- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3139
سياسة الصين في الشرق الأوسط: التحدث بهدوء والتلويح بمحفظة كبيرة
يحتل الشرق الأوسط مرتبة متدنية على لائحة الأولويات العالمية للصين، ومن غير المرجح أن يتغير ذلك في المستقبل المنظور. ومع ذلك، فإن "الأولوية الدنيا" هي مصطلحٌ نسبي عندما يتعلق الأمر بجهة فاعلة عالمية جيوبها ممتلئة مثل بكين. صحيح أن "مبادرة الحزام والطريق" الطموحة التي أطلقتها الحكومة الصينية تغض الطرف إلى حد كبير عن المناطق الحيوية لما تسميه الصين "غرب آسيا"، وتركّز بدلاً من ذلك على إنشاء طرق برّيّة وبحريّة تجارية إلى أوروبا عبر آسيا الوسطى والمحيط الهندي و"قناة السويس". ومع ذلك، تستثمر الشركات الصينية - بدعمٍ كاملٍ من بكين - عشرات مليارات الدولارات في مشاريع البنية التحتية وعمليات الاستحواذ وغيرها من المبادرات في معظم بلدان الشرق الأوسط.
إن القضية الأساسية بالنسبة للصين هذه الأيام هي الحرب التجارية مع الولايات المتحدة. فمن وراء الخط الحزبي المتمثّل في "التصدي" للضغط الأمريكي يكمن قلقٌ متزايد من أن تلحِق الرسوم الجمركية المتصاعدة أضراراً بالغة بالاقتصاد العالمي، مما قد يؤذي بدوره "الناتج المحلي الإجمالي" والاستقرار المحلي في الصين. كما أن المسؤولين في بكين يرصدون عن كثب المحاولات التي تقوم بها القوى الآسيوية الأخرى لاحتواء صعود الصين السريع، لا سيّما وأن واشنطن وجِهات فاعلة أخرى تنمّي نظام التعاون في منطقة المحيط الهادئ -الهندي الذي اقترحته اليابان أوّلاً.
وفي ظل هذه الخلفية، تقيس الصين نفوذها في الشرق الأوسط ووجودها فيه بشكل أساسي من حيث تأمين إمدادات الطاقة، والعلاقات التجارية، والمنافع التجارية. وتشعر بكين بالارتياح مع سياستها الراهنة المتمثّلة في تجنب الانخراط السياسي في الخلافات العديدة في المنطقة، ويتم فوراً رفض أي تصريحات منفصلة تتعارض مع هذا الموقف - مثل ادعاء أحد السفراء عام 2018 بأن حكومته ستنظر في مساعدة النظام السوري على محاربة الثوار في إدلب. كذلك، تحرص الصين على تفادي الانحياز إلى أي طرف في المواجهة الإيرانية - السعودية أو الخلافات بين العرب مثل الحظر المفروض على قطر، وتفضّل التعاطي مع "جامعة الدول العربية" كملجئها الأساسي للحوار.
ويشمل ذلك الدعم المتواصل لمواقف "الجامعة العربية" حول النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني. فإحدى عادات الصين للتصويت في "الأمم المتحدة" هي دعم جميع القرارات المعادية لإسرائيل. وتُدرك بكين تماماً أن حكومات الخليج تسعى بهدوء إلى التعاون مع الحكومة الإسرائيلية على عدة جبهات، لكن طالما يبقى موقفها الرسمي فاتراً، ستستمر الصين في التصويت وفقاً لذلك.
