- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
تبادل الأماكن
Also published in "أمريكان پرپوز"
بعد عقدين من التدخل الأمريكي المباشر، ما الخطأ الذي حدث في أفغانستان مقارنة بالنجاحات النسبية التي شوهدت في العراق؟
من المفارقات اللافتة للنظر التي طبعت السياسة الخارجية حتى الآن خلال هذا القرن هي إخفاق الولايات المتحدة في أفغانستان ولكن نجاحها النسبي في العراق. وكان يُنظر إلى حرب أفغانستان على نطاق واسع على أنها "حرب الضرورة الجيدة"؛ أما العراق، فشكّل "حرب الاختيار السيئ". ومع ذلك، انتهى الانخراط الأمريكي في أفغانستان بانسحاب مذل وانهيار كامل لحكومتها، في حين ظلت الحكومة العراقية تتأرجح، بدعم التحالف بقيادة الولايات المتحدة، وتحسّن الآفاق للصمود إن لم يكن للازدهار.
لكن هذا لا ينفي أن حرب أفغانستان كانت حرب ضرورة. فقبل أربعة أشهر من هجمات 11 أيلول/سبتمبر، كنتُ قد وجهتُ بالفعل مذكرة إلى وزير الخارجية الأمريكي الراحل كولين باول، استهليتها ببساطة بالجملة التالية: "لم يعد بوسع الولايات المتحدة تحمّل دعم حركة «طالبان» للإرهاب". بعد ذلك، نظراً لإصرار «طالبان» على حماية تنظيم «القاعدة»، كان التدخل العسكري المباشر ضرورياً للقضاء على ذلك التهديد الذي لا يطاق. ومع ذلك، بعد مرور عقدين من الزمن ودفع تريليونات الدولارات لاحقاً، كانت الولايات المتحدة هي الطرف الذي انسحب وحركة «طالبان» هي الجهة التي عادت إلى السلطة.
وحتى عام 2021، لم تكن هذه نتيجة مؤكدة. فخلال معظم العقد الأول من القرن الحالي ومع ازدياد التدخلات العسكرية في أفغانستان والعراق، كانت أفغانستان بشكل عام ميداناً أكثر هدوءاً من العراق، في ظل وجود عدد أقل بكثير من القوات الأمريكية. غير أنه اتضح أن هذا الانطباع عن سهولة إدارة الأمور كان قصير النظر.
فما الخطأ الذي ارتُكب في أفغانستان، بمقارنة بالمسار الصحيح الذي يتمّ سلوكه أخيراً في العراق؟ إن العوامل المساهمة كثيرة، لكن تلك التي غالباً ما يتمّ ذكرها ليست بالضرورة هي السبب في ذلك. فعلى سبيل المثال، إن الادعاء الشائع بأن العراق أدّى بسرعة وبشكل فتاك إلى صرف تركيز الولايات المتحدة عن أفغانستان غير مقنع، وذلك ببساطة لأن هذا الميدان الأخير حقق نجاحاً معقولاً لعدة سنوات بعد التدخل الأمريكي الهائل في العراق. وبدلاً من ذلك، ومن المفارقات، أن الحجم الهائل للأموال التي ضختها الولايات المتحدة في أفغانستان كان إشكالياً، لأن التدفقات النقدية الجاهزة جعلت البلاد وحكومتها فاسدتين للغاية، وغير فعالتين وتابعتين بحيث تعذر عليهما الاستمرار من دون الولايات المتحدة.
ثم هناك باكستان المجاورة، التي دعمت حركة «طالبان» بشكل فعال طوال العقدين تقريباً. وكان السبب الآخر الأكثر إثارة للجدل للإخفاق هو الجهد الأمريكي لبناء قوات أمن أفغانية موحدة بدلاً من التعاون بشكل أكبر مع ميليشيات أمراء الحرب العرقيين أو المحليين، الذين كانوا أكثر انقساماً (وغالباً أكثر وحشية) ولكنهم أكثر تحفيزاً. أما السبب الأخير - والحاسم - فكان القرار الأمريكي المتعمد بالتفاوض بشأن الاستسلام مع حركة «طالبان» من دون علم الحكومة الأفغانية التي كان يُفترض أن الولايات المتحدة تدعمها.
