بمسؤوليّاتها الّتي تتمثّل في حماية الجماعات والأفراد المستهدفين من قبل النّظام السّوري". وحتّى ذلك الحين، كان الرّئيس الأمركي متردداً في الإشارة إلى أي تدخّل مباشر في النّزاع السّوري، لكن بعد ستّة أسابيع، رسم "خطّاً أحمر" مفاده أنّ استخدام السّلاح الكيميائي في سوريا سيبدّل حساباته وينذر برد فعل أمريكي.
وإذا تقدمنا بعام، برز دليل لا جدال فيه حول وقوع مجزرة الغوطة، وحان وقت اتّخاذ القرار، فاختار الرّئيس ألّا يحرّك ساكناً. وبطريقة كادت أن تكون معجزة، قدّمت موسكو إلى الإدارة الأمريكية مخرجاً مشرّفاًعبر اتّفاق للتخلص من معظم أسلحة سوريا الكيميائيّة المتبقّية. ومع ذلك، ومنذ ذلك الوقت، قُتل في سوريا عدد من المدنيّين يفوق العدد الّذي سبق حادث "الخطّ الأحمر"، وبعضهم لاقوا حتفهم من خلال المزيد من الهجمات الكيميائيّة.
لقد اختار كلٌّ من أوباما وكلينتون اتباع سياسات عدم التّصرف إزاء الفظائع. لكن بينما اعترف كلينتون بالخطأ الّذي ارتكبه عندما كان لا يزال رئيساً، اتّخذ أوباما موقفاً مختلفاً جداً. فسياسة التقاعس، بالنسبة له، لم تجعله يشعر ولو بقليل من النّدم ولم يودِ به إلى إعادة النّظر في المسألة؛ ولم يشكّل خيار البقاء متفرّجاً لا "مهرباً ضيّقاً" ولا "قراراً صعباً".
وعلى العكس من ذلك، وفقاً لما قاله الرّئيس أوباما، كان اختيار عدم التّصرّف مصدر شرف بالنسبة له. فقد أخبر مؤخّراً الصّحافي جيفري غولدبورغ قائلاً: "أنا فخورٌ جدّاً من هذه اللّحظة. وعلمت أنّني سأدفع الثّمن سياسيّاً بسبب التّمهّل في تلك اللّحظة..... كان قراراً صعباً اتخذته - وأؤمن أنّه أنه كان القرار الصّائب في النهاية".
ومع مقتل آلاف السّوريّين وتعرّض الكثيرين غيرهم للمصير نفسه، كان أوباما صريحاً بما يكفي لكي يقرّ أنّ قلقه بشأن التكاليف السّياسية الّذي قد يتكبّدها بسبب عدم التّصرّف في موضوع أولئك القتلى، كان أكبر من قلقه من تكاليف الحياة أو الموت التي سيتكبدوها بسبب تقاعسه.
ومهما كان التّحدّي الخاصّ بالسّياسة السّوريّة معقداً، يبقى موقف أوباما تجاه الأعمال الوحشيّة السبب الذي يناسب إدراج سوريا على جدول أعمال اليوم العالمي لإحياء ذكرى الهولوكوست هذا العام. فعندما يعتبر قائد أمّة تلعب دوراً عالمياً أساسياً أنّ الأمر تطلّب شجاعة وقناعة لعدم التّصرّف، يدفعنا ذلك جميعاً إلى إعادة التّفكير في ما نعنيه حين نردّد العهد القائل: "لن يحدث مرة أخرى".
روبرت ساتلوف هو المدير التنفيذي لمعهد واشنطن.
"واشنطن بوست"