وتؤدّي المداولات الأخيرة مع كبار المسؤولين الصينيين إلى عددٍ من الاستنتاجات الأخرى الجديرة بالملاحظة وهي:
ستواصل الصين استيراد النفط الإيراني. عبر القيام بذلك، ستحاول الصين تجنّب عقوبات إدارة ترامب من دون تحدّيها أو رفضها مباشرةً. ولكن رغم أنها تسعى جاهدةً إلى تنمية علاقات ودّيّة مع الجمهورية الإسلامية، إلّا أن بكين لا تخطط لإنقاذ النظام من ضائقته المالية أو تزويده بأسلحة مهمّة، رغم أن بعض المسؤولين الصينيين يشعرون بقلق بالغ إزاء إمكانية التوصل إلى اتفاق جديد بين واشنطن وإيران. ولا تشعر طهران من جانبها بوخز الضمير إزاء قبول مساعدة الهند على تطوير ميناء "جابهار" [جنوب شرق إيران] كمنافس لميناء "جوادر" الذي بنته الصين في باكستان، وهو أحد الروابط الرئيسية في "مبادرة الحزام والطريق".
الصين غير مستعدة بعد للنظر في استثمارات كبيرة في سوريا. تهتم بكين بالفرص المتاحة هناك ولكنها ليست في عجلة من أمرها لاستكشافها، رغم النداءات المتكررة من روسيا للمساعدة في إعادة الإعمار بعد الحرب. وقد أنشأت الصين عمليات تبادل للمعلومات الاستخباراتية السورية مع موسكو والعديد من حكومات آسيا الوسطى، لكنّ غايتها الأساسية هي مراقبة جهاديي تركستان الشرقية الذين يحاربون هناك والكشف عن أي مقاتلين مسلمين من الأويغور يحاولون العودة إلى الوطن إلى شينجيانغ (سنجان).
الصين تشعر بالقلق إزاء التحالف الأمني في الشرق الأوسط. لم تنجح هذه المبادرة الإقليمية الطموحة التي تدعمها الولايات المتحدة في الإقلاع حتى الآن، وقد سبق أن انسحبت منها مصر. ومع ذلك، ما زال المسؤولون الصينيون يخشون من احتمال قيام حلفاء الولايات المتحدة بإنشاء سيطرةً عسكريّةً مشتركةً طويلة الأجل على الممرات البحرية الممتدة من "قناة السويس" والبحر الأحمر إلى المحيط الهندي - وهو طريق رئيسي في الرؤية الاستراتيجية الكامنة وراء "مبادرة الحزام والطريق". وبناءً على ذلك، ركّزت بكّين على رفع مستوى العلاقات مع السعودية، وبدرجة أقل، مع الإمارات ودول الخليج الأخرى. كما تبدو مستعدة لتزويد الرياض والإمارات بتقنية صواريخ متطورة وربما حتى بالدراية النووية، ولن تردعها الاحتجاجات من إيران. وفي غضون ذلك، تملك الصين قاعدةً عسكريةً صغيرةً في جيبوتي وتخطط لإقامة وجود لها في ميناء "الدقم" العماني. لكن المسؤولين سارعوا إلى التأكيد على أن الصين ليست بحاجة إلى تواجد عسكري في أي مكان آخر في المنطقة؛ ولتوضيح هذه النقطة، رووا كيف قامت الحكومة بإجلاء المواطنين الصينيين من ليبيا التي مزّقتها الحرب بدلاً من محاولة حماية مصالحها الحيوية هناك.
ستواصل الصين في التعاطي مع إسرائيل بحذر. تُلقي الولايات المتحدة بظلالها الكثيفة على العلاقات الصينية مع إسرائيل. فقد أوضحت واشنطن في مناسباتٍ عديدة رغبتها في أن تحافظ القدس على تعاونها مع بكّين فاتراً، وأن تقيّد التدخل الصيني في القطاعات الحسّاسة من الصناعات الإسرائيلية المزدهرة السيبرانية والعالية التقنية. كما تُدرك بكين جيداً أنه لا يمكنها التفكير في أي صفقات أسلحة، وتقرّ عموماً بأن على إسرائيل أن تأخذ التحفظات الأمريكية بغاية الجدّيّة - على الرغم من أن المسؤولين يسارعون إلى الإشارة إلى أن بعض حلفاء واشنطن العرب أظهروا مرونةً أكبر مع الصين.
