- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3186
إعادة ورقة الدبلوماسية إلى حملة الضغط على إيران
تشكل الضربة التي استهدفت السعودية في 14 أيلول/سبتمبر فرصةً أمام الولايات المتحدة لتعديل الطريقة التي تضغط بها على إيران. ولا شك في أن إعادة بسط قوة الردع أمر حاسم، لكن ذلك ليس أقل أهمية من التوفيق بين المساعي الدبلوماسية الأمريكية وتلك التي تبذلها القوى الأخرى، لدفع إيران إلى مسار تفاوضي يبتعد عن التصعيد غير المقيّد ونحو إعادة تحديد دورها في الشرق الأوسط. وحريٌّ بإدارة ترامب ألّا تعلن عن تغيير جذري في مسارها خلال جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الأسبوع، لكن عليها توجيه رسالة إلى الجهات الفاعلة الرئيسية حول أهمية اقتران الضغوط الاقتصادية على إيران بعملٍ تمهيدي يحضّر لمفاوضات مستقبلية.
الضغط في طريق مسدود دون دبلوماسية جماعية
على الرغم من أن واشنطن والرياض لم تفصحا بعد عن أي معلومات استخباراتية تؤكد هوية المعتدي ومصدر الهجوم المدمّر الذي ضرب المملكة العربية السعودية في صلب بنيتها التحتية النفطية، لم ينفك المسؤولون من كلتا الحكومتين يوجّهون أصابع الاتهام إلى إيران. وبالفعل، تشير دقة العملية ونطاقها ومدى تطوّرها إلى إمكانيات تتجاوز ما أثبته مرتكبوها الأصليون المزعومون - أي الحوثيين في اليمن - حتى اليوم.
وبينما تنظر اليوم إدارة ترامب في مختلف خيارات الرد، سيكون لأي مسارٍ تختاره وقعٌ حاسم على مصداقية الردع الأمريكي في الشرق الأوسط بما يتجاوز إطار النزاع السعودي الإيراني. والأمر المؤكد حتى الآن هو أن الهجمات أثبتت بشكل كبير افتقار حملة الضغط الأقصى الأمريكية إلى الفطنة الدبلوماسية وفشلها في تحقيق الردع اللازم. فالاستراتيجية المشددة للإدارة الأمريكية القائمة على فرض عقوبات بعيدة كل البعد عن تقليص أعمال إيران المزعزعة للاستقرار أو حثّها على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، بل أن طهران تعتبر هذه الاستراتيجية بمثابة إعلان حرب اقتصادية تتطلب تصعيداً من خلال سياسة مكافحة الضغط. كما أن التخاذل الفظيع الذي أبداه المجتمع الدولي حيال سلسلة الهجمات التي تعرّضت لها البنية التحتية الخاصة بالشحن والطاقة طوال فترة الصيف زاد من جرأة القادة الإيرانيين وشجّعهم على الاعتقاد بأن بإمكانهم التصعيد دون دفع الثمن. وبعد أن قفزت إيران عدة درجات على سلّم التصعيد وبدفعةً واحدة، تحدّت واشنطن بالردّ بالمثل، ظنّاً منها على ما يبدو أن نهج العمل الانفرادي الذي يتبعه الرئيس ترامب وتردّده المُعلن في استخدام القوة سيحبطان أي ردٍّ منسق.
لقد حان الوقت للاعتراف بأن الضغط هو مجرد وسيلة لتحقيق الغاية المنشودة وليس هدفاً استراتيجياً بحد ذاته. ولا يمكن إقناع إيران على إعادة التفاوض على القيود المفروضة على برنامجها النووي وفرض قيود جديدة على برنامج صواريخها البالستية وأنشطتها الإقليمية إلا إذا دعّمت الولايات المتحدة سياسة الضغط التي تنتهجها بمساعي دبلوماسية والتمست المساعدة لإقناع طهران بالنزول عن سلّم التصعيد.
منذ انسحاب الإدارة الأمريكية من «خطة العمل الشاملة المشتركة» في أيار/مايو 2018، تمثّل هدف سياستها الظاهري في إبرام اتفاق شامل يعالج هذه [المراهنة] الثلاثية على التهديدات الأمنية. ولكن فحوى هذا الاتفاق لم يُحدَّد قط بصورة علنية. وشأنها شأن الإدارة التي سبقتها، لم تتخذ إدارة ترامب خطوة جدية في تحديد تسلسل أو مضمون المفاوضات الرامية إلى انتزاع تسويات ومبادلات إقليمية صعبة من إيران، مثل التراجع عن رعاية الوكلاء والأنشطة العسكرية في العراق ولبنان والسعودية وسوريا. وعلى الرغم من أنه سيكون من الصعب التحكم بالتوقعات إزاء الحصيلة الفورية التي يمكن أن تحققها مثل هذه المحادثاتٌ الواسعة النطاق، تبقى الحقيقة بأن الولايات المتحدة وأوروبا تتمتعان بنفوذ اقتصادي كبير على إيران وتربطهما علاقاتٌ تاريخية مع دول الخليج، الأمر الذي قد يسهم في النهاية في دعم التطبيع بين طهران و«مجلس التعاون الخليجي».