وبالتالي، فإن العراق مختلف جداً من كافة هذه النواحي. فهو يختزن موارد وطنية كبيرة من النفط والغاز الطبيعي وغيرهما من الموارد، لذا فمنذ البداية كانت المساعدات الأمريكية المباشرة تُقدّم على نطاق أدنى وأقل عرقلة. وبالرغم من كافة تدخلاتها الخبيثة، سعت إيران، جارته الأقوى، بشكل عام للحفاظ على حكومة العراق الصديقة ذات الأغلبية الشيعية وهزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية» هناك. وقررت الولايات المتحدة بحكمة أن تشارك بشكل منفصل مع ميليشيا "البيشمركة" الكردية الموالية والفعالة نسبياً ولاحقاً مع ميليشيات محلية أخرى، بدلاً من محاولة إجبارها جميعاً على الانضمام إلى قوة وطنية "موحدة". وأخيراً، وبشكل حاسم مجدداً، سرعان ما أعقب الانسحاب العسكري الأمريكي الكامل في أواخر عام 2011 ، عودة محدودة بل مستدامة للقوات الأمريكية رداً على الصعود شبه المميت لتنظيم «الدولة الإسلامية». ويمكن تصور النتيجة لو عرضت الولايات المتحدة بدلاً من ذلك، على غرار ما حدث في أفغانستان، إخراج جميع قواتها مقابل اتفاق وهمي نوعاً ما "بتشارك السلطة" مع تنظيم «الدولة الإسلامية».
ولننتقل سريعاً إلى الانتخابات الوطنية العراقية الأخيرة في تشرين الأول/أكتوبر الماضي. فقد بقيت نسبة المشاركة في الانتخابات مخيبة للآمال بلغت 40 في المائة - لكن هذه الانتخابات كانت أكثر سلمية وأقل غشاً أو ترهيباً من كافة الانتخابات السابقة. علاوةً على ذلك، تكبدت الأحزاب الأكثر عنفاً وتطرفاً ومعاداةً للولايات المتحدة وولاءً لإيران خسائر انتخابية فادحة. فلا بدّ من انتظار تبلور الطبيعة الدقيقة للتحالف الحاكم المقبل في العراق، ومن المرجح أن يكون ضعيفاً بعض الشيء ومنقسماً داخلياً وعرضة للضغوط الإيرانية. لكن حتى أمير الحرب/رجل السياسة من الميليشيات الشيعية المتقلب وصاحب النفوذ مقتدى الصدر يشير الآن إلى أنه يريد بقاء الجنود الأمريكيين في العراق كـ "مستشارين" عسكريين، بعد أن انتهت عملياتهم"القتالية" رسمياً، للمساعدة على الحفاظ على سلامة البلاد واستقرارها.
ولا بدّ أيضاً من أخذ قضية الحكم الذاتي لكردستان كمثال آخر على النجاح الأمريكي-العراقي النسبي. فمنذ عام 1991، تمتع «إقليم كردستان العراق» بقدر كبير من الحكم الذاتي والتحرر من سيطرة بغداد بفضل الحماية الأمريكية من الجو. وكان ذلك ترتيباً مثيراً للجدل بل سلمياً بشكل عام، حيث كان في البداية بحكم الأمر الواقع في ظل حكم صدام ثم بعد ذلك بحكم القانون بعد الإطاحة به من قبل القوات الأمريكية في عام 2003. وفي تشرين الأول/أكتوبر 2017، أجرت «حكومة إقليم كردستان» استفتاء حول الاستقلال، مما يعني انفصالها عن العراق. وتمت الموافقة على الاقتراح بأغلبية ساحقة. لكن تبع ذلك على الفور نزاع مسلّح عربي-كردي سريع ومرير خسر فيه الأكراد نحو ثلث الأراضي ونصف كميات النفط التي كانت في حوزتهم سابقاً.
وكان الرجل الذي ساعد في تنظيم الاستفتاء، كرئيس لموظفي [مكتب] رئيس «حكومة إقليم كردستان» آنذاك مسعود بارزاني، سياسياً كردياً متمرساً يُدعى فؤاد حسين. فمباشرة بعد هدوء النزاع، لم يتمّ إرساله إلى المنفى أو سجنه بتهمة الخيانة - كما حدث، على سبيل المثال، في الحالة المماثلة لمسؤولين من كاتالونيا التي نظمت استفتاءها "غير القانوني" الخاص حول الاستقلال في الوقت نفسه تقريباً. وبدلاً من ذلك، تمّ تعيين فؤاد حسين وزيراً للمالية في حكومة العراق المركزية ويشغل الآن منصب وزير الخارجية. وعموماً، لا يزال الحكم الذاتي الكردي قائماً، حتى في ظل استمرار الجدل مع بغداد حول الميزانيات والحدود.
باختصار، أدار العراق انقساماً عرقياً عميقاً داخل حدوده من خلال تسويات خلاقة تخللتها أحياناً مواجهات كبيرة. ويمكن أن تكون صيغتها الناجحة نسبياً للحكم الذاتي الإقليمي، رغم كل تعقيداتها وأوجه قصورها، نموذجاً لدول أخرى في الشرق الأوسط وخارجه. وفي الواقع، أصبح العراق، الذي كان يُعتبر منذ فترة ليست بطويلة دولة مقسّمة على نحو ميؤوس منه وشبه فاشلة للغاية، يستضيف اليوم بشغف اجتماعات ويتوسط في تفاهمات مبدئية بين دول متنافسة أخرى في المنطقة، بما فيها إيران وتركيا والسعودية.