وفي النهاية، لا تُظهر بكين أي نية في مراجعة دبلوماسيتها التقليدية تجاه إسرائيل، أو نمط تصويتها غير المواتي في المنتديات الدولية. ويهتم الصينيون بشدة بالتقنيات الإسرائيلية الابتكارية، لكنهم لا يعتقدون أن تطوير العلاقات الاقتصادية يتطلّب منهم تغيير سياستهم الخارجية. ولا تسهّل الحكومة الصينية دخول الصادرات الإسرائيلية إلى الصين؛ وبلغت التجارة المتبادلة 14 مليار دولار في العام الماضي، ولكن معظم المبيعات الإسرائيلية تمت بواسطة منشآت "إنتل". واستحوذت الشركات الصينية على بعض الشركات الإسرائيلية الكبرى (خاصة في قطاعي الكيماويات والألبان) وفازت في مناقصات لإدارة أقسام جديدة من مينائي حيفا وأشدود، لكن الجهات التنظيمية الإسرائيلية منعت دخولها إلى القطاع السيبراني وقطاع التأمين (هذا الأخير مهم لأن الصين سعت للوصول إلى البيانات حول أفراد الأمن الإسرائيليين عبر برامج التقاعد). وأخيراً، يبدو أن المسؤولين الصينيين غير مهتمّين بتطوير طريق تجاري عبر خليج العقبة إلى ميناء "إيلات" مع خط سكة حديد إلى البحر المتوسط، على اعتبار أن مصر تعارض أي نظام نقل تجاري بديل لقناة السويس.
الاستثمارات الصينية في مصر تنمو بسرعة. يشمل ذلك البنية التحتية للعاصمة الجديدة التي قرر الرئيس إنشاءها خارج القاهرة. فبكين تعتقد أنه يجب التأكيد على استقرار مصر من أجل تحقيق تقدم في "مبادرة الحزام والطريق"، لأن "قناة السويس" تشكّل رابطاً أساسياً لسفن الحاويات المتّجهة إلى أوروبا.
لا تريد الصين الانخراط مع "السلطة الفلسطينية". أوضح المسؤولون الصينيون أنهم لا يريدوا الدخول في أي مشاريع اقتصادية في "السلطة الفلسطينية"، وأن مشاركتهم في جهود المساعدات المالية ستكون محدودة. وبشكل أكثر تحديداً، لن تسمح بكين للشركات الصينية بالعمل عبر "الخط الأخضر"، أو داخل قطاع غزة طالما تسيطر عليه «حماس».
يتزايد الاهتمام التحليلي للصين في المنطقة. رغم الانتباه المحدود نسبيّاً الذي تُكرّسه بكين لـ "غرب آسيا"، ستواصل الحكومة الصينية تمويل مراكز الفكر والمعاهد الجديدة لإجراء الأبحاث حول المنطقة. وبالمثل، أظهرت الجامعات الصينية زيادة ملحوظة في عدد الطلّاب الذين يتعلمون اللغة العربية (وإن كان ذلك بدرجة أقل في اللغتين الفارسية والتركية).
باختصار، ستواصل الصين الخطو بحذر في الشرق الأوسط، والحفاظ على ملف دبلوماسي منخفض وتجنب البصمة العسكرية مع السعي بشدة وراء الفرص التجارية - لا سيّما في مشاريع البنى التحتية المتعلقة بـ «رؤية السعودية 2030» وقطاع الطاقة. وقد لا تجذب المنطقة تدخلاً سياسياً وعسكرياً جاداً من الصين إلا بعد أن تنضج المشاريع الكبرى لـ "مبادرة الحزام والطريق" في باكستان وآسيا الوسطى.
إهود يعاري هو "زميل ليفر الدولي" في معهد واشنطن ومعلق محنك في التلفزيون الإسرائيلي. وقد زار الصين مؤخراً كضيف لـ "الشبكة العالمية والقيادة الأكاديمية الصينية - الإسرائيلية" ("سيجنال)".