البدء بتحالف مع دول رئيسية قليلة وليس بتحالف كبير
من خلال إصرار إدارة ترامب على انضمام الحلفاء إلى حملة الضغط الأقصى التي تنتهجها ثم إلقاء اللوم عليهم عندما يفعلون ذلك جزئياً فقط، تسببت بعزل نفسها. فالنهج التي تمارسه الولايات المتحدة من جانب واحد قد أضرّ بالاقتصاد الإيراني ولكنه لم يترك أي أثر إيجابي على سلوك إيران في المنطقة، والتكلفة التي ترتبت عن ذلك هي ازدياد الممانعة الأوروبية لأي جهد تقوده الولايات المتحدة. حتى أن هذا الابتعاد أعاق إطلاق دعوةٍ بسيطة إلى القيام بجهود أمنية بحرية مشتركة هذا الصيف.
من هنا، يُفترض أن تكون الهجمات التي استهدفت هندسة الطاقة الخليجية بوتيرة تصعيدية حادة بمثابة محاولة لدق جرس الإنذار. فأولوية واشنطن اليوم تتمثل في العمل مع أوروبا والصين واليابان وغيرها من الجهات الدولية الفاعلة الرئيسية على عكس مسار المقاربة الحركية التي تعتمدها إيران لإنهاء أزمتها الاقتصادية. ويعني ذلك تعاون جماعي لعزل طهران في الوقت الحالي، وكذلك إفهام شركاء الولايات المتحدة بأن واشنطن تنوي الوصول إلى المفاوضات في وقت ما في المستقبل.
بيد أن تحقيق هذه الجهود الدولية بفعالية يتطلب تقسيم العمل بشكل واضح. والمسؤولية التي تقع على عاتق واشنطن في هذا الإطار هي إعادة إرساء قوة الردع على الفور، وأمامها عدد لا يحصى من الأساليب المبطّنة التي تستطيع استخدامها لتوجيه رسالة قوية إلى طهران. أما الوجه الآخر من عملة الردع هذه فهو تعزيز الدبلوماسية - وبالتوازي مع أنشطتها الخاصة بـ "المنطقة الرمادية"، يجدر بالإدارة الأمريكية القيام بتوجيه رسائل منسّقة إلى إيران عبر بكين وطوكيو والدول الأوروبية الثلاث (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) من أجل تعزيز حدود ما سيقبله المجتمع الدولي في الخليج. بعد ذلك، عليها أن تدع أوروبا تختبر الخيارات المتاحة مع طهران بشأن المنصات المحتملة لهذا الغرض.
على سبيل المثال، أدت المشاورات السابقة مع الدول الأروبية الثلاث (فرنسا وبريطانيا وألمانيا)، إلى سعي إيران للحصول على خظ ائتمان يسمح لها تصدير النفط. وعندما ذكر الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون هذا الاقتراح خلال الاجتماعات التي عُقدت في أواخر آب/أغسطس، أعرب الرئيس ترامب عن عدم اعتراضه على ذلك، مما جعله أول اقتراح ملموس يُطرح على الطاولة منذ أشهر.
البدء في إثارة الموضوع في الأمم المتحدة
تُشكّل جلسات الأمم المتحدة المنعقدة هذا الأسبوع المكان الأمثل لإطلاق هذه العملية، حيث يشكّل الحضور الكثيف لمختلف قادة دول العالم خير منتدىً لتغيير معالم النقاش واستعادة المبادرة التي استغلتها إيران بطريقة مذهلة. ومن خلال انخراط واشنطن مع الجهات الفاعلة الرئيسية هناك، بإمكانها أن تفعل أكثر من مجرد الخروج من عزلتها أو وضع طهران في خانة العقوبات - كما يمكنها أن ترسم طريقاً للمضي قدماً. والدول التي هي في وضع أفضل للمساعدة في أوروبا هي الثلاثية الأوروبية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا). وعلى وجه الخصوص، يجب على واشنطن أن تلتمس انخراط ماكرون الشخصي في الردع والمشاركة على حدٍّ سواء. إن السعي لإشراك شي جين بينغ يمنح الأولوية نفسها، فاعتماد الصين على إمدادات الطاقة الخليجية ومصلحتها في فك التصعيد بالمنطقة بشكل دائم يجعلها على المسار الاستراتيجي نفسه مع الولايات المتحدة، على الرغم من التوترات التي تطبع العلاقة الثنائية بين البلدين.