والأكثر استغراباً، أن شيئاً مشابهاً يمكن أن يقال عن مسار العلاقات بين المسلمين من العرب السنةّ والشيعة في العراق. فلأكثر من عقد بكثير، وحتى وقت قريب، كان العراق عملياً مرادفاً للفتنة الطائفية. لكن خلال السنوات القليلة الماضية، كان السنة والشيعة في البلاد، رغم أنهم بالكاد نموذجاً للوئام، يتناحرون سياسياً بشكل رئيسي بدلاً من خوضهم حرب أهلية شرسة.
إذاً بشكل عام، فإن الآفاق واعدة على نحو مفاجئ لصعود العراق كدولة مستقرة إلى حدّ ما ومكتفية ذاتياً وغير عدوانية، وحتى ديمقراطية قادرة على تحقيق التوازن في علاقات عمل لائقة مع الولايات المتحدة وإيران وتركيا والدول العربية المجاورة على حد سواء. كما أن توجيه دعوة مثيرة للدهشة إلى العراق إلى جانب إسرائيل باعتبارهما الدولتين الوحيدتين في الشرق الأوسط المدعوتين للمشاركة في "مؤتمر القمة من أجل الديمقراطية" التي تعقدها إدارة بايدن يمثل اعترافاً بهذا الواقع غير المتوقع.
ويقيناً، لا يزال نجاح العراق غير مكتمل وهشاً ومرحلياً. وكان أحدث دليل حيّ على ذلك هو محاولة الاغتيال الفاشلة لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بطائرة مسيّرة في تشرين الثاني/نوفمبر، والتي نفذتها بشكل شبه مؤكد ميليشيا موالية لإيران، وإن لم يكن ذلك بأوامر مباشرة من طهران. وبالتالي، تعتمد النتائج في العراق، إلى حد كبير، على عمق الالتزام الأمريكي بالانخراط مع بغداد في المجالات الأمنية والدبلوماسية والاقتصادية.
وفي حين أن تكاليف حفاظ الولايات المتحدة على هذه المكاسب سواء بالدم أو المال أو رأس المال السياسي أصبحت منخفضة للغاية الآن، إلا أن الرهانات على ذلك كبيرة. وخلافاً لأفغانستان، يتمتع العراق باحتياطات هائلة من الطاقة. وعلى مدى العقود القليلة المقبلة على الأقل، وما لم يتخلَ العالم حقاً عن الوقود الأحفوري وإلى حين يحصل ذلك، ستبقى هذه الموارد مهمة لجميع القوى الاقتصادية العالمية الرئيسية (وخاصةٍ الصين)، وبالتالي للولايات المتحدة في نهاية المطاف.
فضلاً عن ذلك، وأيضاً في تناقض صارخ مع أفغانستان، يتشارك العراق حدوداً طويلة ونشطة مع حلفاء وخصوم رئيسيين للولايات المتحدة، أي تركيا والسعودية والكويت والأردن وسوريا وإيران. لذلك، يكتسي استقرار البلاد وتعاونها أهمية للمصالح الأمريكية الرئيسية في المنطقة ككل، ومن أجل تعزيز المصداقية الأمريكية على نطاق أوسع. ولا يزال العراق لاعباً أساسياً في منع عودة ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية» أو غيره من التهديدات الإرهابية العالمية، وربما في احتواء إيران، وذلك من خلال المفاوضات والردع على حدّ سواء.
وأخيراً، إن الدروس المستخلصة من هذه المقارنات التهكمية مزدوجة وفقاً للأمثال اللاتينية القديمة حول قانون مسوغات الحرب. أولاً، لا توفر "الحرب الجيدة" أي ضمان للنصر. ثانياً، حتى "الحرب السيئة" قد تسفر عن نتيجة جديرة بالدفاع عنها. وكان غزو الولايات المتحدة للعراق واحتلاله خطأ فادحاً - ومع ذلك، يجب أن تبقى منخرطة الآن هناك. وفي مفارقة نهائية، إن الثمن السياسي المحلي لكارثة الانسحاب من أفغانستان يعزز احتمال تكرار ما فعلته الولايات المتحدة.
ديفيد بولوك هو "زميل برنشتاين" في معهد واشنطن، وعمل سابقاً في "فريق تخطيط السياسات" لوزير الخارجية الأمريكي في الفترة 1996-2001. وقد نُشر هذا المقال في الأصل على موقع "أمريكان پرپوز".