ومن الضروري أيضاً إزالة مسألة اليمن عن قائمة المواضيع المطروحة للنقاش. إذ تشكل هذه البلاد منذ سنوات عديدة ساحة المعركة الرئيسية بين إيران والسعودية. وحيث أن الاستثمار الصغير الذي وضعته طهران في جماعة الحوثيين قد عاد بمكاسب هائلة، إلّا أن الصراع كان مدمراً بشكل رهيب بالنسبة لليمن وكارثياً على الأمن القومي السعودي وسمعة الرياض. وبما أن الحوثيين أنفسهم ليسوا موحدين حول مواصلة الحرب أو علاقتهم بإيران، فقد آن الأوان منذ وقت طويل لأن يتم اختبار مصالحهم المشتركة مع المملكة السعودية عبر الحدود. وتتمتع الرياض بمكانة فريدة تخوّلها فتح قناة التواصل هذه ولكنها بحاجة إلى انخراط سياسي جدي من قبل الولايات المتحدة لدعم الجهود المستمرة التي تقوم بها الأمم المتحدة لإنهاء الحرب. وحينذاك تستطيع واشنطن أن تطلب من بريطانيا وفرنسا وألمانيا والصين تحذير إيران بهدوء من الاضطلاع بدورٍ تخريبي مع الحوثيين عند انطلاق مساعي الوساطة الجادة.
وفي أعقاب هذه الخطوات، يجب على الولايات المتحدة أن تبدأ بعقد اجتماعات تقنية استطلاعية مع أعضاء آخرين في مجموعة الدول "الخمس زائد واحد" - أي بريطانيا والصين وفرنسا وروسيا وألمانيا، ولكن ليس إيران حالياً - لمناقشة شروط استنئاف المفاوضات النووية في النهاية. ومن شأن ذلك أن يبعث رسالة واضحة مفادها أن جهود الإدارة الأمريكية لا تزال منصبّة على العودة إلى طاولة المفاوضات. بالإضافة إلى ذلك، ستكون الاجتماعات السنوية لـ "البنك الدولي"/"صندوق النقد الدولي" المرتقبة الشهر المقبل في واشنطن فرصةً جيدة لتوجيه رسالة إلى عدد أكبر من المسؤولين الاقتصاديين حول الدور الذي ستلعبه العقوبات الأمريكية في هذه العملية، مما يوضح الصلة بين استعداد إيران للتراجع عن أعمالها القسرية في الخليج واستعداد واشنطن لبدء مناقشات مباشرة.
وفي هذه المرحلة الحاسمة، لا تنمّ الدبلوماسية عن الضعف بل تعتبر إقراراً بأن الولايات المتحدة تملك وسائل متعددة لتوجيه إيران وخصومها الإقليميين نحو حل مستدام. ومن شأن تعزيز قوة الردع الأمريكية، إلى جانب إجماع أوسع بين القوى العظمى حول كيفية التعامل دبوماسياً مع إيران، أن يبعث برسالةً قوية إلى العديد من الجماهير، وليس فقط في طهران. ويراقب الوكلاء الإيرانيون في العراق ولبنان وسوريا واليمن عن كثب ليروا كيف ترد واشنطن على الهجوم السافر على شريكها السعودي، ذلك الرد الذي من المرجّح أن يكون له تداعيات اقتصادية عالمية. كما يراقب شركاء آخرون للولايات المتحدة في المنطقة [ما قد يجري] أيضاً. ولكي تكون القيادة الأمريكية فعالة، لا يجب دعمها من خلال تهديدات غير واقعية، بل من خلال أعمال ومساعٍ دبلوماسية جماعية تكفّ يد طهران بشكل واضح لمنعها من ارتكاب المزيد من الأعمال المدمّرة، ولتحديد الطريق المؤدي إلى المفاوضات.
السفيرة باربارا ليف، هي زميلة أقدم في معهد واشنطن، وشغلت سابقاً العديد من المناصب البارزة في وزارة الخارجية الأمريكية، من بينها مديرة "مكتب الشؤون الإيرانية". تشارلز ثيبوت، هو دبلوماسي فرنسي وزميل زائر مقيم في المعهد. وقد شغل مناصب في سوريا والعراق وغيرهما.